على هامش المستطيل الأخضر.. ماذا تبقّى من شرف المنافسة الرياضية؟

“يخي قلنا لكم..”.. عبارة تهكّمية أطلقها بعض المعارضين للناخب الجزائري “جمال بلماضي”، غداة سقوطه في ساحل العاج، وخروجه من الدور الأول لمنافسة كأس الأمم الإفريقية، من منطلق أنّهم كانوا على حقّ وغيرهم على باطل، حتى وإن تعلّق الأمر بتخمين عابر بالصدفة أصاب الهدف. إلا أنّ هؤلاء وأولئك، وأمام غياب أدنى درجات التحلي بالروح الرياضية ولا بمنطق القيم “الأولمبية” على الأقل، من دون الإشارة إلى الأخلاق الاجتماعية، راحوا يوغرون في القدح المستفزّ ويسهبون في الانتقاد اللاذع، حتى تجاوزوا كل حدود الأعراف النبيلة وتقاليد الاحترام الواجب.

لا، ليس هكذا، أبدا ولا بهذا الأسلوب ولا بهذه الطرائق المختلّة يجوز التأنيب ويباح الأخذ والعتاب؛ فلا “بلماضي” كان قد قاد فيل “أبرهة الحبشي” لهدم الكعبة، ولا “محرز” كان قد احتطب لنار “النمرود”، ولا بقية فتيّته كانوا قد حفروا الأخدود.. إنها مجرّد رياضة تنافسية للمتعة والترفيه، قد ينتصر فيها اليوم من كان بالأمس منهزما، وقد يهزم فيها من كان بالأمس منتصرا.. وهكذا هو هرم الإنجاز ودورة الحياة؛ نشأة فقفزة فارتقاء فقمّة فثبات.. ونواميس الكون أنّ الثبات على القمة أمر مستحيل الحصول إلا لبرهة أو لزمن يسير.

صحيح بأنّ الجميع كان ينتظر فوز الفريق الوطني وعودته متوّجا بكأس الأمم، فترتفع راية البلد عاليا وترفرف راية فلسطين، فليس في الأرض من يحتفي بعلم الجبارين أكرم وأعز وأخلص من الجزائريين، وتعمّ الأفراح والليالي الملاح وتغمر صدور الشعب والشباب وجميع الأنصار في كل مكان.. ولكن اجتهد الفريق ولم يصب، “فخيرها في غيرها” كما يقال، وهذا هو منطق الرياضة وسنّة الحياة، حيث كان ولا زال الناس يتعلمون من زلات العمر وأخطاء الدهر وسقطات الأيام.

سيكتب التاريخ بأنّ الناخب الوطني “جمال بلماضي” وفتيته كانوا قد اجتهدوا مرّة وأصابوا، ثم اجتهدوا ثانية وخابوا.. وفي كلتا الحالتين كانوا هم الأعلون الشرفاء الذين تمكّنوا من إضاءة نجم ثانٍ على صدر المجد الوطني، بعد ليل طويل من مسار الخيبات والنكسات، وأفرحوا قلوبا طالما كفنها الشكّ والحرمان. وأما المنتقدون بخلفيات تهكّمية ومرامي ازدرائية، فلن يسمع بهم أحد بعد اليوم، لا لشيء إلا لأنهم مثل الزبد الذي يذهب جفاء فلا ينتفع منه أحد، أو كطفيليات لا تقتات إلا من عفن الكلام وسوء الملام، ثم مصيرهم إلى مزبلة التاريخ حيث يكون سوء المآل وشر المقام.

إنه ليس باللسان الشامت ولا بالانتقاد الماقت، تُصحّح الأخطاء وتُرمّم المفاسد، وإنما بالعقل والرَّوية والخطاب الحكيم الرزين الذي يفهم الأشياء وما وراء الأشياء، فيحلّل ويمحص ويدقّق، قبل وضع الأصبع على الجرح وإصدار الأحكام واتخاذ المواقف.. كل ذلك حتى يكون للكلمة معنى وللحديث مقصدا وللانتقاد بعدا، من أجل البناء لا الهدم، من أجل السمو والارتقاء لا الخضوع والانكفاء.

الغريب في القضية، أنّ تطابقا مُخَيِّبًا، حتى لا نقول تآمريا، كان قد حدث بين رُؤَى بعض الإعلاميين هنا، مع رُؤًى لبعض من هم هناك خلف الحدود الغربية للبلد، ممن لا يحملون للجزائر ودّا ولا عرفانا، في حملة إعلامية مقرفة بلغت حد تصوير بعض المغيبة عقولهم، وهم يحتفلون فرحا بخروج “بلماضي” وفتيته من المنافسة الإفريقية، رغم أنه لا ناقة لهم في الأمر ولا جمل، حيث شحذوا سيوف الشماتة وخرجوا متظاهرين في الشوارع احتفاء بإخفاق الجزائر، في ظاهرة فريدة لا تصدر إلا عن شذّاذ هُمَّلٍ أحرق الحقد قلوبهم وأعمى الغلّ بصائرهم، وتركهم كأعجاز نخل خاوية فقدت ماءها وحياءها، أو كعصف مأكول في ليلة ظلماء فقدت صبحها وأصيلها.

