حول جدوى الأدب في دعم فلسطين.. أدباءٌ وشعراءٌ عربٌ لـ “الأيام نيوز”: فلسطين قِبْلةُ الإنسانيَّة و”إكْسِيرُ” حياةِ الضَّمير العالمي

رافَقَ الأدبُ العربي القضيّةَ الفلسطينية منذ بدايتها في عام النكبة 1948، وظلَّ مُرافِقًا لها شِعْريًّا وقَصَصِيًّا وروائيًّا.. ويندُرُ أن نجد أديبًا عربيًّا لم يكتب عن فلسطين لا سيما في حقْل الشِّعر. ذلك أنَّ فلسطين هي بوصلةُ روح الإنسان العربيِّ الأصيل، بكل ما فيها من دلالاتٍ دينيَّةٍ وتاريخيَّة وحضاريَّة، فـ “القُدسُ” كانتْ مُلتقى الأنبياء والرِّسالات السماوية.. وستبقى قِبْلةَ الإنسانيَّة و”مركز” ضمِيرها الذي يَتَناوم أو يَتَماوتُ أحْيانًا، فتوقِظُه “القُدسُ” على “تراتيل” الأحزان والآلام التي تَصَّاعدُ من قلْب الفلسطيني كلَّما أعلنتْ القوى الشيطانيَّة، التي يتصدُّرها الكيانُ الصهيوني، الموتَ على فلسطين.. غيْرَ أنَّ فلسطين لا تموتُ، لأنَّ موتَها يعني موت الإنسانية جمعاء والضَّمير العالمي بكلِّ ألوانه أجْناسه..

تُواصِلُ آلةُ الموت الصهيونيَّة، مدعومةً من قوى الشَّرِّ العالميَّة، الحربَ المُدمِّرةَ على فلسطين ومُركِّزةً على “غزَّة”.. تواصلُ آلةُ الموتِ ممارسةَ كلّ “فنون” الإجرام والتَّوحُّش والطُّغيان والتَّجبُّر، بهدف اجتثاث الإنسان الفلسطيني من أرضه، وهو أمرٌ يؤكِّدُ على رهْبة وخشْيةِ الكيان الصهيوني من “حقيقة” مُستقبل وجوده الذي دخَلَ مرحلةً أخرى في “بداية النهاية” للزَّوال الحتمي لهذا الكيان، وانتصار فلسطين الذي لا ريب فيه..

تقِفُ الشعوب العربيَّة على قارعة الآلام والأوجاع مُشرِعةً سيوفَ الدعاءِ والتَّضرُّع بقلوبٍ خاشعةٍ من أجل نُصرة فلسطين، ويقفُ الأدباء والشعراء العرب على جبهات الكلمة مُشهرِين خيالاتهم وأفكارهم ومعانيهم من أجل أن تبقى الوحدة الوجدانيَّة العربيَّة على قيْد اليقظةِ.. فلم يعد هناك مِنْ قضايا تُوحِّدُ الأمَّة العربية سوى فلسطينُ. وقد توجَّهتْ جريدة “الأيّام نيوز” إلى أدباءٍ وشعراء عرَبٍ حول جدوى الأدب في نُصرة فلسطين ومجابهة الكيان الصهيوني، فكانت هذه الورقات…

 

عبد الرزاق بلعقروز
الدكتور عبد الرزاق بلعقروز (كاتب وأكاديمي من الجزائر)

 

هل أثَّر “طوفان الأقصى” في عالم القِيَم المُقاوِمة.. القيام.. القيمة؟

ليس الغرض من هذا الالتفات اللّغوي، مجرّد التّشقيق في الكلمات، لأنَّ اللغة في روحها ليست من أجل وصف الأشياء فقط، بل إنّ مقاصدها الأساسية؛ تغيير العالم من حولنا وبناء واقع آخر يكون ملائمًا لمعاني الحياة وأنساق الفعل؛ وبالتّالي فاللغة هي مَسْكن الوجود ومنبع البناء في الفكر، كما أنّها أداة استراتيجية في التغيير والتَّثوير، ولأجل هذا، جاء هذا العنوان الذي يتبنىَّ العلاقة المنظوميَّة بين مفاهيم ثلاثة هي: المقاومة والقيام القيمة، في ضوء ما يحدث على مرائينا ومسامعنا، من إرادة مقاومة الاحتلال والرغبة في التحرّر والعيش بكرامة وأمان.

إنّ “طوفان الأقصى” يعبّر عن فعل نوعي ومُتحقّق بأقصى شروط الفعل الذي لا ينحصر فقط في تلبية المطالب البيولوجية أو الصِّناعية، إنّما يرتقي إلى المطالب الرُّوحية الكبرى والقرارات التّاريخية الاستثنائية. لقد ميّزت الفيلسوف الألمانية “حنا أرندت” بين ثلاث مراتب للعمل: الشُّغل والصُّنع والفعل، فإذا كان الشُّغل من أجل تلبية دائرة الحاجات البيولوجية والاستهلاكية، والصّنع من أجل الارتقاء بالحياة الاجتماعية بطريق الصّناعات الاستعمالية التي تُسَهّل حياة الإنسان أكثر، فإنَّ ميزة الفعلِ التَّواجدُ في دائرة السياسة، فالفعل السياسي لا تتعيَّن علاقته بين الإنسان والأشياء شْغْلًا أو صُنْعًا؛ وإنَّما بين الإنسان والإنسان؛ ففيه تنكشف حقيقة الذَّات أمام الآخرين بواسطة الخطاب وفي الفضاء العام، وهذا هو المعنى الحاسم في رسم معالم الفعل، إنَه يُكْسِبُ الذَّاتَ الفاعلة معنى الخلود في الذّاكرة الجماعية للشُّعوب.

وهكذا، فإنَّ المعنى الأصيل للفعل، يَسْكُن الخطابَ والفضاء العام من أجل التَّأثير في الآخرين، ما يسمِّيه “مارتن هيدجر” بالفعل الأصيل، وقد كان “هيدجر” وتلميذته “حنا أرندت”، قد وجَّها نقدهما للمقالة الماركسية التي عظّمتْ من الشُّغل واختزلت جُلَّ الفعاليات الإنسانية فيه، بينما المعنى الأصيل للفعل – حسبهما – هو ذلك الذي يسكنُ في اللغة، واللغة التي تكشف الذّات أمام الآخرين في الفضاء السياسي العام، وكأننا هنا أمام ذلك الإقرار الهيجلي “نسبة إلى هيجل”، من أنَّ الدّخول إلى التّاريخ مشروطٌ بالدّولة.

