الجوسسة تحت غطاء العمل الإنساني.. مواطنون ضدّ أوطانهم !

لا تزال المنظّمات الإنسانية تعمل من أجل تقديم المساعدة الإنسانية وخدمات الحماية للأشخاص المحتاجين، بما في ذلك المتضرّرين من الصّراع والكوارث والفقر. ومع ذلك، فإنّ العديد من هذه المنظّمات، تعرّضت لانتقادات بسبب ممارساتها والأهداف والغايات التي تعمل على تحقيقها وهي أبعد من أن تكون لغايات إنسانية، بحيث باتت مسألة الثّقة قضية رئيسية في العمل الإنساني.

هل يمكن أن تثق أطراف النّزاع في أن يكون العاملون في المجال الإنساني محايدين وغير متحيزين؟ هل يمكن أن يثق الأشخاص المستضعفون بأن يقدّم العاملون في المجال الإنساني المساعدات بطريقة عادلة ويسلكوا في عملهم بما يقتضيه الاحترام؟

تقدّم المنظمات الإنسانية نفسها عادة باعتبارها مؤسّسات جديرة بالثّقة أيَّما جدارة. وعادةً ما يقدِّم تسويقُ العمل الإنساني العاملين في المجال الإنساني كما لو كانت كوادر تقترب من درجة المعجزة، تذهب إلى أصعب الأماكن كي تصل إلى النّاس الذين يعانون أشدّ المعاناة ثمّ نساعدهم بطريقة قائمة على المبادئ، ومهنية تمامًا تستجيب لاحتياجاتهم، وهم محصّنون ضدّ أيّ ضغوط أو عقبات مفرطة.

وبحقيقة الواقع فإنّ هناك منظّمات إغاثية تعمل بطابع إنساني مدني وتحمل في ثناياها أبعد من ذلك ودليل ذلك فإنّ غالبية المنظّمات تعمل لغايات سياسية بطابع إنساني وما يتعرّض له الفلسطينيون في قطاع غزّة والضفّة الغربية من اختراقات تتطلّب اليقظة والحذر وعدم الثّقة في العديد من المنظّمات الإنسانية التي تعمل لصالح أجندات غير إنسانية وهي بالأصل منظّمات مسيسة.

قطاع غزّة والضفّة الغربية والقدس يخضعون لرقابة غير مسبوقة من قبل منظّمات دولية تحمل طابع إنساني لكن في حقيقة ما تقوم به أبعد من ذلك، كلّ متغيّر، كلّ تطوّر، كلّ حدث، كلّ مواجهة، كلّ عرض عسكري، كلّ طلقة في قطاع غزّة والضفّة الغربية وكلّ تحوّل وتكتّل سياسي هي معلومة تسعى “إسرائيل” وحلفائها على الحصول على قصّتها، كيف وصلت؟ كيف صنعت؟ من يقف ورائها؟

فالتّحرّي والتّحقّق في مجريات أحداث غزّة والضفّة الغربية هي موضع اهتمام “إسرائيلي” ودولي وإقليمي ومساراته ليست وليدة الحرب على قطاع غزّة ولا هي وليدة مستجدّات ما تشهده الضفّة الغربية من مقاومة الاحتلال، هي قديم ومساراته وأدواته ومقوماته متعدّدة ويعاني من فقر في التّوثيق والتّتبّع والرّبط ربما سقط الأمر سهوًا، ودون استغراق في الأمر، فإنّ هناك مجموعة متغيّرات أثّرت مؤخرًا وتحديدًا العقد الأخير في مسارات التجسّس في قطاع غزّة أولوياته واهتماماته بشكل كبير.

استعاضت “إسرائيل” لسدّ الثّغرات بالتّقنيات الحديثة والاتصالات ومواقع التّواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل، لكنّها واجهت تآكل في الكادر البشري المتعاون معها في قطاع غزّة خاصّة بعدما قامت المقاومة الفلسطينية بمتابعة هؤلاء وملاحقتهم والتّضييق عليهم وتنفيذ حكم الإعدام كردع لهم ومن قبل فتح باب التّوبة لعدّة مرّات، ثمّ عامل التّبعات الاجتماعية المترتّبة على العمالة في المجتمع والتي تمتدّ آثارها، هذه كلّها قضايا وتحدّيات أثّرت في حدود ظاهرة العملاء في القطاع.

لم تكن التّقنية التّكنولوجية كافية وإن كانت قد سهّلت الاتصال والتّواصل إلّا أنّها لم توفّر على ما يبدوا قاعدة  وافية وكافية من المعلومات، وربّما ضاقت المساحات التي يتحرّك فيها العملاء في القطاع لعدّة أسباب ذكرت بعضًا منها فيما سلف، لذلك انتقلت “إسرائيل” لأدوات جديدة أخرى مثل زراعة عملاء بعيدين عن الاشتباه وقادرين على التحرّك بأريحية وبغطاء إنساني بعيد عن أيّة علاقة متوقّعة بـ”إسرائيل” وكان استغلال حالات الحرب والحصار وتردّي الوضع الإنساني في القطاع مدخل لهذا الأمر فعمدت لإدخال عملائها عبر بوابة المنظّمات الدّولية الإنسانية.

