من أوراق المؤرّخ “أبو القاسم سعد الله”.. “ابن العنّابي”.. مُفتي الجزائر ومصر (الجزء الثاني)

“ابن العنابي” لم يكن مجرّد عالمٍ بالفقه وما إليه من العلوم الشرعية، بل كان أيضًا دبلوماسيًّا ناجحًا وخبيرًا بشؤون الدول”، ثم صار رمزًا للعالم الجزائري الأصيل الذي تصدّى للاستعمار الفرنسي خلال سنواته الأولى، وكانت له مواقف سياسيَّة جريئة دفعت الجزال “كلوزيل” إلى نفي “ابن العنابي” وأسرته.. وفي هذا الشأن، كتب “حمدان خوجة”: وتعرضت أسرته لجميع الإهانات بحجة أنَّها كانت تدبِّر مؤامرة. يا ترى ما الجناية التي يمكن إسنادها للنساء والأطفال؟ ويضيف “خوجة” قائلاً بأنه سأل “كلوزيل” عن التّهمة الموجَّهة إلى المفتي، فأجابه بأنّه كان يعدّ القبائلَ للثورة ضد الفرنسيين..

نواصل إبحارنا مع سيرة “ابن العنّابي”، ونذكّر أنَّ المؤرّخ الدكتور “أبو القاسم سعد الله” نشر دراستين حول “ابن العنّابي” في مجلة “الأصالة” الجزائرية، خلال سبعينيات القرن الماضي، وقد اختارت جريدة “الأيام نيوز” إعادة نشر الدِّراستين مُدمجتين بتصرُّفٍ في دراسة واحدةٍ وتوزيعها على ثلاثة محاور: سيرة ابن العنّابي، بعض الأسئلة التي أجاب عنها في الفتوى، تقديم كتابه “السّعي المحمود في نظام الجنود”..

المُفتي ديبلوماسيًّا لبلاده

كما قام الدّاي “أحمد باشا” بتكليف “ابن العنّابي” بالكتابة لباي تونس، كلّفه الداي “عمر باشا” بسفارة إلى بلدان المغرب العربي.. ذلك أنَّ الجزائر قد تعرّضت إلى قصف الأسطول الإنكليزي سنة 1816، وهي حملة اللورد “إكسموث” الشهيرة، وقد فصّلها قنصل بريطانيا في الجزائر الضابط “بليفير” في كتابه “جلادة المسيحية”.. وقد أدّى ذلك إلى هلاك معظم الأسطول الجزائري، فأرسل الباشا سفراء عنه إلى السلطان محمود الثاني والسلطان سليمان ويوسف باشا باي طرابلس يستعينهم على إعادة بناء الأسطول بنجدته بالسفن والأموال. والذي يهمّنا من هذه الحادثة هو أنَّ الباشا كتب إلى السلطان سلیمان کِتابًا بعث به مع “السيد الحاج محمد العنابي، قاضي السادة الحنفية رسولاً”. وقد ذهب “ابن العنابي” شخصيًّا إلى المغرب، وسلّم مكتوب الباشا إلى السلطان.. وعاد “ابن العنابي” بذلك إلى الجزائر، فكانت سفارته ناجحة، على الأقل إذا حكمنا من نتائجها. (ورد في كتاب “مذكرات الزهّار” أنَّ عهد “عمر باشا” كان نكبة على البلاد، فقد حلّ بها الجراد والوباء وغلاء المعيشة، وحملة الإنكليز، وموت القبطان “الريس حميدو” في معركة ضد الأسطول الأمريكي..).

وهكذا يتّضح أنَّ “ابن العنابي” لم يكن مجرّد عالم بالفقه وما إليه من العلوم الشرعية، بل كان أيضًا دبلوماسيًّا ناجحًا وخبيرًا بشؤون الدول. ولعل سفارته تلك لم تكن أول خروج له من الجزائر، فقد استُعملت عبارة “الحاج” مع اسمه قبل ذلك. ومعنى هذا أنّه قد يكون حج خلال سنوات 1808 – 1815، والحج عندئذ ليس مجرد أداء للفريضة، ولكنّه تعلّمٌ وتعليم، وسياحة واطّلاع، ومشاركة في كثير من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية. فماذا كان نصيب “ابن العنابي” من كل ذلك خلال حجّه؟