إلى جنوب إفريقيا ودرس الجدّ والاجتهاد، ومثال المثابرة والعناد؛ أكثر العرب بياضا، وأصدق الأفارقة سمرة، وأشرف الأحرار موقفا.. ذلك أنّه ومباشرة بعد عودة الفريق القانوني من “لاهاي”، ومرافعته التاريخية أمام محكمة الجنايات الدولية، في معركة قضائية شرسة ضد الكيان الصهيوني، من أجل توقيف الحرب والقتل والدمار في غزّة وفلسطين.. أقول؛ مباشرة بعد ذلك دخل الفريق الكروي معترك المنافسة الرياضية في دورة كأس أمم إفريقيا بـ”ساحل العاج”، والذي رغم البداية المتعثّرة إلا أنّه استطاع استعادة توازنه بسرعة مثالية، ليتمكّن من المرور إلى الدور التالي بكل جدارة ونزاهة واستحقاق.

فكانت المباراة التالية ضد منتخب المغرب، بكل ما يحمله المشهد من تداعيات وقراءات وتأويلات، زادها شحناء تصريح الناخب المغربي الذي قال بأنّ فريقه لا يمثّل العرب وإنما يمثل المغرب فقط، في إشارة ضمنية إلى نفض يديه مسبقا من الراية الفلسطينية المحتمل رفعها في حال فوز فريقه من قبل المناصرين العرب. المفارقة العجيبة أنّ الجمهور العربي قد وجد نفسه أمام فريقين؛ أحدهما عربي بالاسم والانتماء، والآخر عربي بالقلب والوجدان.. أحدهما يمثل مملكة باعت ذمّة العروبة للصهاينة بكل خساسة ومكر ونذالة، والآخر يمثّل جمهورية اشترت شرف العروبة بكل شجاعة وعزّة وكرامة.. أحدهما يمثّل نظام الخيانة العربية في أبشع صورها، والآخر يمثّل دولة الفضيلة الإنسانية في أبهى مواقفها.

وعليه، وجب التوجّه بالشكر الجزيل لجمهورية إفريقيا الجنوبية؛ أولا، على تأديبها للصهاينة في لاهاي، وعلى طردها سفير كيانهم الإرهابي من بريتوريا، نصرة لغزة ولفلسطين، لتحوز بذلك شرف سيادة العرب بكل فخر واستحقاق. وأما ثانيا، فعلى تأديب فريقها لفريق المخزن ذيل الكيان الصهيوني في المغرب العربي وظلّه في إفريقيا، وهزيمته شرّ هزيمة كسرا لشوكة الهرولة والتطبيع، وتطهيرا للرياضة من هيمنة الحشيش والغشّ والقنب والرشوة والمكر والخداع.

نظرياً، تحرص قوانين الاتحاد الدولي لكرة القدم على فصل الرياضة عن السياسة والدين، وتعمل على محاربة كل مظاهر العنصرية والكراهية والتعصّب في الملاعب وفي القاعات وفي كل الفضاءات ذات الصلة، وذلك بتشريع نصوص ردعية لتسليط عقوبات متفاوتة بحسب جسامة الضرر، ضدّ أي فريق أو لاعب أو مسؤول رياضي، تمّ رصده في حالة تلبّس بارتكاب تجاوز منهي عنه. لكن عمليا، تبقى الرشوة والتآمر وبيع الذمم والمحاباة، سلوكيات مشينة ومضرّة بنزاهة التنافس الشريف، من الصعب تحييدها ومعالجتها، لأنها تعني الضمير والأخلاق والسلطة التقديرية للحكم، وهي الثغرة التي تدخل منها الاعتبارات والمعايير غير الرياضية في تقرير مصير المنتخبات والفرق، كما حصل مع المنتخب الجزائري الذي لا يزال يدفع من مسيرته الرياضية ثمن الزلات التحكيمية الفادحة من جهة، ومن جهة أخرى ثمن المواقف العادلة الثابتة للدولة الجزائرية، حيال الملفات والقضايا الإقليمية، القارية والدولية.

ولذلك، بات من الواجب “الوطني” على كل إعلامي مسؤول، أن يلكأ كل لفظة يتفوّه بها، ويزن كل كلمة يكتبها، ويمحّص كل معلومة ينقلها، حتى لا يقع في زلل التشهير وسوء التقدير، فيجد نفسه كمن يقدّم لخصوم الجزائر – وما أكثرهم – خدمات مجانية للتّجني والتحامل أكثر على صورة البلد؛ ارتقوا، فإن القاع ازدحم.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا