قُصَاصَاتُ لاجئةٍ (3)

مدرسةٌ تعُجُّ بالأصوات الكثيرة. أعدادٌ كبيرةٌ من الطُّلاب، حيث لا رُسوم تُدفَع هنا فقد دفعنا الثَّمن غاليًّا جدٌّا منذ زمن طويل. دفعنَا ثمنَ وجودنا هنا قتلاً وتشريدًا وحِرْمانًا من سماء بلادنا، وأَوهَمَت (الأنروا) الناسَ بأنَّها تُغيثهم في المأكل والمشرب والعلم. تُرهاتٌ لم أؤمن بها يومًا، أنا ابنةُ اللُّجوء الذي عاث بالأحرار تعَبًا وقهرًا، ابنة اللُّجوء الذي يقْضِم إنسانيَّةَ الذين كانتْ ذاكرتُهم تُسعِفْهم على تذكُّرِ مأساة النَّكبة وتهجيرهم من منطقة إلى منطقة في لبنان.

لستُ من الجيل الذي يحملُ ذاكرةَ النَّكبة، فقد أعلنتُ عن ميلادي في ثمانِينيَّات القرن الماضي، وكانتْ وِلادتي وصرخْتي الأولى في مُخيَّمٍ من مُخيَّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، واستقرَّ بي الأمر على أنْ أكون لاجئةً فلسطينية في هذه المنطقة، وأنْ تكون هذه المدرسة هي التي أمارس فيها إنسانيَّتي، ولا أخاف من لهْجتي ولا من فلسطينيَّتي، فعلى امتداد أعوامٍ كثيرةٍ كان كافيًّا بأنْ تكون فلسطينيًّا ليتمَّ اتِّهامك بالكثير من الأشياء السيِّئة وتنال سمعتَك ألفاظُ القواميسِ الجارحةِ.

كنَّا نجتمِع على لهْجةٍ واحدة في المدرسة، وقلّما تسمع لهجةً غير اللَّهجة الفلسطينية بين التلاميذ، إذْ كان يحدث هذا فقط إنْ كانت الأمُّ لبنانيَّةً والأبُ فلسطينيًّا أو العكس. جميعنا لاجئون تحت هذا السَّقف الكبير، والأدراج الكثيرة، والمقاعد الخشبيَّة، وما دُكَّ لنا من فنونٍ تحت الأرض، ونتقاسمُ التَّعبَ مع مُعلِّمِينا الذين كنا نجهل، في وقْتها، أسباب ذلك الحزن الكبير الذي كان يُحيط بهم ويرتسمُ على جِباهم.

كان جرسُ المدرسة يدقُّ عند الساعة السابعة صباحًا، حيث نجتمع في الملعب الذي يحتوي على أشجار جميلة، وفي مكانٍ غير بعيدٍ عنه ما يشبهُ الغرفةَ كبيرة فيها نافذةٌ بِشُبَّاك حديدي لنلتقط منه ما نودُّ شراءَه من (المناقيش)، وما يطيب لنا من المشروبات الغازية العذْبة والتي نتراشق بشيءٍ منها أحيانًا لنضحكَ ونُثير غضَب بعض أصدقائها الذين نتصيَّدهم ليكونوا ضحايا، حيث نجعل لباسَهم مُتَّسِخًا إلى بقيَّة اليوم.. وما زالتْ ذاكرةُ طفولتي تحتفظُ بوجوه زملائي والمُعلِّمين الذين فتحوا أمامنا نوافذَ على فهم أنفسنا وقضيَّتنا وحياتنا في مخيَّمات اللجوء.

هي مدرستنا التابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين (الأنروا)، حيث العلم الأزرق يرفرف على سطحها، لم نكن بالوعي الكافي، في تلك الآونة لنسأل، لماذا لا يرفرف علم فلسطين في مدرستنا؟ كانت اللجنة الإدارية لا تكفُّ عن إقامة النشاطات المتعلقة بفلسطين ضاربةً بعرْض الحائط أيّ سياسة تمنع نشاطات كثيرة تخصُّ فلسطين الوطن إلاَّ تحت شروط معينة تفرضها.

اخترتُ أنا وبعض رفيقاتي أنْ نكون ضمْن فرقةٍ فنيَّة فلسطينية، تؤدِّي لوحات فنية على وقع نغَمٍ وطنيٍّ يصبُّ دومًا في حُبِّ فلسطين وتتغنَّى بالمجد والعودة. بعد مِضِيِّ أكثر من خمسةٍ وعشرين عامًا وما زلتُ أغنِّي أناشيد العودة وأنتظرها بأملٍ لا يفترُ أبدًا، وأتمنَّى أنْ أرى وطني سالمًا مُنعَّمًا بعيدًا عن دنَس الصهاينة الذين لفظتْهم الأرضُ والإنسانيَّة بكل قِيَمها.. ما زلتُ أمُرُّ إلى جانب مدرستي وأحِنُّ إليها وأراني هنا وهناك، وأترَحَّم على من رحلوا من أصدقائي وأساتذتي وعلى نفسي أحيانًا.

نهى عودة - شاعرة فلسطينية

نهى عودة - شاعرة فلسطينية

اقرأ أيضا