من أوراق المؤرّخ “أبو القاسم سعد الله”.. “ابن العنّابي”.. مُفتي الجزائر ومصر (5)

إنَّ تأخُّر المسلمين في المجالات العلميّة، وقوّة وتأثير الأطراف التي كانت رافضةً للتطوُّر و”تقليد” النُّظم الغربيَّة في الصناعة والإدارة والجيش.. من الأسباب التي أبقت المسلمين في دائرة الضُّعف والتردّي، وجعلت بلدانهم أهدافًا للاستعمار الغربي. وقد تنبّه “ابن العنّابي” إلى هذا الأمر، فقام بتأليف “السّعي المحمود في نظام الجنود” وهو كتابٌ غير مسبوق في عصره، ونال شهرةً واسعة إلى درجة أنَّ والي مصر “محمد علي” دعا تلميذ “ابن العنّابي” إلى اختصار الكتاب ونشره بين النَّاس. فالكتاب كان بمثابة ردٍّ “دينيٍّ” من مُفتي الحنفيَّة على أصحاب الفكري التقليدي الرافضين للتَّجديد وتقليد الغرب في شؤون العلم والجيش..

نواصل إبحارنا مع “ابن العنّابي” في كتابه “السّعي المحمود في نظام الجنود”.. ونذكّر أنَّ المؤرّخ الدكتور “أبو القاسم سعد الله” نشر دراستين حول “ابن العنّابي” في مجلة “الأصالة” الجزائرية، خلال سبعينيات القرن الماضي، وقد اختارت جريدة “الأيام نيوز” إعادة نشر الدِّراستين مُدمجتين بتصرُّفٍ في دراسة واحدةٍ وتوزيعها على ثلاثة محاور: سيرة ابن العنّابي، بعض الأسئلة التي أجاب عنها في الفتوى، تقديم كتابه “السّعي المحمود في نظام الجنود”..

كتاب “السّعي المحمود في نظام الجنود”

النسخة التي اعتمدنا عليها في هذه الدراسة تحمل عنوان “السّعي المحمود في نظام الجنود”. ولكن تعدّد النّسخ من هذا الكتاب جعل عنوانه يتغيّر قليلاً من نسخة إلى أخرى.. ولكننا اطّلعنا على نسخة في الخزانة “التيمورية” فإذا عنوان الكتاب فيها هكذا (السعي المحمود في تأليف العساكر والجنود)، وانفردت المكتبة البلدية بالإسكندرية بإعطاء الكتاب عنوانًا فيه تصرُّف كبير، فقد جاء في فهرستها أنَّ لابن العنابي (رسالة في نظام العساكر الإسلامية). ويبدو أنَّ هذا عنوان وضعه صاحب الفهرس، وليس العنوان الأصلي للكتاب.

أمَّا “إبراهيم السقا”، تلميذ المؤلِّف “ابن العنابي”، ومُختصِر الكتاب، فقد جعل عنوان مختصره هكذا (بلوغ المقصود مختصر السّعي المحمود في تأليف العساكر والجنود)، وهذا العنوان لكتاب ابن العنابي ينسجم مع النسخة التيمورية التي اطّلعنا عليها.

ويتبيَّن ممّا سبق أنَّ كتاب ابن العنابي قد تعدّدت نسخه، وأنَّه سافر من مصر إلى إسطانبول، والغريب في الأمر أنَّنا لا نجد، حسب علمنا، نسخة منه في فهارس مخطوطات الجزائر. أمَّا النسخة التي اعتمدنا عليها فهي نسخة سوهاج (مصر) المصوَّرة لدى مكتبة معهد المخطوطات العربية بالجامعة العربية. وهي موجودة في قسم “فنون حربية وفروسية”. أمَّا في مكتبة “سوهاج” نفسها، فالنسخة موضوعة في قسم (الأدب) ومقاسها 17 × 23 سم. وخطّها رقعيٌّ جيد وهي من نسخ السيد “محمد الشربيني” وبدون تاريخ، وعدد صفحاتها 120 صفحة.

مكان وزمان تأليف الكتاب

ولكن ما مكان وزمان تأليف هذا الكتاب؟ أمَّا المكان فالغالب على الظن أنَّه القاهرة، لسببين:

الأول: أنَّ اسم المؤلف في جميع النسخ يأتي مقرونًا بعبارة “نزيل مصر القاهرة”. والثاني: أنَّنا قد عرفنا أنّ “ابن العنابي” قد تصدَّر للتَّدريس في الأزهر، وأجاز بعض العلماء في التاريخ نفسه الذي ألِّف فيه الكتاب، ومعنى هذا أنَّ المؤلِّف كتب كتابه في “القاهرة” أثناء إقامةٍ بها غير محدَّدة، وإنَّ ذلك كان قبل استيطانه “الإسكندرية” منفيًّا من الجزائر.

وأمَّا زمان تأليف الكتاب، فمن المؤكد أنَّ المؤلِّف فرغ منه في سنة 1242 هجرية (1828)، لأنَّه قد ضبط ذلك بنفسه بالحروف والأرقام. غير أنَّ نسخة “محمد بن عبد الكريم” تضيف تاريخًا محيّرًا، فقد جاء في صفحة العنوان، بعد ذكر اسم المؤلِّف، “نزيل مصر القاهرة الموجود سنة 1245 هجرية”. فما معنى كلمة “موجود” هنا؟ هل تدلُّ على كونه موجودًا في القاهرة أو موجودًا على قيد الحياة؟ ووجه الحيرة من هذا التاريخ هو أنَّنا قد عرفنا أنّ “ابن العنابي” كان موجودًا ضمن قائمة من تولّى الإفتاء في الجزائر بعد سنة 1244 هجرية. فكيف نوفِّق بين وجوده في القاهرة، مثلاً، ووجوده في الجزائر؟ الواقع أنَّه لا جواب لدينا الآن على هذه النقطة.

ظروف تأليف “السّعي المحمود”

إنَّ عقد العشرينيات من القرن التاسع عشر يمثِّل نقطة تحوّل في تاريخ الدولة العثمانية. فبالإضافة إلى المسألة الشرقيّة القديمة، هناك الحروب ضد روسيا، وثورة اليونان، والثورة الوهابية، وتهديد محمد علي، واحتلال الجزائر. ولكن القضية التي تمسُّ خاصة موضوع كتاب “ابن العنابي” هي ذلك النّزاع الطويل والخطير الذي كان بين السلطان “محمود الثاني” وفرقة الإنكشارية، وهو النّزاع الذي انتهى بالقضاء نهائيا على هذه الفرقة سنة 1826، وهي السنة التي ألَّف فيها “ابن العنابي” كتابه. وكان مصدر ذلك النّزاع هو رغبة السلطان في إدخال النُّظم الأوروبيّة الحديثة على جيشه، بعد الهزائم التي مُنيَ بها.. بينما كانت فرقة الإنكشارية وأنصارها يعارضون ذلك أشدّ المعارضة بدعوى أنّه مخالفٌ للشريعة الإسلامية.

وإذا كان السلطان ما يزال عندئذ يواجه هذه المعارضة في الأخذ بالنُّظم الأوروبية، فإنَّ والي مصر “محمد علي” كان قد تجاوز هذه المرحلة، وبدأت تظهر النتائج الإيجابية من تقليد الأوروبيين في انتصاراته الخارجية وتقدّم نظامه في الدّاخل.

ومن ثمَّة وجد “ابن العنابي” الجوَّ ملائمًا له في “القاهرة” ليكتب كتابه ويطرح أفكاره بحريّة في قضية خطيرة عندئذ، كالتي تناولها في كتابه، وهي جواز، بل وجوب، تعلّم الحضارة من الأوروبيين (أو الكفار كما يسمّيهم). ولعل ذلك يفسِّر لنا انتقال نسختين من كتابه إلى عاصمة الدولة العثمانية التي كانت في حاجة إلى مثل رأيه، كما يفسِّر لنا تكليف “محمد علي” للسيّد “السقا” باختصار “السّعي المحمود” وجعله في متناول القرّاء، لأنّه كتاب يساير الاتّجاه الذي كان هو يعمل بمقتضاه.

ماذا قال “ابن العنابي” في مقدّمة كتابه؟

وقد روى “ابن العنابي” في مقدمة كتابه هذه الظروف بشيء من الاختصار.. فالأوروبيون، في رأيه، قد نظّموا جُندهم ليضرّوا بالإسلام وأهله. وأمام هذا الخطر، أصبح من المُحتَّم على المسلمين أن يتعلَّموا منهم ما اخترعوه من صنائع ونُظم، لأنّ في ذلك مصلحة عُليا للدين والأمّة الإسلامية. فقد قال “ولِما حدث في هذه الأعصار (العصور) الآخرة، تطاول طغاة الأمم الكافرة، بترتيب أجنادهم على طريقة محكمة ابتدعوها، وتدريبهم على فنون حِيَلٍ اخترعوها، قصد المكيدة للإسلام وأهله، وسعيًا في استباحة حماه وتمزيق شمله… عظُم الخطب، فدعت ضرورة الحال إلى استعلام ذلك من قبلهم، والتدرُّب على ما ألَّفوا من صنائع وحيلهم”.

وقد أشار “ابن العنابي” إلى أنَّ الدولة العثمانية قد أخذت بهذا النّظام الجديد، وهذا يدلُّ على أنّ تأليفه كان قريب عهدٍ بحادثة الإنكشارية. كما لمَّح إلى أنَّ هذا النظام لم يكن مقبولاً لدى الجميع، وأنَّ هناك معارضة له من بعض رجال الدين وبعض الجنود المتمسِّكين بالنِّظام القديم، وحتى من بعض المتزمِّتين من شرائح المجتمع الأخرى. فقد قال في هذا المعنى “فرتّبت العساكر الإسلامية على نحو من ذلك نظامًا جديدًا، وصدر به من جانب السلطنة العليّة، أدام الله تأييدها، وضيقت ملابس الجند، واختصرت، وفنَّنت ألوانها وقصّرت، فاستكره ذلك أناسٌ..”.

دوافع تأليف “السّعي المحمود”

أمَّا الدّافع الذي حمل “ابن العنابي” على وضع هذا الكتاب، فالظاهر أنَّه إجابة أحد السائلين المستزيدين من آرائه في الموضوع. ذلك أنَّ موضوع تجديد الجيش والأخذ بأسباب الحضارة، أو إذا شئت الخصام بين أنصار التقليد والتجديد، كان على أشّده خلال عقد العشرينات، وكان حديث المجالس، ومدار الدُّروس، ولعلّه كان أيضًا مصدر الهمس والنُّكتة. ومن ذلك ما جرى في أحد المجالس التي حضرها ابن العنابي في “القاهرة”.. وقد نطق أثناء ذلك بكلام جعل بعضهم يرسل إليه، بعد افتراق المجلس، طالبًا منه كتابة رسالة في الموضوع. وهذا نص كلامه في عبارات مسجعة ثقيلة “وقد جرى بيني وبين أفاضل الإخوان، في مجمع أنسٍ جاد به الزمان، كلام علق منه بباله، فوجَّه إليَّ خطابه بكتابة جوابٍ على منواله، فلزمني أن أسعفه بما رام، وأزيده بسطًا يناسب المقام، فأقول في جوابه، متلذِّذًا بتجديد خطابه”.

أهداف “السّعي المحمود”

ولكن هذا دافع تقليدي لتأليف الكتاب، فالمؤلِّفون كثيرًا ما يخلقون شخصًا يطلب منهم أو يحثّهم على وضع كتاب في الموضوع الذي اختاروه. فهل كان بطل “ابن العنابي” حقيقيًّا أو تصوُّريًّا؟ وإذا كان حقيقيًّا فمن يكون يا ترى؟ هل هو من أصحاب والي مصر “محمد علي” نفسه الذي أمر فيما بعد، كما عرفنا، “إبراهيم السقا”، باختصار الكتاب؟ وإذا كان تصوريًّا، فهل كان اقتناع “ابن العنابي” شخصيًّا بفكرة تجديد الجيش وتقليد الحضارة الأوروبية، اقتناعًا كاملاً جعله يقدم على هذا العمل تلقائيًّا، ليدعو إلى مذهب التَّجديد الذي آمن بفوائده على دينه وقومه؟ ومهما يكن بطل “ابن العنابي”، حقيقيًّا أو تصوريًّا، فإنَّ إقدام المؤلِّف على هذا العمل، يخدم أنصار التَّجديد عندئذ، وفيهم السلطان “محمود الثاني” و”محمد علي” والي مصر، كما يخدم نزعة شخصية واضحة لدى “ابن العنابي”.

“ابن العنّابي” يدعو إلى تجديد الجيوش الإسلامية

ذلك أنَّ “ابن العنابي” لم يكن شخصية بسيطة، ولا ضيّق الأفق. فقد عرفنا أنَّه من أسرة توارثت القضاء والإفتاء، وكانت قريبة من مقاليد السلطة وذوي النُّفوذ في البلاد. وكان هو شخصيًّا قد تولّى، إلى جانب وظائفه الدينية، بعض المهمّات السياسية. وكان قد شاهد أسطول بلاده يتحطم أمام الغزو الإنكليزي – الهولندي، وأمام الأسطول الأمريكي في فترة قصيرة. ولاحظ مدى الصراع على السلطة لدى (الوجق) أو الإنكشارية في الجزائر. وقد تجوَّل في البلاد الإسلامية، فرأى ما عليه حال جيش مصر بقيادة “إبراهيم باشا”، وسمع عن انتصارات الأوروبيين على انكشاريّة الدولة العثمانية، وعاش في زمن شهد الحروب النابليونية ومؤتمر “فيينا”.

فهل نستغرب منه بعد ذلك أن يكتب “السَّعي المحمود”، داعيًا فيه إلى تجديد الجيوش الإسلامية، والاستعداد للجهاد الحق على غرار ما كان عليه الجهاد زمن الانتصارات الباهرة؟ وهل نستغرب منه أيضًا تأييده لحججه بالآيات والأحاديث وآراء المجتهدين من أئمة الإسلام الأوائل ليبرهن على أنَّ دعوته نابعة من الكتاب والسنّة والسّلف، وأنَّها في صميم التقاليد الإسلامية؟

وممَّا يلفت النَّظر أنّ “ابن العنابي” يرى أنَّ ما جاء به الأوروبيون من جديدٍ في نظام الجيش، تتلازم فيه الفكرة العسكرية والسياسة للارتباط الوثيق بينهما، لأنَّه لا جيش بدون حكم ولا حكم بدون جيش. وقد جاء في نصِّ كلامه ما يلي “اعلم أولاً أنَّه قد عُرف أنَّ ترتيب نظام الجُند على الوجه الذي ابتدعه الكفرة، يحصره امرأن: أحدهما أمور حربية، والثاني أمور سياسية..”.

هيكل كتاب “ابن العنَّابي”

واعتبارًا لهذه الفكرة، قسَّم “ابن العنابي” كتابه إلى قسمين رئيسيين، أطلق على كل منهما عبارة “مقصد”، وهما: المقصد الأول في الأمور الحربية، والمقصد الثاني في الأمور السياسية. وفي نهاية الكتاب، جاء بخاتمة طرح فيها ما لم يذكره في المقصدين من أفكار.

والمقصد الأول هو أساس الكتاب، فكرةً وحجمًا. أمَّا الأفكار فسنتعرَّض إليها، وأمَّا الحجم فقد خصّص له 97 صفحة من مجموع 120 صفحة. وبينما قسّم هذا المقصد إلى ستة عشر فصلاً، اكتفي في المقصد الثاني بإيراد أفكاره دون منهج، مُهملاً استعمال الفصول. وهذه الخطّة تنسجم تماما مع عنوان الكتاب الذي يجعله خاصا بنظام الجند، أي بالأمور الحربية. وإذا كان هذا صحيحًا، فإنَّ اشتمال الكتاب على قسم خاص يصبح خارجًا عن الموضوع. غير أنَّنا سنعرف لماذا جاء المؤلف بهذا القسم في آخر الكتاب.

ولنذكر الآن عناوين الفصول الواردة ضمن المقصد الأول (الأمور الحربية)..

الفصل الأول: في اتّخاذ الجُند وتجنيده

الفصل الثاني: في ترتيب الجند

الفصل الثالث: في تصنيف الجند

الفصل الرابع: في ضبط عدد الجند

الفصل الخامس: في قواد الجند وعرفائه قوّاد الجيش

الفصل السادس: في تسويم الجند

الفصل السابع: في تضييق ملابس الجند

الفصل الثامن: في تعيين مواقف الجند وتخصيص عملهم الفصل التاسع: في عقد الألوية والرّايات وما يتعلق بها

الفصل العاشر: في التَّدريب على الأعمال الحربية.

الفصل الحادي عشر: في الحصون والخنادق والأسلحة وعِدّة الرّمي الفصل الثاني عشر: في حيل الحرب

الفصل الثالث عشر: في الحزم

الفصل الرابع عشر: في رحمة الضعفاء وإجراء العدل وبذل الحقوق لمستحقيها.

الفصل الخامس عشر: في اجتماع الكلمة والاتفاق

الفصل السادس عشر: في جواز تعلُّم العلوم الآلية من الكفرة

وبعد هذه الفصول، يأتي المقصد الثاني (الأمور السياسية) وهو من صفحة 99 إلى صفحة 111. أمَّا باقي الصفحات فهو للخاتمة. وقد أعطى المؤلِّف شبه عنوان للخاتمة أيضًا، فقال إنَّها “في أمور شتى من أسباب النَّصر والقوة”.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا