لعلّهُ خير!

كثيرًا ما نواجه سيلًا من الأسئلة المعقّدة عن ماهيّة الله والوجود، خاصّةً من الأطفال الذّين لم تفقه قلوبهم بعد وحدانيّة الرّب. لكن ما استوقفني سؤال أحد الشبّان الذي واجه مرارة الحياة في مرض أمّه، حين تساءل مستغربًا: “ما دام الخالق رحمانًا رحيمًا ورؤوفًا بعباده وهو الخير المطلق وهو خالق كلّ شيء، إذًا لماذا يخلق المرض والجراثيم الّتي تفتِك بأجسامنا، وهو أيضًا من خلق الرّياح والعواصف وغيرها الكثير الكثير ممّا لا يُعدّ ولا يُحصى، فكيف بربٍّ رحيم رؤوف يخلق كلّ هذا الشّر في الوجود؟ فأين الرّحمة في مرضٍ ينهش جسد طفلٍ غضٍّ طري، أو أمٍّ تفانت أمام أولادها وعائلتها؟ ولماذا نرى كلّ هذا الشّر في العالم؟”.

حين تسمع هذا الكمّ من الأسئلة، لا بُدّ لك أن تتوقف متفكّرًا بالجواب، بل بكيفية الإجابة بطريقة سلِسة لتقنع بها السائل وتصل إلى الهدف المُراد من هذه التساؤلات التي قد تنبع بسبب القهر أو قلّة الإيمان والثقة بربّ العباد. والأمر الجميل أنّ قارئ القرآن يجد كل الإجابات عن هذه الأسئلة في آياته، ذلك الكتاب المُنزل المُعجَز. فتعال معي لأقصّ عليك النبأ لتشفي جماح تساؤلاتك تلك وتروي عطش حيرتك في مفهوم الخير والشر.

من منّا لم يسمع بقصّة نبيّ الله موسى (كليم الله) حين قطع البراري والقِفار ليلتقي الخضر ليتعلّم منه ما لا يعلم. سأرويها لك بشكلٍ مفصّل علّك تعود إلى رشدك الذي أكله غضبك وسخطك.  حين التقى موسى بالخضر، طلب منه هذا الأخير في طريق صحبتهما ألّا يسأله عن أيّ فعلٍ يقوم به لعدم درايته بالغاية منه، وكانت البداية إذ صعدا سفينةً لقومٍ صالحين، وبعد هنيهة قام الخضر بخرق السفينة، ثمّ بعدها التقى بمجموعةِ أطفال فأخذ طفلًا منهم وقتله، وكانت الخاتمة أنّه وحين كانا بحاجةٍ للمال لجلب الطّعام، أقام جدارًا يوشك على الوقوع دون أخذ أجر. لم يستطِع موسى صبرًا فقد ضاقَ ذرعًا من هذه الأفعال غير المفهومة، والّتي استفسر عنها في كلّ مرة فكانت الثالثة هي الأخيرة، عندها حدّثه الخضر بما لم يُحِط به خبرا. فأمّا السفينة فقد كانت لمساكين يعملون في البحر، وكان ملكٌ ظالم يسلب الناس سفنهم، فأراد أن يعيبها كي لا يستوليَ عليها الملك. وأمّا الطّفل فهو ابن رجلٍ وامرأةٍ مؤمنين، وقد علِم الله أنّه حين يكبر فسيكون كافرًا ويُرهق أهله، وأمّا الجدار فقد كان لولدين يتيمين ويوجد تحت الجدار كنزٌ لهما، فلو لم يُقِمْ الجدار لأتى أهل المدينة وسلباهما إيّاه.

فلو نظرنا إلى خرق السفينة فلا بُدّ أنّنا وأصحابها اعتبرنا الأمر شرًّا، لكن الله بلاهم بشرٍّ صغير (ثقف في السفينة) ليُنجيهم من الشرِّ الأكبر وهو خسارة السفينة مصدر رزقهم وعيشهم لصالح الملك. أمّا وجود الملك الظالم، فهو أنّ هذه الدُّنيا لن تكون امتحانًا ما لم يكن الناس أحرارًا في فعل الخير والشّر، فما لوجودنا من معنًى لو أنّنا مسيّرين في كلّ الأمور ، وما هذا العجز الذي نحن به، نعم الله خلقنا لكنه ترك الخيار لنا في أن نسلك طريق الخير أو الشّر. ففي نهاية المطاف هذه الدُّنيا هي اختبار. كما أنّه لا شكّ في أنّ والديّ الطفل قد حزنا حزنًا شديدًا لموت ابنهما، فإيماننا بالله لا ينزع عنّا إنسانيّتنا وبشريّتنا، فنحن بشر نحزن ونفرح ونبكي، لكن في المقابل علينا الرضى فيما اختاره الله لنا ليقيننا بأنّ الله سيعوّضنا خيرًا من جهة وتسليمًا لعلمه بما لا نعلم من جهة أخرى، وهذا هو الامتحان فإمّا أن نصبر ونؤجر وإمّا أن نجزع ونكفر، والويل كلّ الويل لمن رسب في هذا الامتحان، فقد قُتل الولد ليُبدلهما الله خيرًا منه. وأمّا فيما يخصّ الجدار، فنرى بأنّ الله تولّى برحمته الواسعة أمر هذين اليتيمين بعد وفاة والدهما، فأيّما رحمةٍ ورأفةٍ هذه، فهو أحنّ على المولود من أمّه.