وقد تعدّدت آليات توظيف تلك المنظّمات فقد يدخل العملاء على شكل أجانب من دول لا يمكن الاشتباه بأنّ ضبّاط الموساد يحملون جنسيتها، وقد يكون عن طريق إسقاط موظّفي هذه المنظّمات أولًا، وقد يكون من خلال اختراق قاعدة بيانات وهواتف موظّفي هذه المنظّمات، وقد يكون من خلال أن تقوم الأجهزة الأمنية بتأسيس منظّمة دولية ما في دولة ما ودخول القطاع من خلالها، الآليات أكثر من أن تُحصر.

أدّت الحاجة والحصار والحرب والتردّي الاقتصادي والاجتماعي إلى كثافة حضور المنظّمات الدّولية وتعدّد مسمّياتها وموظّفيها وخدماتها؛ وكلّها أمور تسمح بإحداث عملية اختراق، لأنّه ببساطة في ظلّ الطّوارئ والحاجة الماسة تحدث عمليات ارتخاء أمني ولا يمكن للأجهزة الأمنية مثلًا في قطاع غزّة منع أيّ منظمة دولية في ظلّ الظّروف الحالية من تقديم المساعدات، والإمكانيات البشرية والتّقنية واللّوجستية المتوفّرة للأجهزة الأمنية في القطاع لا تسمح بمتابعة ومراقبة ورصد حركة كلّ المنظّمات الدّولية العاملة في القطاع. وقد دخل لقطاع غزّة عدد كبير جدًا من موظّفي المنظّمات الدّولية ولم يكن ممكنًا متابعتهم جميعًا.

“إسرائيل” تستغلّ هذه الآلية سواء بعلم مسبق من هذه المنظّمات أو بدون لا يهم، ما يهمّ “إسرائيل” هو ما تحصل عليه من معلومات. ووصل الأمر حد أن ترسل “إسرائيل” ضباط مخابراتها للتجسّس على قطاع غزّة وفيه من خلال اختراق وفود هذه المنظّمات أو من خلال تشكيل وفد مخابراتي كامل يدخل ويخرج من وإلى غزّة تحت مسمّى موظّفي منظّمات الإغاثة الدّولية الإنسانية، وهذا ليس سيناريو مقتصر على غزّة فقط فتوظيف منظّمات الإغاثة الإنسانية في عمليات التجسّس أكبر من أن يُحصر في العالم وغزّة ليست استثناء.

إنّ الهدف ليس تشويه الدّور الإنساني لمنظّمات الإغاثة الدّولية الإنسانية العاملة في القطاع ولكن هذه محاولة لإلقاء الضّوء وتسليطه على السّؤال المركزي كيف وظّفت “إسرائيل” هذه المنظّمات لاختراق قطاع غزّة والتجسّس على مواطنيه. ويفترض ألّا يقلّ اهتمام هذه المنظّمات بالأمر وتبعاته عن الاهتمام الفلسطيني خاصّة وأنّ استغلال “إسرائيل” لهذا الأمر يضع موظّفي هذه المنظّمات في دائرة الاشتباه ليس للأجهزة المعنية بل لدى النّاس العاديين في القطاع وبالتّالي فإنّ النّظر والتّعاطي مع هذه المنظّمات وموظّفيها سيصبح مختلف تمامًا بل ومقلق أيضًا. ويفترض ألّا يمرّ الأمر هكذا بكلّ بساطة.

إنّ التجسّس أو العمل الاستخباري لا يتوقّف في بعض الأحيان عند مجرّد جمع المعلومات، بل يتعدّى ذلك إلى بثّ الفرقة والتّناحر بين المجموعات السّكانية، وبطبيعة الحال فإنّ مكائد المنظّمات الدّولية التي تتستر بستار الإغاثة والعمل الإنساني لا تقتصر على دولة معيّنة، بل تمتدّ بامتداد الكرة الأرضية، ففي العراق مثلًا تنتشر أكثر من 100 منظّمة تنصيرية تعمل بتنسيق كامل مع وكالات الإدارة الأمريكية.

وفي إندونيسيا يتكرّر السّيناريو نفسه طبقاً لما أدلى به رئيس مجلس الشّورى الإندونيسي الدكتور هدايات نور “أنّها مساعدات إنسانية في خارجها، وهي في حقيقة الأمر مساعدات جهنّمية شيطانية، فهدفهم التّنصير، وليس نجدة المتضرّرين! وسبق أن طردت عدّة جهات خيرية غربية بعد اكتشاف المواطنين لأهدافهم الخبيثة”، وهذه بعض النّماذج.

ويمكن إرجاع هذه الشّكوك إلى عدد من النّقاط:

– عدم تناسب ما تمّ الإعلان عن تقديمه مع حقيقة ما وصل.

– منظّمات الإغاثة، مثل: «كير» و«أطباء بلا حدود» و«أكسفام» و«صندوق إنقاذ الأطفال»، تتنافس للسّيطرة على مناطق الكوارث؛ للحصول على نصيب الأسد من أموال الإغاثة.

فقد أعلنت هذه المنظّمات والدّول المانحة تقديم ملايين الدّولارات، بل المليارات، لمساعدة المتضرّرين، لكن ما وصل ويصل إلى البلاد أقلّ كثيراً ممّا هو معلن، والذي يصل يُبدَّد معظمه على موظّفي هذه المنظّمات والفنادق الفاخرة.

وتشير عدد من التّقارير إلى أنّ الفساد ضارب بجذوره في هذه المنظّمات والهيئات، فقد سبق أن بيعت المواد الغذائية التي تحمل شـعار «الأمم المتّحدة» في الأسـواق العامّة، ولهذا أجرت المنظّمة تحقيقاً لم تُعرف نتائجه بعد، حتّى أصبحت سـمعة منظّمات الإغاثة الغربية لدى كثيرين سيئة، ومقترنة بالهيمنة والفساد وتوزيع المواد منتهية الصّلاحية.

تؤكّد الصّحفية الهولندية ليندا بولمان، التي أصدرت كتاباً يحمل اسم «قافلة الأزمة»، أنّ المساعدات الإنسانية تحوّلت إلى صناعة رائجة، فالعديد من منظّمات الإغاثة، مثل «كير» و«أطباء بلا حدود» و«أكسفام» و«صندوق إنقاذ الأطفال»، أضحت تتنافس فيما بينها للسّيطرة على مناطق الكوارث؛ بغية الحصول على نصيب الأسد من أموال الإغاثة.

يُلاحَظ أنّ قسطاً كبيراً من أموال المساعدات تُنفق لتغطية التّكاليف الإدارية واللّوجستية لوكالات الإغاثة، بما في ذلك مرتّبات العاملين بها الذين يتنقّلون في سيارات فارهة، ويعيشون في نُزل توفّر لهم مظاهر الرّفاهية والأبّهة التي اعتادوها.

وطبقاً لوصف الطّبيب الفرنسي جان روفين صاحب كتاب «المأزق الإنساني»؛ فإنّ الصّعوبات الواقعية في الصّومال لم تنشأ من نقص في الغذاء أو المعونات المالية، وإنّما من عدم الكفاءة في توزيع تلك المساعدات، بالإضافة إلى عدم الاستقرار المزمن في البلاد.

وتشير بعض التّقديرات الدّولية إلى أنّ كل 13 دولاراً يتمّ جمعها في الخارج لا يصل منها سوى دولار واحد فقط، وذلك يعني ببساطة شديدة تبديد معظم أموال المساعدات قبل وصولها إلى مستحقّيها!

وتؤكّد راسنا فارا، وهي محلّلة تقيم في نيروبي، الأمر قائلة: إنّ “غالبية الأموال التي يتمّ جمعها تُنفق إدارياً ولوجستياً، على شكل رواتب مثلاً، ناهيك عن الأموال التي قد يسرقها اللّصوص أو المتعاقدون لتجد طريقها إلى المحلّات لتُباع للجياع بأسعار جنونية”، وهكذا، تصير المجاعة والمساعدات، مراراً وتكراراً، هي النّمط السّائد.

إنّ استغلال المؤسّسات الدّولية الإغاثية لأغراض غير تلك التي خصّص لها العمل من أجلها هو بمثابة تدمير للعمل المؤسّسي الدّولي لإغاثة المنكوبين ويعدّ خرق فاضح للقوانين والمواثيق الدّولية وهذا يتطلب مسائلة ومحاسبة كلّ من يعمل لتحريف العمل الإغاثي عن أهدافه لما للأضرار التي تلّحق بالمجتمعات والأمن والسّلم الدّولي، وأنّ استغلال “إسرائيل” لهذه المؤسّسات الدّولية الإغاثية يحمل مخاطر تتهدّد العاملين في هذه المؤسّسات وتحريف لأعمال تلك المؤسّسات ممّا يشكّل خرق فاضح للقوانين والمواثيق الدّولية ترقى لمستوى جرائم الحرب.

علي أبو حبله - محام فلسطيني

علي أبو حبله - محام فلسطيني

اقرأ أيضا