إنّنا نبتغي من هذه الإلْماعة التَّقدِيمةِ، أن نصْرف القولَ، ونترقَّى في البيان قليلًا، من أنّ “طوفان الأقصى”، يُعبّر عن فعل نوعي أصيل، يعكس رغبة الإنسان الفلسطيني في كسر حلقة الاحتلال والظُّلم والاستعباد، “فالقبول بحتمية ما يحدث هو أعظم إسهام وعون نقدّمه للقوى المهيمنة في الحرب غير المتكافئة التي يشنُّونها على عبيد الأرض”، كما يقول “باولو فيريري”. ذلك أنّ الحياة الإنسانية ليست هي الكُتل المادية، الكتلة الأقوى تتحكّم في الأضعف، وإنَّما في عالم الإنسان هناك الإرادةُ والحرية التي لن تقبل بحتميَّةِ ما يحدث ولو بقي في الإنسان عِرْقٌ ينبض أو روح تتنفَّس. من هنا، كان “طوفان الأقصى”، الذي عبّر عن حركة تجديدية في القيم الإنسانية بصورة لا سابق لها، وبيان ذلك كالتالي:

أولًا، أنّه عدّل من الواقع الخارجي: من سِمَات القِيَم أنَّها لا تنحصر فيما هو واقع، بل إنَّها دوْمًا حركةٌ رافعة وحافزة لما ينبغي أن يكون، وهذا سرّها الذي تدفع به الإنسان دومًا إلى الفعل والتغيير والبناء والتَّجديد. إنّ المقاومة الفلسطينية عدَّلتْ من الواقع الخارجي، تعديلًا بات الاحتلال بموجبه في صورة كيانٍ يستمدُّ قوته من رمزيَّته التَّاريخية وإمكاناته التَّسليحية، فضلًا عن وِجْدانه في التطبيع مشروعيَّة خفيَّة فتوهَّمَ أنَّه الأقوى، وبالتَّالي، سارع المُطبِّع إلى الاحتماء به، وهذا التَّطبيع أوْهَم الكثير، أنّ الاحتلال هو الأقوى والمُطبِّع يكسب جزءًا من هذه القوة، بخاصة وأنّ المسارعين إلى التطبيع هم ممن تربطهم مشاكل استراتيجية مع غيرهم، إما في الجوار وإما في التحديات الإقليمية. وهكذا، فإنَّ المقاومة عدّلتْ من قيمة الكيان كما كان في المُتخيّل السَّائد، من قوة لا رادَّ لها، إلى هشاشة وقابلية للانتصار عليه من جديد.

ثانيًا، أنّه صنع ذواتًا أخرى: من مظاهر التّجديد القِيَمي هو تلك الذَّوات الفلسطينية المقاومة التي تنجِزُ فعْل التحرّر في الواقع وتكتب به تاريخها الخاص، فهي ذواتٌ بخلاف السَّائد، نفوس منهزمة وباحثة عن المتعة والعيش بأمان في دول العالم، لقد أصبح الشَّتات الذي من المفروض أن يكون ظاهرة يهودية، ظاهرة فلسطينية، لكنَّ فعل المقاومة أعاد من جديد أهمية صناعة الذَّات، بالتربية والقوة الروحية والشُّعور الأسْنى بطاقة المقاومة، إنّه تجديدٌ نوعيٌّ وإرادة جديدة في إدارة الصِّراع مع الكيان، وتَنْمية للٌقدُرات المعرفية والروحية هي المستندات الحقيقة لإرادة التحرّر وكسر حلقة الاستعمار الوحشي في صورته الصهيونية. لقد حقق “طوفان الأقصى” صناعة الذات ليس في فلسطين وحدها، وإنّما في كل أجزاء المعمورة من شعوب ترغب في صناعة ذواتها بعزْل عن إرادة المُهيْمِن.

ثالثًا، أنّه قرّب الناس فيما بينهم: مرَّت حقبةٌ زمنية في الواقعَين العربي والإنساني المعاصرَين، امتازتْ بالصَّمت واللَّامبالاة، فحدثتْ مشكلات هنا وهناك، وكانت الحلول إمَّا داخلية وإمَّا شاكيةٌ إلى المجالس الدولية، لكن “طوفان الأقصى” كحركة تجديدية قد قرَّبَ الناس من جديد، وشعرتْ الإنسانية في الواقع العربي والعالمي بالمسؤولية لأجل الدفاع عن المظلومين في الأرض، وخروج المُناهَضات العالمية تنديدًا بأفعال الجيش الصهيوني الذي عجز عن التصدي للمقاومة، ولم يجد إلاَّ المستشفيات الملآنة بالأطفال والنساء كي يتوهَّم انتصاره، إنَّ تدمير المستشفيات والقصف العشوائي على مظلومي الأرض، هو علامةٌ على فقدان الرؤية وعلى رسم خطة استراتيجية في التصدي لإرادة التحرّر الفلسطينية، فالأقوى عبر التاريخ أبدًا ما كان الأطفال أعداءَه، الهمجي وحده من يقتل الأطفالَ والنساءَ ويعجز عن الإحاطة بالمقاومة أو تفكيكها أو اغتيال قاداتها كما كان يفعل سابقًا. إنّ “طوفان الأقصى” قد قرَّب بين الناس، ووجّههم نحو قيمة الإنسان والتصدي للوحشية الجديدة في شكلها “الإسرائيلي”. ومعنى التقريب بين الناس هنا، ليس مسألة سياسية كالاجتماعات في الهيئات الرسمية، وإنَّما المقربة الروحية الإنسانية التي تقعُ خارج دائرة الهيئات الرسمية.

رابعًا، أنّه أثْرى عالم القِيَم: لاشكّ أنّ فعْل المقاومة الذي هو أمامنا، قد أثرى عالم القِيَم فعلًا، وأخْرجها من سكونها المثالي إلى حركتها في الواقع والتَّاريخ، فالمقاومة تعني القيام المسنود بقِيَم، بمعنى أنّ القيام هو الصورة التي تظهر بها المقاومة، أمَّا القُعود فلا يعبّر عن حركة أو فعل، والقيم هي المعاني الهادية والسَّامية التي تحفّزُ الإنسانَ من أجل أن يفعل ويكابد ويتقوَّى بها دومًا، من هنا، فإنّ ثمّة منظومة مترابطة ومتكاملة، تتجلَّى في التَّاريخ وفي الواقع، وهكذا، كان لـ”طوفان الأقصى” بهذه المبادأة والمبادرة: الفعل الأصيل والنوعي، فإلى حدٍّ قريب، كِدْنا ننسى قِيَم: التحرّر ورفع الظلم وقيمة الإنسان والكرامة والحق في الأرض والوجود من أجل المعنى، وضمرتْ مسألة الأقصى في قلوب الإنسانية، لكنّ فعْل المقاومة قد أثرى من جديد عالم القيم الإنسانية المَنْسية، وأوقد شعلتها فكانت عاملًا مُهمًا، لأجل تذكّر الأقصى، الرمز الديني الذي يجمع ولا يشتِّت، ويوحّد ولا يفرّق، ويذكّر المنتمين إلى الأديان بأنَّ وجودهم من أجل شيء رفيع وجليل وليس من أجل القبول بالظلم “الإسرائيلي” على المسيحيين والمسلمين على حد سواء.

لنقل إذًا، بأنّ حركة المقاومة قد استعادت الروحَ الإيجابية لأجل التحرّر والحياة بكرامة وأثْرت عالمَ القيم الإنسانية، وعدّلتْ من الواقع الخارجي، وقرّبت العلاقة بين النّاس، وأبانت عن ضعف هذا الكيان الذي يتقوَّى به غيره من المُطبّعين والطَّالبين للخنوع بين يديه، وهكذا، فإنَّ فعل المقاومة هو شكلٌ من أشكال الفعل القيمي التّجديدي، وإذا كان الكيان الظالم لا يزال يقتل ويعتدي بصورة عشوائية ولم يقدر على تفكيك المقاومة، فهذه علامة من علامات النهاية، وبهذه الطريقة كانت علاقة فرنسا الاستعمارية مع الجزائر، فلمَّا عجزت عن القضاء على الثورة وهزمَها الثوارُ الجزائريين، لم تجد إلَّا المدنيين، كي تُفرغ فيهم عطشَها الإجرامي، فما كان من الثورة إلاَّ أنّها تقوّْتْ واستطاعت أن تهزم الاستعمار الفرنسي، والأمرُ عينه سيسري على الفلسطينيين في قيامهم ضد الاحتلال الوحشي.

 

نوال أمومة
نوال أمومة (باحثة في علم التعلم وعلم التفسير وعلم الأعصاب من سوريا)

كلماتٌ من أجل غزَّة.. طُوفانك أيقظَنا

منذ الأزل، لغتنا العربية كانت ولا زالت بفصاحتها وأدائها وأسلوبها وبلاغتها، ناهيك عن تنوع مفرداتها التي مكَّنت عُشَّاق اللغة من استخدام مهاراتهم الأدبية في بثِّ روح القتال في أوقات الحرب وفي أوقات السلم. ليس هذا فحسب، فهي لغة القرآن الكريم التي انتبه إليها بعضُ الشعراء وأخذوا كلمات زادت من جمال أبياتهم الشعرية مثل “إسماعيل صبري” الذي كانوا يسمُّونه “شيخ القضاة”، حيث تنبَّه “صبري” إلى كلمة “خليل” في القرآن، حيث يقول وهو يتحدث عن صديقه: ولمَّا التقينا قَرَّبَ الشوقُ جَهْدَهُ (على آخر طاقة الشوق) يعني أقصى جهدٍ للشوق

ولمَّا التقينا قَرَّبَ الشوقُ جَهْدَهُ

خليلين ذابا لوعةً وعتابَا

كأنَّ خليلاً في خلال خليله

تسرَّب أثناء العناقِ وغابا

طبعًا الكلام مفهوم جدا، وكم هو ساحر هذا الكلام، لقد صوَّر المسألة تصويرًا يدلُّ على كل المعاني السامية.

وعن فلسطين، كَتَب الشُّعراء وتغنّوا بها، وكان لأشعارهم دورٌ في شحْذِ هِمَم الرجال الأبطال ودفْعهم إلى مواصلة النضال، وأنا كوني باحثة وأبحثُ كثيرًا في القرآن الكريم لأبيَّن إلى العالم مدى دقة واتساق وقوة كلام الله العظيم، كما وأعملُ جاهدةً على فضح خُلُق اليهود وقصصهم مع سيدنا موسى عليه السلام والتي تجاوزت السبعين موضعًا في القرآن، وجدلهم وكذبهم وتحايلهم وعنادهم وغباءهم، كتبتُ بعض الكلمات التي شعرتُ ولي شرف تقديمها اليوم..

ونصغر أمامك بحق فلسطين يا بلد العجب

أراك تطحنين الصعب بجنون، توثقيه للعرب

يبكي رجالنا الشرفاء عن بُعد والنساء تنتحب

أطفالنا يعيشون عظمة تاريخك اليومَ عن كثب

شابتْ كل البلاد، كلها وبقيتِ صبيَّةً بلا سبب

بلاد ٌ جنَّت!  ظنت!!  تطورت والباقي في حرب

وذابت الكرامة، كرامتنا!  ونِمْنا من شدة التعب

فجاء طوفانك..  أيقظَنا، هزَّنا، وأرعب الغرب

قولي لي يا قارة متى تفتحي مدارس لسكان العرب

ليتعلموا على مقاعدك العتِيَّة ما فاتهم من الشعر والأدب

 

 

المرتضى محمد أشفاق
المرتضى محمد أشفاق (كاتب وشاعر من موريتانيا)

رِسالةٌ من مُجـاهـِدٍ في غَـزَّة

 

إنِّي وقفتُ بِتَلَّةِ الأشـْلاءِ

مُتفرِّدًا في ليلةٍ ظَلْماءِ

أتّحسَّسُ الأشـْلاءَ فيها كيْ أرَى

ما خلَّفَتْ وحْشِـيَّةُ الأعداءِ

وجَمَعْتُ منها كُتْلةً ونثرْتُهَا

تتلاصقُ الأعْضاءُ بالأعضاءِ

وبحثْتُ عن جاري وسائقِ حَيِّنَا

وطَبِيبِنا ومُداوِمِ الإطفاءِ

وبحثْتُ عن أطفالِ حارَتِنا وهُمْ

يَلْهون بالألعابِ كلَّ مساءِ

فرأيتُ فيها وجْهَ أمِّي باسِمًا

ورأيتُ رأسَ أبِي مِنَ الأشْـلاءِ

ورأيتُ عَمِّي بَطْنُه مَبْقـورَةً

ونَزِيف قِطَّةِ خالِنَا البيضاءِ

ورأيتُ خبَّازَ المَحَلِّ مُمَزَّقًا

والخُبْزُ يَسْبَحُ في بِحارِ دِماءِ

ورأيتُ أعْضاءَ الصِّغارِ كَحَفْنَةٍ

من طُوبِ مَسْجدِنا بدون غِطاءِ

ورأيتُ مَهْدًا لاَصِقًا بِوَلِيدِه

ورأيتُ خَدَّ رَضِيعَةٍ سَمْراءِ

وعَصَا الإمامِ وجَدْتُها مَكْسورةً

ورأيتُ جَرَّةَ أحمدَ السَّقَّاءِ

ووَجَدْتُ سِبْحَةَ جدَّتِي وخِمارَها

ورأيتُ نَعْلَ خديجةِ العَرْجاءِ

ووَجَدْتُنِي لمَّا نَهَضْتُ مُوَلِّيًا

مُتَجَمِّدًا أمْشِي على أبْنَائِي

 

 

كوكب البدري
الدكتورة كوكب البدري (أكاديميَّة وشاعرة من العراق)

أرْفُض كتابةَ المَراثِي..

“للقلم والبندقيّة فوهة واحدة”، آمنت بهذه العبارة منذ الصّغر فهي اختصار لموقف الأديب الملتزم والشّاعر الملتزم تجاه قضايا أمّته المصيريّة. فقد حفل التّاريخ العربي بالعديد من الشّعراء الفرسان الذين يمزجون بطولاتهم بالشّعر، والعديد من شاعرات المُوّثبات اللاَّتي كُنّ يبعثن الحميّة في مقاتلي قبيلتهن، حتى كان الشّعر، وخصوصًا الموثّباتُ، من مقوِّمات العدّة النّفسية الحربيّة التي يأخذ بها المقاتلون لملاقاة أعدائهم أو خصومهم. فهذه “صَفِيَّة الشَّيْبانيَّة” تقف في اليوم الرّابع من معركة “ذي قار” وقد جمعتْ الفوارس من قومها حول أخيها ورأَّستُه عليهم، وقالت تبثُّ فيهم الحماسة:

يا عمرو يا من قد أجار الحُرَقَة — يا رأس شيبان الكماة المُعرقَه

يا فارس العادية المُحقَّقة — اليوم يوم ما العيون أرقة

واستمرَّتْ تحمِّسهم بهذه الموثّبات حتى تَحقَّقَ نصْرُ العرب على الفُرْس.