مرحلة غامضة في حياة “ابن العنّابي”

لنتتبّع نشاط “ابن العنّابي” في الجزائر إلى سنة 1830 وهو تاريخ احتلال فرنسا للجزائر، وتاريخ فصلٍ جديدٍ من حياة المؤلِّف. ذلك أنَّ وثائق سنوات 1817 – 1819 تتحدَّث عنه كقاضي الأحناف في الجزائر زمن الدّاي “علي خوجة” (1232هـ – 1817) والدّاي “حسين باشا” (1233هـ – 1818). فقد جاء في إحدى الوثائق أنَّ “ابن العنابي”، قاضي الحنفية، قد وضع ختمه بتاريخ (1232 هـ – 1817) ضمن قائمة وزراء وموظّفي الدّاي “على خوجة”، في رسالة بعث بها الداي إلى السلطان محمود الثاني. وورد في وثيقة أخرى أنَّ أول قاضى حنفي لدى الداي “حسين باشا” هو “محمد بن محمود العنابي”. فإذا عرفنا أنَّ هذا الداي قد تولّى سنة 1233 هجرية (1818)، وأنّه قد ولّى قاضيًا حنفيًّا جديدًا سنة 1235 هجرية (1820)، عرفنا أنَّ “ابن العنابي” قد يكون توجه إلى المشرق خلال سنوات (1235 هـ – 1244 هـ). والمهم هو أنَّ هذه الفترة من حياته غامضة.

ذلك أنّنا سنعرف أنّ كتابه “السّعي المحمود” مكتوب سنة 1242 هجرية (1826)، وأنّ اسمه يُذكر عندئذٍ مقرونًا بعبارة “نزيل مصر القاهرة”، فهل كان مغضوبًا عليه سياسيًّا؟ أو هل ذهب إلى الحج مرة ثانية وأطال الإقامة بالمشرق، وخاصة بمصر التي دُفن فيها كل من والده وجدِّه؟ أو هل ذهب في مهمة لدى “محمد علي” (المصري) في عهد “حسين باشا” (الجزائري)؟ أو هل أخذته قدماه إلى “الآستانة” (تركيا) في مهمّة لدى السلطان “محمود الثاني” الذي سنجده يتحدّث عن مآثره ومآثر أجداده في كتابه “السّعي المحمود”؟ كل هذه أسئلة يمكن طرحها في هذا المجال ما دام الغموض يكتنف هذه الفترة من حياته. وسيظل الجواب على هذه الأسئلة مرهونا باكتشاف ما تضمره الأيام عنه.

جزائريٌّ يتصدَّر للتّدريس في الجامع الأزهر

وعلى كل حال، فإنَّ “ابن العنابي” لم يكتب سنة 1242 هجرية كتابه “السعي المحمود” فقط، بل نجده يقيم في مصر ويختلف إلى الجامع الأزهر، ويأتيه العلماء للدرس و”رَومًا للثّواب”، ويقوم هو بإجازة المستجيزين وإجابة الدّاعين. فقد كتب “السعي المحمود” في شهر رجب من السنة المذكورة، وأجاز الشيخ “ابراهيم السقافي” شهر شعبان، كما أجاز الشيخ “عبد القادر الرافعي” في رمضان من السنة نفسها. ومعنى هذا أنَّ “ابن العنابي” قد تصدَّر لتدريس الحديث والفقه في الأزهر، والتفّ حوله تلاميذ وعلماء.

ومما جاء في إجازته لتلميذه “ابراهيم السقا”، ما يلي: “وقد قرأ عليّ الشيخ الإمام الفاضل ابن الحسن ابراهيم بن على بن حسن المعروف بالسقا جلّ صحيح البخاري إلى باب الاحتباء من كتاب اللباس.. وسمع ذلك الشيخ الإمام أبو العباس أحمد بن يوسف القنواتي إمام الجامع الأزهر، والشيخ الإمام أبو زيد عبد الرحمن بن عثمان الدمياطي الغمراوي الشافعي، وإبراهيم بن حسن الكردي الشافعي”.. وختمها بقوله: “قال هذا وكتبه الفقير إليه سبحانه، محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري الحنفي الشهير ببلده بابن العنابي بتاريخ خامس شعبان سنة 1242 هجرية”.

أمَّا الإجازة الثانية فهي إجازته للشيخ “عبد القادر الرافعي”، وهي كالسابقة باستثناء بعض التفاصيل، وقد قرأ عليه هذا الشيخ أوائل كتب الحديث وغيرها، وأجازه إجازة عامة. ووضع بأسفل الإجازة خاتمه وهو “منتظر لطف الودود عبده محمد بن محمود 1232 هجرية”. ولا شك أنَّ لابن العنابي تلاميذ آخرين أجازهم، أو قرأوا عليه.

مُفتي الحنفيَّة يعود إلى بلاده

ولكننا نجد اسم “ابن العنابي” في الجزائر من جديد بعد سنة 1244 هجرية (1829). فبعد تولية الشيخ أحمد بن ابراهيم، المذكور سابقا، يأتي المُفتون: محمد بن عبد الرحمن (بدون تاريخ)، وأحمد بن عمر بن مصطفي (سنة 1244 هـ – 1829)، ومحمد بن محمود (بدون كلمة العنابي وبدون تحديد تاريخ).. فمتى عـــــــاد “ابن العنابي” إلى الجزائر؟ وكيف تولّى الإفتاء من جديد؟ وهل تولاه فعلاً؟ أسئلة أخرى ليس من السهل الإجابة عليها الآن لعدم توفر المادة. وممَّا يزيد الأمر تعقيدًا أنَّ المؤرِّخين يذكرون بعض الحوادث التي جرت في الأسابيع الأولى للاحتلال، ووُرد خلالها اسم “ابن العنابي”.

وليس من المؤكد الآن أنَّ المفتي الحنفي وقت دخول الفرنسيين للجزائر كان هو “ابن العنابي”. فقد عرفنا أسماء عدد من المُفتيين تولّوا في الفترة القصيرة من (1828 إلى 1835) من بينهم “ابن العنابي”، مع إغفال تواريخ تعيين بعضهم. وهذا الغموض في تلك الفترة الدقيقة لا يساعد على الحوادث التي سيرد فيها اسم “ابن العنابي”.

من كان شيخ الإسلام بعد واقعة “سطاولي”؟

ومن هذا الغموض أيضًا، أنَّ وظيفة المفتي الحنفي قد تعرَّضت إلى تقلُّباتٍ خلال السنة الأولى من الاحتلال مع عدم ذكر اسم المفتي المعنى بالأمر. فقد جاء في أخبار الحملة الفرنسية على الجزائر أنَّ الدّاي “حسين باشا” قد عزل في آخر لحظة قبل دخول الفرنسيين، المفتي الحنفي “التّركي”، وعيّن بدله مفتيًّا عربيًّا… فمن هو المفتي المعزول؟ ومن هو المفتي الجديد؟ هذه نقطة تظل بدون جواب أيضًا.

كذلك، تتحدّث الأخبار عن أنّ الباشا قد استدعى، بعد هزيمة جيشه في واقعة “سطاولي”، “المفتي الحنفي، شيخ الإسلام”، وسلّمه سيفًا وطلب منه أن يدعو الناس للجهاد دفاعًا عن البلاد. ولكن هذه الأخبار لا تذكر اسم هذا المفتي سيّء الحظ الذي وضعته الأقدار في مفترق الطرق.

