من أوراق المؤرّخ “أبو القاسم سعد الله”.. “ابن العنّابي”.. مفتي الجزائر ومصر (الجزء الأول)

“ابن العنابي” عالِمٌ جزائريٌّ برز في القرن التاسع عشر، جمع بين السياسة والإفتاء، وكان سفيرًا لبلاده في بعض المهمّات الخاصّة إلى بعض البلدان العربيَّة قُبيل الاحتلال الفرنسي، كما كان مُفتي الحنفيَّة في الجزائر ثم في مصر. وهو إلى ذلك كاتبٌ ألَّف “السّعي المحمود في نظام الجنود” وهو كتابٌ رائدٌ في موضوعه وفي عصره، فقد دعا إلى تجديد النُّظم الإسلاميَّة والأخذ بالمناهج الأوروبية في بعض شؤون التطوّر والحضارة آنذاك.

نشَر المؤرّخ الدكتور “أبو القاسم سعد الله” دراستين حول “ابن العنّابي” في مجلة “الأصالة” الجزائرية، خلال سبعينيات القرن الماضي، وقد اختارت جريدة “الأيام نيوز” إعادة نشر الدِّراستين مُدمجتين بتصرُّفٍ في دراسة واحدةٍ وتوزيعها على ثلاثة محاور: سيرة ابن العنّابي، بعض الأسئلة التي أجاب عنها في الفتوى، تقديم كتابه “السّعي المحمود في نظام الجنود”..

جزائريٌّ عاش في عصر الحروب

رغم شهرة ابن العنابي كمفتي ومؤلف وصاحب موقف سياسي فإنّ تاريخ ميلاده غير معروف بالضبط. ولكننا إذا عرفنا أنّ المصادر تُجمع على أنّ تاريخ وفاته هو 1267 هجرية (1851)، وأنّه قد عاش حتى تجاوز السبعين سنة، عرفنا أنَّه من مواليد الربع الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي.

وهذه الفترة التي عاشها “ابن العنابي” تعدّ من أحرج الفترات التاريخيّة لا في الجزائر فحسب ولكن في الدولة العثمانية والعالم الإسلامي قاطبة، فقد عاصر الثورة الفرنسية وما نتج عنها من أحداث مسَّت جوانب متعددة من الحضارة الإسلامية، وعاصر في بلاده (الجزائر) حروبًا خارجية ضد الإنكليز والأمريكان والفرنسيين والإسبان وغيرهم، وحروبًا داخلية كثورة الطريقة الدرقاوية وثورة ابن الأحرش، والتَّنازع على السلطة بين الطائفة التُّركية نفسها سواء على مستوى السلطة المركزية في مدينة الجزائر أو على مستوى الأقاليم..

شاهدٌ على التّدهور والوباء..

وبالإضافة إلى ذلك، عاصر ابن العنابي، الذي تولّى عدّة وظائف رسميّة كما سنرى، بداية عهد التنظيمات في الدولة العثمانية من جهة، وأخذِ “محمد علي” والي مصر عندئذ بمبادئ التمدُّن الغربيَّة من جهة أخرى. وسنرى أنَّ هذه التنظيمات والمبادئ هي التي دفعته إلى كتابة كتابه “السّعي المحمود في نظام الجنود”. أمَّا في الجزائر حيث كان يعمل، فإنَّنا لا نجد هذه الظاهرة قد وجدت لها مكانًا.

حقًّا إنَّ الإنكشارية قد تدهورت كنظامٍ، وأصبحت عاملاً سلبيًّا في الحياة السياسية والاقتصادية، بل أصبحت مثار فتنةٍ واضطراب في البلاد، ولعل ذلك هو ما جعل الداي “علي خوجة” يحاول التخلُّص منهم سنة 1817 بطريقة سبق بها السلطان “محمود الثاني” معهم. ولكن “علي خوجة” قد مات بالوباء، وفشل فيما رامه، وعاد بعده الانكشاريةُ إلى صولتهم. ولعلَّ ذلك هو ما ساعد على احتلال فرنسا للجزائر بعد حوالي عشر سنوات من وفاته. (ذلك الوباء، مات منه خلق كثير، ودام حوالي سبع سنوات، وتوقّف بسببه أداء فريضة الحج فترة).

“ابن العنّابي”.. اسم عائلة عريقة في العلم والقيادة

وقد ولِد ابن العنابي على ما يظهر في مدينة الجزائر في التاريخ المشار إليه، واسمه الكامل هو محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري، وشهرته العنّابي أو ابن العنّابي. وكان على مذهب الحنفيّة. وأسرته.. قديمة في تاريخ الجزائر، ولكنها ظهرت فيما يبدو بعد مجيء العثمانيين. فنحن نجد اسم جدّه الثاني (حسين بن محمد بن العنابي) في قائمة المفتيين الأحناف في الجزائر سنة 1148 هجرية (1735م)، والمفتي الحنفي في الجزائر خلال العهد العثماني هو “شيخ الإسلام” الذي لا يفوقه في المنزلة والاعتبار سوى “الداي” أو رئيس الدولة. وكان حسين بن العنابي، فيما يبدو عالمًا واسع المعرفة بعلوم الشريعة، وله تفسير للقرآن الكريم ينقل عنه حفيده، موضوع هــدا البحث، في كتابه “السّعي المحمود” عدّة مرات، ويشير إليه بهذه العبارة “قال مولانا الجدّ الأكبر حسين بن محمد رحمه الله في تفسيره”.

واشتهر عالم آخر من هذه العائلة وهو مصطفي بن رمضان العنابي المتوفي سنة 1130 هجرية وهو عمُّ حسين المذكور. أمّا جدّ المؤلِّف الأدنى “محمد بن حسين” فقد أصبح قاضي الحنفية بالجزائر وتوفي سنة 1203 هجرية في مصر. ورغم أنَّ والده “محمود بن محمد” لم يتقلَّد، حسبما نعلم، منصب الإفتاء أو القضاء (إذ لا نجده ضمن قائمة هؤلاء أو أولئك) فإنَّه كان يُعتبر من علماء العصر. وقد توفي هو أيضًا في مصر (دُفن عند ساحل السويس) عند منصرفه من الحج سنة 1236 هجرية. وهكذا نجد أنَّ صاحبنا “ابن العنابي” ينتمي إلى أسرة جزائرية عريقة في العلم والوظائف الرسمية والفقه الحنفي.

العنّابي.. ليس نسبة إلى مدينة عنّابة

أمَّا عن تسميّة “العنَّابي” أو “ابن العنَّابي”.. لا ندرى كيف ولا متى لصقت به هذه النسبة (إلى عنابة)، والظاهر أنَّها نسبة إلى أحد أجداده.. ولعل جدّه “حسين” هو الذي أخذ النسبة أولاً لأنَّ صاحبنا يتوقّف عنده. وقد كنّا ترجح أنَّ صاحبنا أخذ هذه النسبة بعد خروجه من الجزائر، لولا وجودها في اسمه في نصٍّ قديم يعود إلى سنة 1811 (1226هـ) عندما كان في الجزائر.

وصاحبنا كان يكتبه بنفسه (ابن العنابي)، ولكن بعض المؤلفين، ومنهم “بروكلمان” يكتفون بـ “بالعنابي” فقط. والرَّاجح أنَّها ليست نسبة إلى مدينة “عنابة” ولكنها شهرته، وهو قد استعملها كذلك في جوابه على مسألة التَّوحيد الذي يعود إلى سنة 1811، فقال بعد ذكر اسمه “المدعو بابن العنابي”. ويستعمل بعض المؤلفين عبارة “الشهير بابن العنابي”. وقد استعمل “الزهّار”، المعاصر له، مرة ابن العنابي ومرة العنابي فقط. أمّا “خوجة” المعاصر له أيضًا، فقد استعمل العنابي، بخلاف “ديرينو” الذي استعمل ابن العنابي.. وهي في الواقع شهرة جدّه الأعلى أيضًا، “حسين بن محمد بن العنابي”.

ثقافة تقليديّة واسعة..

تثقّف “ابن العنابي” ثقافة واسعة بمفهوم عصره. ونحن نقول “بمفهوم عصره”، لنمهّد إلى القول بأنَّ ثقافته تقليدية إذا ما حكمنا عليها من خلال كتابه “السّعي المحمود في نظام الجنود”، ومن خلال “ثبته” المعروف بـ “ثبت الجزائري”، فهو حافظٌ وناقلٌ أكثر منه مفكّرًا ومجتهدًا. ومهما يكن الأمر فقد تلقّى العلمَ في وطنه على جدّه وعلى والده، كما تلّقاه على المفتي المالكي علي بن عبد القادر بن الأمين. وهؤلاء هم الذين ذكرهم في “ثبته” وهو يشير إلى روايته الحديثَ وغيره. فقد قال أنّه قرأ بعض “صحيح البخاري” على جدّه (یعني جدّه الأدنى)، وأجازه ببقيّته وبكتب الحديث الستّة الأخرى. أمَّا عن والده، فقد قرأ الفقه الحنفي وغيره من العلوم، وهو يروي “صحيح البخاري” (بأعلى سند يوجد في الدنيا، عن شيخه علي بن عبد القادر المفتي المالكي المذكور)، ويسمّيه تارةً: “شيخي أبي الحسن”، وتارة “شيخنا ابن الأمين”، وأحيانًا يقول: “صاحبتُ شيخنا”. ولكننا إذا تأمّلنا في مصادر (السعي المحمود) وجدنا أنَّ “ابن العنابي” كان عميق الثقافة، سواء منها تلك التي تمُتُّ بصلةٍ إلى علوم الدين أو علوم الدنيا. أمَّا في “الثَّبت”، فهو يتحدَّث فقط عن روايته لمسلسلات الحديث الشريف وهي المعروفة بـ “السَّند”.