أمّا في العصر الحديث وبعد أنْ تكالبتْ أممُ الدّنيا على أمَّتنا، وكلّ أمّة تبتغي فناء أمّتنا شعبًا وفكرًا، فقد تصدّى الأدبُ الملتزم إلى هذه المحاولات المسعورة المنظمّة، فظهرَ أدبُ المقاومة الفلسطينيّة الذي غرس مفاهيم القضية ومبادئها جيلاً بعد جيل من الأدباء الملتزمين، فكانت قصائدهم هي الشّعلة والجذوة التي قادت بوصلة سفينة ما أكتبُ نحو الشّعر، حتى أنّي ذكرتُ في أحد الحوارات بأنَّ مشهد إستشهاد الطّفل الفلسطيني “محمد الدرّة” كان وما يزال الجمرة التي أشعلتْ حروفي بالمقاومة ودعم المقاومة بكل ما أوتِيَتْ حروفي من عزم وبأس حتّى وإنْ تعرضتُ للوم في هذه الأيام لأنني أرفض كتابة المَراثي وأصرّ على كتابة الموثّبات وأعيد سيرتها الأولى بكل ما تحتوي على فخر ومدح وشدّ همّة وعزيمة. ومِن قصائدي “مُعلقة غزَّة” التي أقولُ فيها:

كتَبْنا في زحامِ الموت نشدو

بأنَّ رماحَنا للصّبرِ حدُّ

وإنَّ الحقّ إنْ غصبوا حِماهُ

فإنَّ له رجالًا تسْترِدُّ

وإنَّ الفجرَ موعدُنا فمُدُّوا

ركائبنا بياتًا واستعدّوا

ولا تهنوا إذا صُبّتْ علينا

مَجامرُهم، فأجْرُ الجمْرِ برْدُ

ولا تهِنوا، فليس القَرحُ يشْفَى

إذا لم يعضُد البنيانَ عَضدُ

فإنَّ الله يشهدُ ما سَعَيْنا

وسعيُّ النّصرِ أفواجٌ وجُندُ

فقد نكبوا ديارَ العزّ ليلًا

وصار الليلُ يشكو ما أعَدُّوا

وجاء الكفرُ مسعورًا ويسْعى

تؤازره.. خياناتٌ وحِقدُ

ليهْدم من عزيمتنَا جدارًا

وعزْمُ الحرّ باقٍ لا يُهَدُّ

ليفرغ من فؤاد الأمِّ صبرًا

فأبْدتْ صبرَها والصّبرُ يبدو

وجِيء بغزَّة الثّكلى قميصًا

صَدوقَ الدّم يُغضِبُ مَنْ يَوِدُّ

وأطفالٌ كَوَردِ الحقل؛ هَلُّوا

توابيتا؛ إلى الرحمن رُدُّوا

فبيْن قذائف الشّيطان غابوا

ينادون الجنودَ فلم يردّوا

فَصُفّوا في دماء المهْد، حتّى

كأنَّ مدامع الآباءِ مهْدُ

وجُلُّ العُرب قد هانوا وخانوا

وشامِتُهم مخذولٌ ووغْدُ

تَراهم في سرابيلٍ سُكارى

يلقنّهم صدى الأغلالِ عبْدُ

ولولا ما زرعْنا في الحَنايا

وأنَّ جدودنا سيفٌ وسَعْدُ

(وآمنّا بأنّ النّصر وعدُ

ووعدُ الله لا يمحوه وعدُ)

لَتُهْنا في أكاذيب تُعَدُّ

يُفَنّدُها مُقاوِمُنا الأشَدُّ

 

ليلاس زرزور
ليلاس زرزور (شاعرة من سوريا)

إضاءةٌ حول أدب المقاومة

منذ بدْء الخليقة تولَّدتْ المقاومةُ مع الإنسان لكل ما يشعر به أنَّهُ خطرٌ عليهِ سواءٌ من أفراد أو جماعات في محيطهِ الاجتماعي أو حتى الظَّواهر الطبيعية.

لقد استخدم الإنسانُ اللغةَ في المواجهات كعنصرٍ مُؤثِّرٍ في الدفاع عن نفسه أو قبيلته، وتحوَّلتْ -اللغة- شيئًا فشيئًا إلى شعر ومقالات وخطابة وغير ذلك.  فأدبُ المقاومة هو استخدم اللغة كمنصَّةٍ للدفاع عن النفس من المُعتدين.

لا يوجد إلى الآن تعريفٌ واضحٌ لأدب المقاومة لكننا نستطيع أن نقول بأنَّ كل قصيدة ومقالة وأغنية وخطابة وموقف ثقافي أو فكري ضدَّ الطَّرف الآخر المُعتدي، ِهو أدب مقاومة…

والأدبُ المقاوُم أدبٌ واعٍ له قضية يعمل عليها ويحارب بها أفكار ومفاهيم العدو ليأخذ حقه منه كما تفعل البندقية في المعركة.. فيخلق طاقةً كبيرةً للمقاومة قادرةً على تحريك وتحفيز الجماعات التي تقاوم بطرق أخرى.

لقد انتقل النتاجُ الأدبي المقاوم مع بدء المقاومة الفلسطينية واللبنانية ضد الاحتلال “الإسرائيلي” وفي كل الميادين، شعرًا ونثرًا وغير ذلك.. وبرزت أسماء كبيرة بهذا المضمار: محمود درويش وغسان كنفاني.. والكثير من الأدباء والشعراء في الوطن العربي من جميع أرجائه من سورية والعراق والجزائر ومصر ولبنان..

ومالتْ كثيرٌ من الأقلام نحو السَّرْد المقاوم الذي أسس له الأديب الفلسطيني “غسان كنفاني” وغيره، لما يُوفِّره السَّرد من حرية أكبر في رسم صور المقاومة.. كما أنَّها انتقلتْ من المبالغة إلى الواقعية سواءٌ شعرًا أو نثرًا أو فعاليات ثقافية أخرى كالندوات الأدبية عن مقاومة المحتل وغير ذلك..

لذا كان من واجب القلم المقاوم هو بثُّ الروح المعنوية من خلال ذِكْر أمجاد أمتنا وتاريخها الحافل بالبطولة والمآثر، وتوثيق الأحداث، لتكون دراسةً للأجيال اللاَّحقة وتوثيق بطولة الأفراد والجماعات ومقاومة فكر العدو الثقافي وتوضيح صورة المحتل الغاشم ومقاومته أسوةً بمن يقاومه بالسلاح. ولربَّما كان وقع القلم على العدو أكبر من وقع البندقية في بعض الحالات..

وقد أصبح الأدبُ المقاوم ساحةً للكفاح ضدَّ المُحتلِّ، وبرزتْ به أسماء كثيرة وكبيرة ولامعة أوصلت قضية فلسطين وصوتها إلى كل العالم.. ومازال أدبُ المقاومة إلى الآن في أوج عطائه، خصوصًا بعد أن توسَّعتْ وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح الأديب والشاعر والكاتب والفنان يستطيع إيصال صوته إلى كل بُقعةٍ من الأرض، ليُسلِّط الضوءَ على ظلْم العدو وحقِّ الشعوب في الحياة والحرية والسلام..

 

 

علي أحمد عبده قاسم
علي أحمد عبده قاسم (ناقد من اليمن)

الشاعرُ تُرجمانُ الأرواح ومُجدِّدُ المشاعر

سؤالُ جدوى الأدب أصبح مُكرَّرًا، فإذا لم يكن الأدب صناعةَ فكرٍ وخلْق حياةٍ، وأنه تعبيرٌ عن الظَّرفية المكانية والزمانية للإنسان على مختلف أصْعُد حياته سواءٌ بالسَّلب أو الإيجاب، فالأدبُ تغييرٌ للفكر على الأفضل حتى يرتقي الإنسانُ سلَّمًا حضاريًّا إنسانيًّا يليق بالحياة ويليق بالإنسان نفسه، فليس الأدب والشعر، فقط، تعبيرًا عن المشاعر بمَقْصدِيَة الإمتاع، بل هو تعبيرٌ عن الخلق والإبداع سواءٌ في المبدع أو المتلقي على حدٍّ سواءٍ.

وحين انْبعث أدبُ المقاومة في فلسطين المُحتلَّة عبَّر عن مآسي الإنسان العربي الفلسطيني بالحصار والقتل والسُّور الحديدي المُقام حول أبناء فلسطين لعزلهم عن وطنهم العربي وعزلهم عن بعضهم البعض، مُحاولاً قتْل روح القوميَّة في روح الفلسطيني. ومنذ قيام ما يُسمَّى “إسرائيل” لم يسْكت المبدعُ العربي ولم يكلّ أو يملّ، مُحاولاً استنهاضْ الأمة وبعْث روحها حتى تستعيد أدوارَها الرياديَّة. ولعل من أبرز تلك النصوص التي قيلت إبَّان قيام ما يُسمَّى “إسرائيل” هي قصيدة “أمَّتي” للشَّاعر “عمر أبو ريشة ” التي يقول فيها:

أُمَّتِي كَمْ غُصَّةٍ دَامِيَّةٍ — خَنَقَتْ نَجْوَى عُلاَكِ فِي فَمِي

أَيُّ جُرْحٍ فِي إِبَائِي رَاعِفٌ — فَاتَهُ الآسِي فَلَمْ يَلْتَئِمِ

أَلِإسْرَائِيلَ تَعْلُو رَايَةٌ — فِي حِمَى الْمَهْدِ وَظِلِّ الْحَرَمِ؟

فالشاعر يحاول أنْ يُثَوِّر الأمَّة العربية من خلال تذكيرها بماضيها، راسمًا صورةً من الاستنكار أنْ تعلو رايةُ النَّجس في مهْد الرسالات السماوية من خلال الإشارة إلى ذلك في قوله (أَلِإسرائيل تعلو راية في حمى المهْد وظل الحرَم).

وهذا على سبيل المثال، فالمبدعُ العربي اتَّخذ من القضية الفلسطينية مصدرًا لإلهامه، ومصدرًا للاستنهاض، ومجالاً للتنوير والتثوير حتى تستعيد ريادتَها وصدارتَها وتأثيرها القوي من خلال الأدب الذي يساير الهمَّ العربي والإسلامي.

أمَّا إذا عرَّجنا على أدب المقاومة فقد اتَّخذ ثلاثة محاور رئيسة: الشعر الوطني الداعي إلى تحرير الارض والتمسك بها، والشعر القومي الذي يؤكد الانتماء إلى الأمة، والشعر الإنساني الذي يتعرض ما يقاسيه الإنسان من ظلم واضطهاد وتشريد وقتل.

وإذا تأملنا قصيدة “بطاقة هوية” للشاعر الفلسطيني “محمود درويش” والتي يؤكد فيها انتماءه إلى الأمَّة العربية، وأنَّه مُمتَدٌّ ومتكاثر ومتناسل داخل الأرض، ويؤكد حقَّه في الأرض، وإنْ لم يتحقَّق له استرداد أرضه سيقاتل ويجاهد حتى يعود الحق إلى أصحاب الحق.. قال درويش”:

سجِّل

أنا عربي

ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ

وأطفالي ثمانيةٌ

وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ!

فهلْ تغضبْ؟

….

سجِّل!

أنا عربي

سلبْتَ كرومَ أجدادي

وأرضاً كنتُ أفلحُها

أنا وجميعُ أولادي

ولم تتركْ لنا.. ولكلِّ أحفادي

سوى هذي الصخورِ…

فهل ستأخذُها

حكومتكمْ.. كما قِيلا!؟

إذنْ

سجِّل.. برأسِ الصفحةِ الأولى

أنا لا أكرهُ الناسَ

ولا أسطو على أحدٍ

ولكنّي.. إذا ما جعتُ

آكلُ لحمَ مُغتصبي

حذارِ.. حذارِ.. من جوعي

ومن غضبي!

فالنَّص تمتزج فيه روح الانتماء إلى الأرض والأمة ومع الإيمان بالتمسك بالأرض، مع نبرة التحدي المقاوم الذي يتعبر التحدي والموت والمقاومة نهجَ حياة. وإذا كان الخطاب بضمير الأنا إلاَّ أنه جاء مُعبِّرا عن الجماعة. وبذلك فإنَّ شعر المقاومة ارتبط بمراحل الثورة الفلسطينية ورسم المآسي ممتزجة بعاطفة التحدي، ليس فحسب رسْمَ البشاعة لممارسات المحتل، مُعتزًّا بالشهادة ومُندِّدًا بالممارسات اللاإنسانية من قبل الغاصب إلى حدِّ أن الشاعر الفلسطيني سخِرَ من القيود والتعذيب، لأنَّ الشعب الفلسطيني أقوى من السجن ومن التعذيب ومن السَّجان ومن الممارسات التعسفية التي تحاول أن تقتل كل ما يجذِّر انتماءَه إلى الأرض.

وهذا الشاعر الفلسطيني “توفيق زياد” في قصيدته “من وراء القضبان”، يقول:

الْقوا القيودَ على القيود

فالقيد أوْهى.. من زنودي

لي من هوى شعبي

ومن حُبِّ الكفاح، ومن صمودي

عزمٌ.. تسعَّر في دمي

نارًا على الخطْب الشديد

فما يرسمه الشعب الفلسطيني اليوم هو قِيَمٌ مُتجذِّرةٌ في المرأة والشيخ والشاب.. وما على الشاعر إلاَّ أن يذكي تلك القِيم والمعتقدات الراسخة في النفوس. يقول “محمد كروب” عن معالم الأدب الفلسطيني: “الأدب العربي الفلسطيني داخل الأرض المحتلة أعطى، بعد هزيمة حزيران بالذات، أروع نتاجه. ولا يزال يعطي خصوصا في الشعر وفي القصة والرواية والمسرحية، حتى لَيمكننا القول أنَّ الأدب الفلسطيني جزءٌ أصيل وطليعي من الأدب العربي عامة، فقد استطاع أن يُعبِّر عن المضمون الأصيل لحركة الثورية العربية الفلسطينية، وهو في خط الصدام اليومي.. في المظاهرات والإضرابات وفي شتى أشكال الغضب”.

ولا يختلف الأدب العربي عن الفلسطيني فقد رافَق القضية الفلسطينية منذ بدايتها، سواءٌ شعرًا أو رواية وقصة، بل إنَّ أدب القضية الفلسطينية أصبح واسعا، ويُمثِّل جانبا مهمًا من جوانب الأدب العربي الخصيبة.

 

 

سميرة بن عيسى
سميرة بن عيسى (محامية وشاعرة من الجزائر)

“أدب الحرب” لمُقاومة الاحتلال

للأدب دورٌ مُهِمٌ في توثيق تاريخ المجتمعات والحضارات والحفاظ على ثقافاتها المختلفة، كما ساهم بشكل كبير في تطوير الوعي الثّقافي والاجتماعي للشعوب والأمم، من خلال تسليط الضوء على قضايا المجتمع المختلفة، مما أنتج تفكيرا نقديًّا عند الأفراد حولها. فقد تمكّن من تعرية الحقائق، وفضح الجرائم والانتهاكات..، وتكلم باسم الضّمير الجمعي، وباسم الإنسان والمضطهدين، ونقل كل هذا بصور تعبيرية إبداعية إلى العالم، تلامسُ الشغاف، ليتمكن الآخر المختلف من فهم وجهة نظر غيره واحترام التنوع، وبالتالي نشْر التسامح والسلام.