محنة ابن العنّابي مع الجنرال كلوزيل

وفي العهد الأول للجنرال “كلوزيل”، ظهر اسم “ابن العنابي” من جديد. فقد كان هذا المفتي موضع شبهة السلطات الفرنسية منذ دخولها، وكانت العلاقات متوتّرة بينهما، وتأزّم الموقف بين الطرفين، فحيكت له مؤامرة قرّر إثرها “كلوزيل” سجن المفتي ثم نفيه خلال مدة قصيرة. ويبدأ هذا التوتر، حسب أخبار الحملة الفرنسية على الجزائر، حينما أجبر “كلوزيل” المفتي على تسليمه بعض المساجد في المدينة لجعلها مستشفيات للجيش، متعهِّدًا له باستعمالها مدة شهرين فقط. وكان “ابن العنابي” شديد النقد للسلطات الفرنسية على خرقها للاتفاق الموقَّع بين الداي “حسين باشا” والكونت “دي بورمون” (قائد الحملة الفرنسية على الجزائر). وكان يكتب بنقده ولومه إلى الجنرال “كلوزيل”. (تولّى الجنرال “كلوزيل” قيادة الإدارة الفرنسية في الجزائر مرّتين الأولى (1830 – 1831) والثانية (1835 – 1836). وكان شديد الحماس للاستعمار، ولذلك شنّ حملة ضد الجزائريين المعارضين للاحتلال الفرنسي، فنفى بعضهم إلى المشرق، ونفى آخرين إلى فرنسا، وشرَّد وسجن الباقي في الجزائر نفسها).

وضاق “كلوزيل” ذرعًا بجرأة المفتي، فقرَّر وضع حدٍّ لها. فقد ألقى عليه رجال الدّرك القبض وقادوه إلى السجن، وتعرَّضت أسرته خلال ذلك إلى المهانة. وكانت التّهمة التي وجِّهت إليه هي تدبير مؤامرة ضد الوجود الفرنسي وإعادة الحكم الإسلامي (العثماني) للجزائر.

وتروي المصادر الفرنسية أنَّ المخبرين قد وشوشوا في أذن “كلوزيل” بأنَّ المفتي الحنفي لمدينة الجزائر رجلٌ خطير على الوجود الفرنسي، وأنَّ له تأثيرًا قويًّا على أهل البلاد. وهذا ما ادّعاه لنفسه.

ويعلِّق “ديرينو” على ذلك بأنَّ المفتي لم يكن له ذلك التّأثير المُشار إليه. أمَّا “حمدان خوجة” الجزائري فيفصِّل الحادثة، حسبما رواها له المفتي نفسه، فيما يلي: “جاء الترجمان إلى منزل ابن العنابي وطرح عليه بعض الأسئلة تتعلّق بمكانته في البلاد، وخططه المستقبلية. من ذلك أنّ التُّرجمان أخبره بأنّ كلوزيل ينوي الجلاء عن الجزائر وتسليم الحكم له، وسأله ما إذا كانت لديه القدرة على تنظيم جيش والدفاع عن البلاد، فأجابه المفتي بأنّ ذلك في استطاعته إذا اقتضى الأمر. ثم سأله التُّرجمان هل جيشه سيكون من داخل البلاد أو من مدينة الجزائر وحدها؟ فأجاب المفتي بأنّه سيجيِّش جيشًا يبلغ ثلاثين ألفًا من كل البلاد”.. وكان التّرجمان قد أخفى، حسب هذه الرواية، شخصين ظلاَّ ينصتان لهذه المحادثة، ليكونا شاهدين ضد المفتي.

فكم بقي “ابن العنابي” في السجن؟ هذا ما لا نعلمه الآن، والذي نعلمه حقًّا هو أنَّ كلوزيل قد أمر بنفيه فورًا، ولم يمهله، رغم أنّه كان صاحب أسرة وأطفال وأملاك وديون وغيرها مما يستوجب مهلة معقولة لتصفية هذه الأمور قبل مغادرة البلاد. وهذا الجانب الإنساني هو الذي جعل “خوجة” يتدخّل لدى “كلوزيل” لصالح المفتي، رغم توجّس هذا منه. فقد رجاه أن يمهله حتى يبيع أملاكه ويصفِّي ديونه ويسفّر أسرته. ولم يحصل له “خوجة” على مهلة عشرين يوما إلاَّ بصعوبة كبيرة…

(قال حمدان خوجة: وتعرضت أسرته (ابن العنابي) لجميع الإهانات بحجة أنَّها كانت تدبِّر مؤامرة. يا ترى ما الجناية التي يمكن إسنادها للنساء والأطفال؟ وهذا برهان على أنَّه كان للمفتي أسرة كبيرة ومتفرّعة)، (كما يقول خوجة بأنه سأل كلوزيل عن التهمة الموجهة إلى المفتي فأجابه بأنه كان يعدّ القبائل للثورة ضد الفرنسيين).

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا