البروفيسور أوليسيس ميهيا هو باحث متخصص في علوم الاتصال والتكنولوجيات الحديثة، وأحد أبرز الأسماء في دراسة الاقتصاد السياسي للمنصات الرقمية. يشغل منصب مؤسس المبادرة العالمية “من أجل تكنولوجيات غير منحازة”، ويُعرف بأبحاثه النقدية حول تأثير الشركات التكنولوجية الكبرى على المجتمعات والاقتصاد الرقمي.
الأيام نيوز: كانت قمة باريس الأخيرة حول الذكاء الاصطناعي ساحةً واضحة للانقسام المتزايد في العالم. تحت قيادة ترامب، تفضل الولايات المتحدة “أقل قيود لتحفيز الابتكار”، بينما تسعى أوروبا إلى فرض قواعد صارمة للسلامة والرقابة. كيف تقرأون هذا الصراع؟
أوليسيس ميهيا: هذه القمم ليست سوى عروض مسرحية لا تضيف شيئًا حقيقيًا، ويمكن الحكم عليها من خلال الأداء العام للسياسيين المشاركين فيها. بعضها مجرد أجندة أحادية الجانب تحددها القوى المهيمنة، فيما تحاول أخرى التظاهر بأنها مناقشات ديمقراطية تشمل قضايا مثل سلامة الذكاء الاصطناعي والأخلاقيات. لكن الهدف النهائي يظل ذاته: طمأنة القلة المستحكمة في الأدوات التكنولوجية بأن الحكومات مستعدة لتنفيذ أوامرها مقابل ثمن ما، بطبيعة الحال.
إذا نظرنا إلى الحرب العالمية الثانية كصراع عالمي للاستيلاء على الموارد الاستعمارية أو الدفاع عنها، فإننا اليوم نشهد صراعًا مماثلًا حول كيفية تقسيم “كعكة” الذكاء الاصطناعي. لم تعد المسألة تقتصر على الأرض أو الثروات الباطنية، بل امتدت إلى ما يُسمى بـ”النفط الجديد”: البيانات والمعطيات الشخصية. رغم أن الأرض المخصصة لمراكز البيانات والمعادن الضرورية للإلكترونيات لا تزال ذات أهمية كبيرة. في هذا السياق، تبدو النقاشات في أوروبا مختلفة ظاهريًا عن الولايات المتحدة والصين، حيث يتم الحديث عن بعض التنظيمات والسلامة. لكن حتى هناك، تكفي نظرة إلى قائمة الضيوف المدعوين لهذه القمم لمعرفة من يتم استبعاده: العمال، المعلمون، المهاجرون، والمعارضون… هذه القمم ليست إلا نادٍ مغلق للأقوياء والخبراء المزعومين، وبالتالي فهي عديمة الجدوى تمامًا.
الأيام نيوز: هناك سردية تروج لفكرة أن الذكاء الاصطناعي يعزز الإنتاجية والرخاء الاجتماعي، لكن هناك من يجادل بأنه يزيد من تفاقم التفاوتات الاقتصادية. أبحاثكم حول “استعمار البيانات” توفر إطارًا نظريًا مهمًا لتحليل قوة التكنولوجيا من منظور مناهض للاستعمار. هل يمكنكم توضيح ذلك أكثر؟
أوليسيس ميهيا: هناك العديد من الأدوات التي يتم جمعها تحت مسمى الذكاء الاصطناعي، وليست جميعها سيئة. بعض تطبيقات التعلم الآلي في مجالات العلوم والطب تُعتبر مفيدة إذا تم إتاحتها للجمهور. لكن ما يجب أن نرفضه بشكل قاطع هو “الذكاء الاصطناعي التوليدي”، أي استخدام الذكاء الاصطناعي لمحاولة تكرار النصوص والصور والموسيقى والرموز البرمجية المستمدة من بيانات المستخدمين. يجب علينا أيضًا رفض الفكرة الخادعة التي تروج لأن هذا النوع من الذكاء الاصطناعي هو بوابة لتحقيق “الذكاء الاصطناعي العام”، وهو تصور مبالغ فيه يفترض أن جميع المشاكل البشرية ستُحل عبر الأدوات الذكية.
لدينا سببان رئيسيان لرفض الذكاء الاصطناعي التوليدي. أولًا، هوفي جوهره شكل من أشكال السرقة المحوسبة، حيث يستولي على الجهود الإبداعية للبشر، مستهلكًا كميات هائلة من الطاقة في العملية. ثانيًا، هدفه الأساسي هو استبدال العمالة البشرية لتعظيم أرباح الشركات التكنولوجية. وهنا يأتي مفهوم “استعمار البيانات” الذي طورته مع زميلي نايك كولدري.
نحن نقول إن استعمار البيانات هو نظام ناشئ للاستيلاء اللامحدود على جميع جوانب الحياة البشرية من خلال البيانات، بهدف وحيد هو تعزيز سلطة الأقلية الأوليغارشية المسيطرة على القطاع التكنولوجي. عبر هذا المنظور، يصبح الذكاء الاصطناعي التوليدي مجرد آلة لاستخراج البيانات من المستخدمين، ثم استخدامها لاحقًا لاستبدالهم، مما يؤدي إلى زيادة أرباح الشركات العملاقة. والنتيجة الحتمية لهذا النموذج هو تحول البشر من مواطنين يتمتعون بحقوق إلى رعايا مستعمرين بلا أي حماية قانونية.
الأيام نيوز: قبل سنوات، قدمتم مع البروفيسور نايك كولدري مفهوم “استعمار البيانات” لوصف الاستعمار الرقمي الجديد. اليوم، يبدو أن شركات وادي السيليكون باتت تسيطر بشكل مفرط على قرارات الحكومات، لدرجة أنها قضت على أي مساحة للحرية…
أوليسيس ميهيا: كما نعلم جميعًا، في أي استعمار، هناك دائمًا مساحات للمقاومة. عندما لا يكون بالإمكان مقاومة الاستعمار بالجسد، يمكن مقاومته بالعقل، ولهذا يلعب الإبداع دورًا أساسيًا في الحركات المناهضة للاستعمار. صحيح أن قبضة الشركات التكنولوجية الكبرى على حياتنا تبدو مطلقة تقريبًا، لكنها ليست غير قابلة للكسر. نحن نرى كيف تشكل هذه الشركات تحالفات مقلقة مع حكومات اليمين المتطرف في العديد من البلدان، مما يمنحها مزيدًا من السلطة والنفوذ.
لكن علينا أن نتذكر أن الاستعمار والرأسمالية لا يقدمان سوى الهلاك والدمار. وفي النهاية، سترفض أغلبية شعوب العالم هذا الواقع المفروض. لذلك، يجب علينا الاستمرار في المقاومة، حتى في أحلك الأوقات. لأن العيش بكرامة هوفي حد ذاته مجهودٌ عظيم، وتحدٍ مستمر.
الأيام نيوز: كما هو معتاد في مثل هذه النقاشات حول المستقبل الرقمي، يظل الجنوب العالمي غائبًا تمامًا عما يقرره الشمال المهيمن. كيف السبيل لتحرير أنفسنا من هذا الاستعمار الرقمي؟
الاستعمار كان وحشيًا في السابق، وهذه حقيقة تاريخية، لكنه أيضًا خلق الظروف التي مكّنت المضطهدين من التحالف وتبادل تجاربهم في المقاومة. علينا اليوم أن نواصل هذا المشروع التحرري. فالأدوات التي تجعلنا خاضعين للاستعمار الرقمي يمكنها أيضًا أن تساعدنا على التحرر، أو على الأقل أن تقودنا إلى جزء من طريق الاستقلالية الرقمية.
قبل أن تصبح البنى التحررية الجديدة ممكنة، ما نحتاجه اليوم هو أشكال جديدة من عدم الانحياز، وأطر جديدة لرفض الهيمنة التي تفرضها الشركات الرقمية الكبرى في وادي السيليكون، وأيضًا تلك التي يروج لها الحزب الشيوعي الصيني. لهذا السبب، يحاول بعضنا – من الأكاديميين والناشطين في المجال الرقمي – إنشاء “حركة تكنولوجيا غير منحازة”، لمواصلة تقاليد المقاومة الراسخة التي ورثناها عن التاريخ الاستعماري السابق. ومع ذلك، لا ينبغي أن يكون هذا الأمر متروكًا للدول فحسب، بل يجب أن يكون للمجتمع المدني دور محوري في إسماع صوته، وخلق مساحات عالمية للتضامن والدعم في مواجهة هذا الاستعمار الرقمي الجديد.