وهو بهذا يشكّل الهوية الثقافية الشعبية التي لا تُمحى مهما حاولت الحروبُ طمسها. وقد تأثَّر الأدب بكل المظاهر الحياتية للإنسان، الثقافية والاجتماعية والسياسية.. كما تأثَّر بالحروب وأثَّر فيها، بحيث استحدِثتْ أشكالٌ وطرٌق مُختلفة للتَّعبير الفني عُرِفت بـ “أدب الحرب”، فأنتجتْ العديدَ من الأعمال التي حرَّكت مشاعر الإنسان وألهبت حماسته، لمقاومة مختلف أشكال الظلم والاحتلال، فأشعلَ الأدبُ الثورات وتغنَّى بالبطولات التي أرَّخَ لها وخلّدها في ذاكرة الإنسان.

كما أنَّه لا يخفى على أحد مِنَّا ما تحاول فِعْله الثقافةُ الغالبة من إقصاء للثقافة المغلوبة، لأجل ذوبانها السريع داخل بوْتقتها، واختفائِها نهائيًّا، ومن هنا يتم القضاء على الشعوب والحضارات، وهذا ما لم تستطع فعله الحروب في الكثير من الأراضي المُستَعمرة، التي حافظتْ على مقوماتها وهويتها، وقد ساعد على ذلك الأدب بكل شراسة.

عندما قرأت أول مرة خطبة الزعيم الهندي الأحمر “سياتل” أمام “إسحاق ستيفنز”، حاكم مقاطعة واشنطن عام 1854، انبهرتُ بهذا الخطاب الواعي وتلك الفلسفة العميقة التي تَشي بالكثير من ملامح ثقافة الهنود الحمر، وحضارتهم التي أبادها المستعمرُ كليَّةَ. وكانت النظرة السائدة عنهم أنهم أكَلة لحوم البشر.

وبظهور عدد من الكتاب والشعراء من أصول هندية، الذين دافعوا عن هويتهم وثقافتهم بالقلم، بدأتْ تتغيَّر تلك النظرة المُجحِفة عن أسلافهم، وكان فوز الكاتب الأمريكي الهندي، “ن. سكوت مومادي” بجائزة البوليتزر عن روايته “بيت مصنوع من الفجر” عام 1969، فرصةً لتسليط الضوء على الكُتَّاب الأمريكيين من أصول هندية. وقد حملت الروايةُ رسالةً مُهمَّة لأبناء شعبه للكفاح من أجل الهوية والبقاء، وقد ألهمت هذه الرسالةُ الكثيرَ من الكُتَّاب من أصول هندية لمواصلة النضال بالكتابة.

وقد استلهم الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” من ذلك الخطاب الإنساني العظيم قصيدته الشهيرة: “خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض”، في ديوانه” أحد عشر كوكبا” سنة 1992. وفي هذه القصيدة إشارة بليغة، وتعبير إبداعي واضح للشعب الفلسطيني، للتمسك بالأرض والهوية.

وبهذا كان للأدب دورا بارزا في المقاومة وحركة التَّحرر، من خلال تشكيل الوعي والقناعات والمواقف، نصرة للقضية الفلسطينية وعدالتها. فحرَّك الالتزامُ سيْلاً من الأقلام التي ذادت عن قضايا الوطن، والأمة العربية، بتصوير الأحداث في شكل إبداعي راقٍ، لتحريك المشاعر، ووضع الرأي العام العالمي أمام الحقيقة لاتخاذ موقف إيجابي عادل، إزاء ما يحدث من جرائم بشعة وانتهاكات في حق الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض، وحتى لا تنسى الأجيال القادمة قضيتها الأساسية وهويتها التي يحاول المستعمر بشتى الطرق القضاء عليها، فهي حرب هوية بالدرجة الأولى، وبالتالي فناء السكان الأصليين وذوبانهم في البوتقة الصهيونية، وهذا ما حاول الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” التَّحذيرَ منه من خلال استلهامه خطبةَ الهندي الأحمر التي حملت رؤية سياسية ثاقبة.

يقول “محمود درويش” في حوار قديم: ” يُشرِّفني أن يرتقي دفاعي عن الحق الفلسطيني إلى مستوى دفاع الهندي الأحمر، فهو دفاع عن توازن الكون والطبيعة الذي يُشكِّل سلوكُ الأبيض خرقًا له”.

 

 

أحمد قائد بن سلام
أحمد قائد بن سلام (أديب وشاعر من اليمن)

الشعر في محراب القضية الفلسطينية

لا يقِلُّ الأدبُ أهميَّةً عن الإعلام في مُناصرة قضايا الشعوب، فهو رديف للإعلام بل يفُوقه أهميةً. فالإعلام يواكب الحدثَ في وقته وحينه، أمَّا الأدب، وخاصة الشعر، فيواكبُ قضيَّةَ الأمَّةِ منذُ البدايات ويستمر في مناصرتها ما بقِيَت.

وقضيتُنا اليومَ، القضيةُ الفلسطينية، برزتْ على السطح فانْبرى الشُّعراءُ والكُّتاب لمناصرتها من كل الأقطار العربية، فنجد المنتديات الأدبية تضُجُّ بالنصوص الشعرية والأدبية التي تناصر وتبثُّ الحماسَ في صفوف المقاومين للغزو الصهيوني الغاشم..

وهذه الهبَّة الشعريَّةُ ليست وليدة اللحظة، فقد رافقتْ الثورةَ الفلسطينية وواكبتها منذُ انطلاقتها في عام 1948 حتى أنَّ الشاعر “إبراهيم أبو عرب”، المَتوفَّى في مارس 2014، لُقِّب بشاعر الثورة الفلسطينية.

وهناك شعراء كتبوا قصائدَ خالدةٍ في مناصرة القضية الفلسطينية، ومنهم على سبيل المثال لا الحَصر: سميح القاسم، محمود درويش، إبراهيم طوقان، فدوى طوقان، عز الدين المناصرة، عبد الرحيم محمود.. وغيرهم الكثير.

فالأدبُ، ولا سيما الشعر، عاملٌ مُهمٌّ في رفع معنويات المجاهدين وبث الحماس في صفوفهم والحشد للجهاد والحث على الإنفاق في سبيل الله..

فواجبنا كأدباء وشعراء ومثقفين أن نستشعر مسؤوليتَنا ونُسخِّر أقلامَنا لخدمة القضية الفلسطينية، قضية العرب والمسلمين أجمعين..

ومع تطوُّر وسائل التواصل الرقميَّة، برزتْ أقلامٌ واعدةٌ من أدباء وشعراء، قالوا ويقولون كلمتهم في مناصرة هذه القضية. ونحن في منتدياتنا الأدبية كرَّسْنا كل جهدنا ووقتنا ونشاطنا حول هذا الحدث، وجمَّدنا أيَّ نشاط آخر لا يخُصُّ القضية الفلسطينية، وهناك حراك أدبي غير عادي بهذا الشأن.. وهذه آخر رباعية كتبتُها في هذا المضمار، “رُباعية الصهاينة القرود”..

مـــــالي أرى تـِــلكَ القُــــــرُودَ بواحـــتي

جُمِـــعتْ لكـــي تُدْعَـى علـى تُـفَّاحــتي

وأرى جُمـُـــوعًا تستـــغيــثُ ببعضـِـــــها

لتُبيحَ قتــــــليَ أو لتُقلــــقَ راحـــــتي

جـمـعَ اليــهــودُ عَتــــــادَهم وتحـــالفوا

وتــكالــــــــبوا يتعمَّــــــدون إزاحــــتي

وأنـــا ابـن غـــزّةَ لا أهــابُ عــــديـدَهـم

قسمًا بأنَّ المـَــــوتَ يعشقُ ســـــــاحتي

 

 

ابتسام الصمادي
الدكتورة ابتسام الصمادي (أكاديميَّة وشاعرة من سوريا)

الأديبُ ابنُ أزمات ونكبات أمَّته

إذا كان الأديب والكاتب بالعموم، حياديًّا وغير مُنغمسٍ في نكبات وليس أزمات أمَّته وحسب، من حيثما يُكتَب التاريخ الحديث اليومَ بالدَّم والأرَق، فالأجْدى إذًا أنْ يترك السَّاحةَ لمن يستطيع تحمُّلَ مسؤولية كلمتِه القابضِ عليها كجمر النار.

جميعُنَا في مهَبِّ وقتٍ أعلى من الرؤية وأغرب من الأحلام، جميعُنَا تخدَّرتْ أوْجاعُنا وانطفأتْ أرواحُنا، لكن الفعلَ الإبداعيَ هو الذي يخترقُ الرؤيةَ، ويُنير المُظلمَ من الأقْبية النَّازفة، ويسلِّط الضوءَ على المحطَّات القادمة مستشرفًا الآتي.

فإنْ لم تكُن النَّكباتُ المُتكرِّرة في حياتنا، وتجربة الإرهاصات السياسية الكبيرة التي يعيشها الوطن العربي والتي تجلَّت في الكثير، ليس أولها حرب الخليج الأولى والثانية، وسقوط مباحثات السلام، وسقوط إعلان الدولة الفلسطينية.. وسقوط الإنسان وكل القيم.. إلى إنقاذ المواطن الفلسطيني ورفْع الحصار عنه من قِبَل قتَلةٍ ومُجرمين يتشدَّقون بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ومن قبل هذا الغرب المُتأمْرِك والعالم المُتكالب على شعب أعزل، فإذا لم تُشكل جميعُها سوى محطات عابرةٍ في حياة أدبنا، نقرؤها بشكل مُسطَّحٍ،  فإنَّ ما ينتج عنها ليس أدبًا بل سفسطة تشبه الى حدّ كبير من يُنظّر لخداعنا وخداع أجيالنا، وربَّما يتفوَّق هذا المُنظِّر علينا بدهاء إيصال رسالته إلى أعماقنا في التَّسطيح والتفتيت، وهذا أشْنعُ من الحرب والقتل المباشر، خاصة عندما نُكرّس فكرة ما اسمِّيه بـ “موت الشعوب”، مِمَّا يخلُق  قزمًا مسخًا لا يرقى إلى الأدب بل إلى حيادية سلبية قاتلة نسمعها من البعض حين يقول  أحدهم: دعونا من السياسة نحن أدباء وحسب، مُتناسِين أنَّ الخبز اليومي الذي يأكلونه تعجُنه السياسةُ وتخبزه…

وهذا التَّصنيف، بل الفصل، لا يقوم به سوى جزَّار يفصل اللحم عن العظم، لأنَّ الأدب اقتحامٌ للممنوع والمخبوء والمستور، وليس طلاء للأظافر أو عملية مَساجٍ وتجميل.. وهذا مقطع من قصيدة “محمد الدرة”، من ديوان (ماسٌ لها):

أَلاَ يا سادَة الدنيا

من الأعْجام والعرب

ألاَ يا سادة الشاشات والحفلات والخطب

تعالوا بعد سهرتكم

وإن شئتم بُعَيْد غدائهم وحرير قيلولة

تعالوا اليومَ حفلتُنا وليستْ حفلةً أولى

سنكرمكم ونسقيكم خَمِير الأرض ما رُويتْ

بأطهار وأكباد

وَشايًا أخضرَ النِّعناعِ من خنساء دمعتنا

بطعْم صهيل أجدادي

وقُرْصةِ عجْوَةٍ محشُوَّةً بأصابع الهليون من أطفال بغداد

وكعكتنا مع الشهداء مجبولة

وحفلتنا على الشاشات منقولة

تعالوا شاركوا معنا ولو مرّة

نُطفّي الشمع ستِّينًا

ونقطع قبَّة الصَّخرة

وأولُ من سيلقاكم

عُيون محمد الدُّرَّة

 

أحمد سويلم
أحمد سويلم (باحثٌ وشاعرٌ من مصر)

مِلْحُ الأرْضِ

اسمي.. فادي

عُمري عشْر سنين

جسدي من ملْح فلسطين

وجهي جمرةُ نارٍ لا تخمد

أحلامي تتجدَّدُ أشجارًا

تُروّى بدماء الشهداء المقهورين

 

بالأمسِ تهدَّمَ بيْتُ أبي

وتهاوَى معه عُمْرُ أبي..

أسرعتُ أكفِّنه بملاءَته البيضاء

وأقسمُ بالتِّين وبالزيتون

أنْ أثْأر من أعدائي الجبناء

حملتُ سلاحَ أبي وحَشَوْتُ كِنانَتَه

وغمسْتُ الفُوَّهَةَ بأوْجاعي الدَّامَيَة

وأسرعتُ أكَبِّر..

فانطلقتْ معي حُشودٌ وحُشود

تُقْسم مثلي.. وتُكبِّر..

وتعاهدنا ألاَّ نهجر موْطننا

مهْمَا عانيْنا الجوعَ

ومهْمَا فاجأنا القصفُ

ومهْمَا غَشانا البارودُ..

هذا وطنٌ رَواهُ الآباءُ

بدماءٍ طاهرةٍ تُثْمُر كلَّ صباح

أشْجارُ الصَبَّار..

نقْضمُها.. ونَلُذُّ بطعْم مَرارتِها

تُنْبِتُ في داخلنا أكْبادًا من فولاذ

نحن الأطفال اليُتَماء

مِلْح الأرضِ المَغموس بِلَون الدَّم

صارَ الوطنُ أبًا

والأرضُ غَدَتْ أُمًّا

غَذَّتْنَا حُبًّا.. ووُعودًا.. ومَواثِيقَ

غَذَّتْنَا أوْجاعًا لا تُشْفى أبدًا

نحنُ الأطفال..

لن نَضَع بنادِقَنا حتى تُشرِق

شمسُ الوطنِ الغائبَة

ونرفعُ رايتَنَا الشَّمَّاء..

ها نحن اعْتدْنا الجوعَ

فأشْبعنا مِلْحَ الأرضِ..

وظَمِئْنا.. فعَصَرْنا وَرَقَ الصَّبَّار

كُؤُوسًا تَروِي عَطَشَ حناجِرِنا

ها نحن.. إلى حين

وَدَّعْنَا النَّوْمَ.. وجَفَّ الدَّمْعُ بأعْيُنِنا

دَقَّتْ أجراسُ كنائِسِنا

وانْهَمَر أذانُ الأقْصى

يرْسُمُ غَدَنا فوْق الأذْرُع

فمَدَدْناها تَخْترِق الآفاقَ

تَرْعُدُ.. تَبْرُقُ

حتى تَهْمِي السُّحُبُ دِماءً

تَرْوِي جَدْبَ الأرضِ

وتُشْعِل جُذْوَةَ غَدِنا فوْق تِلالِ الوطن

وترفعُ رايات النَّصر..

نحنُ الأطفالُ الشُّرَفاء

أقْسَمنا بالتِّين.. وبالزيتون

ورِثْنا عَهْدًا لن نَخْلُفه أبدًا

حتى نتَحرَّر..

أو نَغْدُو في قائمة الشهداء..

 

 

عبد الرحمن حسن
الشاعر عبد الرحمن حسن (شاعر من اليمن)

‏”طوفان الأقصى” وقصائد أخرى..

إهداء إلى قُرّاء جريدة “الأيام نيوز”، وإلى كلِّ المؤمنين بأنَّ فلسطين في طريقها إلى النَّصر الأكيد، والكيان الصُّهيوني إلى الزَّوال المحتوم..

 وصِيَّةُ طفلٍ فلسطيني

هذا هو الوقتُ إنْ صحّتْ قيامتُهُ

وهذهِ يا ردى في القدس سيرتُهُ

ألقى بها قبل أنْ تُلقي بهِ ودنى

لموتِهِ قبلَ أنْ تُدنيهِ ميتَتُهُ

فهل تراءى لهُ المكتوبُ أم كَشَفتْ

عن المرايا نواياها منيّتُهُ

وهل سعى أم سعتْ بالحبّ خاتمةٌ

أم هكذا هكذا كانت وصيّتُهُ

يا أيُّها السائلُ المسؤولُ هل وُلِدَ

الأقصى يتيمًا وهل ماتتْ قضيّتُهُ

أم أنَّهُ الضفّةُ الأولى وقِبلةُ أُحمدٍ

ومعراجُهُ الأسمى وآيتُهُ

لو كان موتي سيكفي لافتديتُ بهِ

أطفالَ غزَّةَ من شرٍّ يبيّتُهُ

ما حكمةُ القتلِ إلّا أنَّ من قُتِلُوا

أحيوا رميمًا فقولوا أينَ حكمتُهُ

يا ذمّةَ اللهِ كمْ طِفْلٍ ستقْتُلُنا

  • في ذمّةِ العجزِ والخذلان – دمعتُهُ

‏فهرسةُ جُرحٍ فلسطيني

قصائدي كلُّها حمراءُ ترتجفُ

وأحْرُفي فوقَ ما تعني وما أصِفُ

فباطنُ الحرْفِ فيها ظاهرٌ ودمي

في حيْرةٍ مِنْهُ لا يجري ولا يقفُ

ماذا أُسَمِّي جحيمًا لا تُفهْرِسُهُ

مِنْ شدّةِ البوحِ أقلامٌ ولا صُحُفُ

لا ماءَ لا زادَ لا مأوى فأين تُرى؟

ينجوا من القتلِ طفلٌ والرّدى الهدفُ

يا أيُّها الشّعرُ قُلْ ما شئتَ إنَّ يدًا

تُصافحُ النارَ أقوى “فالرِّثا ترَفُ”

لا وقتَ للموتِ عُدْ من حيثُ مُتَّ وقلْ

جرَّبتُهُ مرَّةً لا فرقَ إنْ قَصفوا

مازالَ في القدسِ سِرٌّ لن تفسرَّهُ

كلُّ الأساطيرِ إنّ الجُرحَ مُختلفُ

‏طوفان الأقصى

شهيدًا أو أسيرًا لا مفرُّ

وهل أثناكَ عن أمريْنِ أمرُ؟

فأنتَ كأنتَ طوفانٌ وبحرٌ

وكيفَ يكونُ للأعداءِ صبرُ؟

فعِشْ حُرًّا ومُتْ حُرًّا فلولا

دمائُكَ ما تبقّى مِنكَ شِبْرُ

فإنْ كُنتَ الشهيدَ فأنتَ حيٌّ

وإنْ كنتَ الأسيرَ فأنتَ حرُّ

فما في الموتِ للأحياءِ موتٌ

ولا في الأسْرِ للأحرارِ أسْرُ

شهيدُ الأرضِ يُولدُ كلّ يومٍ

وغاصِبُها وخائِنُها يفِرُّ

فما أسْمى الحياةَ بعينِ حُرٍّ

يرى أنَّ الردى عِزٌّ وفخرُ

وما أخْزى الهزيمةَ في نفوسٍ

ترى في قتلِها الأطفالِ نصْرُ

وهلْ دامتْ حياةٌ دون موتٍ

وهلْ إلاَّ بهِ يحلو الأَمَرُّ

فطُفْ يا أيّها الطوفانُ واعبرْ

إلى الباغي فإنّ البحرَ بَرُّ

وقلْ لبيكَ يا أقصى فإمَّا

سلامٌ أو فطوفانٌ وشرُّ

وإمّا الأرضُ زيتونًا ونخلاً

وإمّا أنّها حربٌ وقَبْرُ

‏دمعتانِ

لغزَّةَ دمعتانِ فقُلتُ سَمِّي

القصيدةَ باسْمها والدمعَ باسمي

جحيمٌ واحدٌ يكفي لأنسى

هنا ما ظلَّ من جسمي ورسْمي

وموتٌ واحدٌ يكفي لتغدو

أبي يا أيّها الأقصى وأمّي

غزيّةُ ما غوتْ إلّا لتغزوا

وغزّةُ ما غزتْ إلّا بظلمِ

فكيفَ تلامُ غزةَ في عدوٍّ؟

أليسَ الرشدُ بعد الظلمِ يُدْمي؟

فكن حُرّاً كغزّةَ كنْ غزِيًّا

وحيثُ رمتْ فَسَمِّ اللهَ وارمِ

‏فزِعتُ من الدماءِ فقلتُ صُبِّي

عليَّ الحزنَ يا صنعاءُ صُبّي

فلبّتْ بعد أنْ كادتْ وقالتْ

ألم تكفيكَ غزَّةُ؟ قلتُ حسبي

مَشهدٌ من قطاعِ غزة

لقد جفّت دمائي في عروقي

وما جفَّ المجازُ فمَنْ لقلبي؟

ومن إلّا القصيدةَ إنْ تساوَى

وخالط حبُّها في النهرِ حبّي

فصُبّي لا حياةَ بلا سلامٍ

ولا سِلْمًا سيولدُ دونَ حربِ

فلولا أنَّ لي أرضٌ وشعبٌ

وميلادٌ لضلَّ هُناكَ دربي

وقلتُ بأنَّ لي في القدسِ بيتٌ

وأنَّ التِّينَ والزيتونَ شعبي

فما لي كلّما يمَّمتُ وجهي

لمرآةٍ رأيتُ الذنبَ جنبي؟

وهل لقصيدةٍ أن تفتديني

إذا سقطَتْ بها وسقطتُ قربي؟

فكيفَ لمشهدٍ إن قالَ أبْكَى؟

وكيف لدمعةٍ أنْ لا تُلبّي؟

خديني منكِ يا صنعاءُ إنّي

سئمتُ الموتَ حيّاً (إيْ وربّي)

كأوّلِ طائرٍ للقدسِ حتّى

أكفّرَ عن ذنوبِ أبي وذنبي

وردة أيوب عزيزي - كاتبة وشاعرة جزائرية

وردة أيوب عزيزي - كاتبة وشاعرة جزائرية

اقرأ أيضا