– حسنًا فهمت، لكن ما علاقة الأمراض بهذه القصّة؟

الأمرُ سيّان، فنحن نعيش سنواتٍ طويلة ننعم فيها بالصّحة ونمرضُ أيّامًا، فلماذا حين نمرض “نسخط” على الله بأنّه السبب، ومَن قال أنّ هذا الشّر – المرض – هو شرٌّ مطلق، فلو نظرنا للأمر بتمعُّن لاكتشفنا أنّ وراءه خيرا. فالله وحده عالم الخفايا، المرض والموت والكوارث… كلّها بيد الله لعلمٍ نجهله.

– وما الخير في ذلك، لم أفهم بعد؟

حسنًا سأعطيك مثالًا بسيطًا، هلّا قلت لي ما هو اللّقاح؟ أوَليس اللّقاح جرعةً مخفّفةً من المرض، يُحقن بها الجسم كي يتعرّف بعدها جهاز المناعة على المرض ويحاربها فيما بعد بالرّغم من أنّها تسبّب نوعًا من المرض وارتفاعٍ في الحرارة.

وسأزيدك من الشِّعر بيتًا، هل سمعت بقصّة الملك ووزيره؟

– لا، هات ما عندك.

يُحكى أنّه كان لملكٍ وزيرٌ يردِّدُ دومًا عبارة “لعلّه خير” على أيّ أمرٍ يحدث، وكان هذا الملك يذهب دومًا إلى صيد الغزلان برفقة وزيره، وذات يوم وبينما كانا في الصّيد، انقطعت إصبع الملك، فما كان من الوزير إلّا أن يقول: “لعلّه خير “، فاشتاط الملك غضبًا منه، فأيّ خير هو ذا وقد انقطعت إصبعه، فأمر بزجّه في السجن، أيضًا ردّد عبارته المُعتادة: ” لعلّه خير”.

وبعد أيّام، ذهب الملك برفقة جنوده للصّيد كالعادة، إلّا أنّه طارد غزالًا وانفرد بعيدًا عنهم، والمفاجأة كانت أنّه وقع بين أيدي أُناسٍ غرباء من قبيلةٍ غريبة المنطق والمظهر، وبعد أن أحاطوه يريدون أخذه، عادوا وأخلوا سبيله.  علِم الوزير بما جرى، فقال:” لعلّه خير “، عندها طلب الملك إحضاره، وقال له: “أريد أن أعرف ما سرّ (لعلّه خير) تلك التي قلتها حتّى حين قطعت إصبعي، وأيضًا حين زججت بك في السجن”.

فكان جواب الوزير: “لو أنّ إصبعك لم تُقطع، لكنت الآن قربانًا لتك القبيلة تقدّمه لآلهتها لكنّها وجدت بجسدك عيبًا فتركتك، وأمّا حين أدخلتني السجن، فأنت تصحبني دومًا في رحلة الصّيد، فلو أنهم أمسكوا بنا لتركوك لتشوّه في يدك وأخذوني أنا قربانًا”، حينها هزّ الملك رأسه وقال: “نعم، لعلّه خير”.

لذا يا عزيزي، نحنُ نجهلُ الكثير عن الماضي وبعضًا من الحاضر، ونجهلُ جهلًا تامًّا عن المستقبل، فلماذا لا نترك الأمر لربّ الخير ذلك السيّد المُبرمِج المُدبّر المُبدع، ولندعُ الله أن يجعل العاقبة دومًا إلى خير.

زينب أمهز - كاتبة وباحثة من لبنان

زينب أمهز - كاتبة وباحثة من لبنان

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
مصطفى بيراف يواصل قيادة "الأكنوا" لعهدة جديدة حتى 2028 وزير السكن: "لا داعي للازدحام.. عملية التسجيل في عدل 3 ستظل مفتوحة" الدرك الوطني.. الإطاحة بسيدة تنتحل صفة طبيبة وتزور وصفات طبية بالعاصمة إحباط محاولة إغراق الجزائر بكميات ضخمة من المخدرات قادمة من المغرب الديوان الوطني للحج والعمرة:"اختيار رحلة الحج إلزامي ونهائي" اتصالات الجزائر تحصد شهادة دولية جديدة في مجال الجودة اجتماع هام حول صناعة مركبات شيري بالجزائر الجوية الجزائرية تُنبّه الحجاج "ليلة النصف من رمضان".. حين تمتزج الروحانية بتقاليد الجزائر العريقة الجامعة العربية تُنظّم مؤتمرًا دوليًا لمكافحة كراهية الإسلام مشروع قانون جديد لتنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص حماس تضع شروطها لإطلاق سراح محتجز أمريكي نحو استحداث 5 ثانويات جهوية متخصصة في الرياضيات بالجزائر الاتحاد الأفريقي يُحذّر من خطورة الوضع بإقليم تيغراي الإثيوبي "إسرائيل" تفرض ضوابط صارمة على عمل منظمات الإغاثة في فلسطين إدارة ترامب تدرس حظر السفر على دول عربية.. هل الجزائر من بينها؟ حريق يلتهم 7 حافلات بمؤسسة النقل الحضري “إيتوزا” بسوق أهراس تصاعد ظاهرة "الإسلاموفوبيا".. غوتيريش يطالب الحكومات بالتحرّك المكسيك تشيد بدور الجزائر الريادي في تعزيز السلم والأمن المجلس الوطني لحقوق الإنسان يدعو إلى تعزيز رعاية ودمج ذوي الاحتياجات الخاصة