وقد كان في مدينة الجزائر علماء معاصرون له، نذكر منهم: المفتي الشاعر محمد بن الشاهد، المفتي مصطفي بن الكبابطي، والعالم محمد بن مالك، الكاتب السياسي حمدان خوجة.

مكانةٌ علميَّة مرموقة..

ولعلّ الذي رشَّح “ابن العنابي” للوظائف الرسميّة في الدولة هو مكانة أسرته ومنزلته العليّة. وقد عرفنا أنَّ أسرته كانت ذات حظوة لدى دايات الجزائر منذ أوائل القرن الثاني عشر للهجرة (الثامن عشر الميلادي). أمّا المنزلة العلميَّة، فالظاهر أنَّ “ابن العنابي” كان متمكِّنًا في العلوم الشرعيّة خاصة، وأقدم نصٍّ وجدناه له يدلُّ على ذلك. فقد عثرنا له على جواب أجاب به على مسألةٍ في التَّوحيد بدأه هكذا “ورد عليّ سؤال نصّه بعد عنوانه، إذا قيل حيث كان أهل الحق مُطبقين على أنّ الحق تعالى يُرى في الآخرة بالإبصار، فأقول: اعلم أوّلاً أنَّ المُدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال كالصّور المتخيَّلة والأجسام المتلوِّنة المتشكِّلة وإلى ما لا يدخل في الخيال كالذات العليّة، وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والإرادة..”. وعندما وصل في هذه المسألة إلى الفصل بين رأى المعتزلة وأهل السنّة، اختار “ابن العنابي” رأي أهل السنّة قائلاً عن رأي المعتزلة “ونحن لا نقول به لضيق مجاله فنسلِّمه لأربابه، سالكين مسلك الجمهور من أهل السنّة لوضوح أدلتهم…”. ويتَّضح من هذا النصِّ القصير منطق “ابن العنابي” في معالجة هذه القضية الشائكة وترجيحه لرأي الجمهور المعروفين بتفضيل النّقل عند تعارض الأدلّة، فإذا عرفنا أنَّ تاريخ هذا النص يعود إلى سنة 1226 هجرية (1811م)، عرفنا منزلة “ابن العنابي” المبكِّرة لدى علماء عصره، وهي المنزلة التي جلبت إليه انتباه حُكّام عصره أيضًا.

ابن العنّابي.. قاضي الحنفيّة في الجزائر

والوظائف الرّسمية التي تولاّها “ابن العنابي” في الجزائر متنوِّعة. والظَّاهر أنّ أول من ولّى “ابن العنابي” وظيفة القضاء الحنفي هو الداي “أحمد باشا” خلال سنوت (1805 – 1808). ذلك أنَّ النصّ الذي بين أيدينا يَنسِب إلى “ابن العنابي” عندئذٍ مهمَّتين كبيرتين: الأولى وظيفة القضاء، والثانية الكتابة إلى باي تونس. فقد جاء في مذكِّرات “أحمد الزهّار” أنّ الباشا قد أمر “الفقيه محمد بن العنابي، قاضى الحنفية، أن يكتب كتابًا إلى حمودة باشا باي تونس، فكتب الكتاب وبعثوا به”. ووعد “الزهّار” أن يذكر نصّ الكتاب في مبيّضته، ولكنه لم يفعل لأنّه لم يبيِّض عمله. وعلى كل حال فقد أشار إليه بأنَّه يقع في “ورقة صغيرة”، ولو ذكره لعرفنا منه فحوى الكتاب وأسلوب كاتبه. ومهما يكن الأمر، فإنَّ هذا الخبر يشير إلى منزلة “ابن العنابي” لدى الدَّاي، ولولا ذلك لاستكتب الدّاي كُتّابه الرسميّين (أو الخوجات) للغرض نفسه، إذ المعروف أنَّ قاضي الحنفيّة (أو القاضي عامّة) لا يقوم بهذه المهمّة.

ويختفي اسم ابن العنابي فترة من الوظائف الرسميَّة، فلا يظهر من جديد إلاَّ في عهد الداي “عمر باشا”، في الفترة (1814 – 1816)، فقد وُجد اسمه عندئذ هكذا “محمد بن محمود”، ضمن قائمة وزراء وأعيان الباشا المذكور، متقلِّدًا وظيفة “نقيب أشراف مكة والمدينة”، واضعًا أمام ذلك ختمه الذي يحمل تاريخه. (يذكر “أحمد توفيق المدني” في كتابه “مذكّرات الزهّار” أنَّ “ابن العنابي” قد تولّى القضاء الحنفي للباشا نفسه، وكان آخر قُضاته قبل وفاته. أمَّا الباحث “عبد الجليل التميمي” فيذكر أنَّ القاضي الحنفي كان يُدعى “سليمان بن محمد”، وأنَّ المفتي الحنفي كان يُدعى “محمد بن أحمد”. ولعلّ قِصر مدّة التوليّة لهؤلاء هي التي سبَّبت هذا الغموض..).

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا