من أوراق المؤرّخ “عبد الرحمن الجيلالي”.. الشيخ “عبد الحليم بن سماية” فارس العلم والدين والمواقف (الجزء الثالث)

الشيخ “عبد الحليم بن سماية” هو أستاذ المؤرّخ “عبد الرحمن الجيلالي”، وقد كتَب التلميذ بكل محبّة وإعجاب عن أستاذه، فأبلغ في وصف غزارة علمه ومهابة شخصيته ورفعة مكانته في مجتمعه، بل كشف عن بعض المعلومات والمواقف مثل سعة اطّلاع الشيخ “ابن سماية” على الأناجيل ولا سيما إنجيل “برنابيا”، والتوراة والتلمود، في لغاتها غير الغربيَّة، وكان يُجادل ويُناظر الأحبار والرّهبان في شؤون أديانهم وكُتبهم..

ومن ذلك قصة مجادلته لحِبرٍ يهودي، فقد قال “الجيلالي”: “وسمعتُه مرَّة يروي لنا قصة مناظرة جرت له مع حِبرٍ من أحبار اليهود حول إثبات تبشير التّوراة بنبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فأنكرها اليهودي. فبينما الشيخ مستمرًّا في حديثه بفصيح العبارة، إذا به ينطق بهذه الجملة الغريبة (وهمليخ هايا هو بمركبه نوضح ارم)، فأسرعتُ إلى كتابتها أولاً، ثم بعدما انتهى (الشيخ) من حديثه استفهمته عن معاني ألفاظ هذه الجملة وعن تركيبها؟  فقال لي: هذه ألفاظ عبرانيّة تعبِّر عن ثبوت ذِكر نبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام في كتبهم، وقد جاءت هذه الجملة في كتاب لهم مُعظَّم لدى أحبارهم يسمونه (ميلاخيم)”.

وتحدّث الشيخ “الجيلالي” عن هيئة أستاذه، قال: “وكان حسن الشّارة يظهر دائمًا في شكل أنيق وهيئة حسنة، يتعمَّم بعمامة هندية الصُّنع جزائرية الوضع والشّكل (طربانطي)، ويلبس من فوق القميص (البداعي) وفوقهما (الجباضولي) أو ما يُسمَّى (الدامي) وفوق ذلك كله العباءة أو تارة البرنس يلقيه كرداءٍ على كتفيه، وقد يجمع بين العباءة والبرنس في حُسن سمتٍ، وكان مولعًا بتناول القهوة والتَّدخين”، ونعتقد بأنَّ هذه العبارة هي مفتاحٌ لمعرفة اللّباس التقليدي لأعيان الجزائر في تلك المرحلة التّاريخيَّة، بتسمياتٍ لأنواعٍ لم يتبقَّ منها إلاّ “البرنس” (البرنوس).. إضافة إلى ما في كتابة “الجيلالي” من أسماء لأعلام جزائريين قد لا نجد مصادر أخرى تتحدّث عنهم..

نواصل إبحارنا في مقال شيخنا الجليل المؤرّخ “عبد الرحمن الجيلالي”، الذي نشره بمجلة “الأصالة” الجزائرية” في مارس 1973، وأضاء فيه “جوانب من كفاح الشيخ عبد الحليم بن سماية السياسي والثقافي”..

رجل البرهان والاستدلال والحوار العلمي

واشتهر الشيخ “عبد الحليم” من بين أساتذة عصره بالصلابة في الدين ودفع شبه المعارضين بما يستنبطه من الأدلة اليقينية، فإنّه كان مهما تُعرض عليه بعض الشُّبَه التي يدلي بها بعض الناس – نحو الإسلام – وأغلبهم كان من مشائخ الإفرنج بالجامعة الجزائرية حينما كانوا يتَّصلون بتلامذة الأستاذ بالمدرسة إلّا ويتصدّى لها الشيخ بالمناقشة والحوار العلمي حتى يدحضها بناصع برهانه وصحيح استدلاله، وهكذا كان – رحمه الله – في كل موقفٍ يقفه تجاه الملحدين وضلالات المبشِّرين واعتراضات المبطلين، ولا عجب في ذلك من رجلٍ ثاقبٍ الذهن مثله رُزق البراعة في البيان والاهتداء إلى ناصع البرهان.

حياةٌ يوميّة بين التّدريس في المدرسة والمسجد

وفي 15 أكتوبر 1900 أُسندت إليه خطّة التّدريس بالجامع الجديد مكان والده المرحوم الشيخ “علي بن سماية”، فشمَّر الشيخ عن ساعد الجد والاجتهاد وكرَّس حياته لخدمة الملّة الإسلامية، وأخذ على عاتقه القيام بالمنصبَين أحسن قيام، فقسَّم ساعات العمل اليومية بين المدرسة والمسجد، فجعل منها للمسجد 12 ساعة في الأسبوع، وللمدرسة 14 ساعة، وشرع في تدريس علوم اللغة والشريعة والمنطق بما سبق ذكره من الكتب، وبما أنَّه – رحمه الله – كان حنفِيَّ المذهب فإنّه كان يقتصر في دروس الفقه على كتب الشرنبلالي والقدوري والطحطاوي وابن عابدين والنسفي، وعندما يُستشار من طرف العامة في اختيار كتاب لهم في الفقه، فإنّه يشير عليهم برسالة “أبي محمد بن أبي زيد القيرواني” المالكي.

المؤرّخ “الجيلالي” من تلاميذ “ابن سماية”

وكان فيما أخذناه عنه وتلقّيناه عنه من الكتب التي أقرأها في تدريسه بالمسجد خلال سنوات (1343 – 1344 – 1345 هجرية) ورقات إمام الحرمين في الأصول، وشطرًا من تنقيح القرافي، ورسالة العضد في علم الوضع، وشرح السجاعي على المقولات العشر، والجوهر المكنون في البلاغة للأخضري بشرح مؤلِّفه المخطوط، ونظم الخزرجية في العروض، وقطر الندى في النحو، وتفسير سورة البقرة بالجواهر الحسان للثعالبي، وهذا من غير ما كان يُلقيه من دروس عامة للعامّة في سائر الأمكنة العامة والخاصة وفي المحافل والنوادي وحيثما حلّ وارتحل وفي أيّ بلد وجد سفرًا وحضرًا.

وإنّي لمعتزٌّ وفخور بما أتحفني بل وشرَّفني به من تفضُّله عليّ بكتابة إجازة بخطّه، أجازني فيها بما أجازه به والده وجمع من مشائخه في رواية صحيح الإمام البخاري متَّصلة السَّند المسلسل بشيوخ العلم والحديث على الطريقة السلفية.

بليغٌ لا يتكلّم باللغة العاميّة في دروسه

وكان درسه – رحمه الله – جزلًا بليغًا، يتكلم بفصاحة وعبارة منقّحة بليغة وألفاظ فخمة، وذلك يرجع إلى غزارة مادته اللغويّة التي كوَّنها أو تكوَّنت فيه بسبب انكبابه على مطالعة معجم “لسان العرب” حتى كاد ألَّا تخفى عليه مادة من مواده، فهو لا يتنازل في دروسه إلى اللغة العاميَّة أبدًا، اللّهم إلّا في بعض النوادر أو الحكايات التي قد يسوقها أحيانا في المجلس للتَّسلي وهي لا تخلو من فائدة تكون متصلة بموضوع الدَّرس، فكان لذلك لا يُملُّ حديثه، ولا يشعر بالضَّجر جليسه، وبهذا الصَّنيع تخرَّج على يده جمع من الأدباء والعلماء شغلوا مناصب التدريس والقضاء والإفتاء والإمامة في مختلف أنحاء القطر الجزائري، وفيهم من شارك في وظائف سامية بالمغرب..

وكان – رحمه الله – لا يُرى مرتاحًا فيما يلقيه على تلامذته من الدروس، إلّا إذا شعر من نفس التلميذ باطمئنان إلى ما تلقَّاه ووعى وحفظ لِما زاوله من المسائل المطروحة في الدَّرس.

مُجادلٌ للرّهبان والأحبار بلغاتهم

وكان للشيخ إلمامٌ باللغة الفرنسية، فهو يتحدَّث بها أحيانًا عند اللّزوم، كما كانت له معرفة باللغة العبرانية واطِّلاع على ما بيد أهلها من نصوص العهد القديم والجديد من إنجيلٍ وتوراةٍ وتلمود، وكثيرًا ما كان يجادل أصحابها في دينهم ويناظر أحبارهم ورهبانهم ويسوق لهم الأدلّة والنصوص من كتبهم وبلسانهم. وسمعتُه مرَّة يروي لنا قصة مناظرة جرت له مع حِبرٍ من أحبار اليهود حول إثبات تبشير التوراة بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فأنكرها اليهودي. فبينما الشيخ مستمرًّا في حديثه بفصيح العبارة، إذا به ينطق بهذه الجملة الغريبة (وهمليخ هايا هو بمركبه نوضح ارم)، فأسرعتُ إلى كتابتها أولاً، ثم بعدما انتهى من حديثه استفهمته عن معاني ألفاظ هذه الجملة وعن تركيبها؟  فقال لي: هذه ألفاظ عبرانية تعبِّر عن ثبوت ذِكر نبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام في كتبهم، وقد جاءت هذه الجملة في كتاب لهم مُعظَّم لدى أحبارهم يسمونه (ميلاخيم)، وينسبونه لليسع عليه السلام، والعبارة هذه تثبت ذكر اسم نبي الإسلام عندهم، كما أنَّها تحمل البشارة بظهوره. وهكذا كان يفعل مع رهبان النصرانية أيضًا فكان يجادلهم بأناجيلهم وكثيرًا ما يفحمهم ولا سيما عندما يستدل لهم بإنجيل بارنابا، فكأنَّما رماهم بقاصمة الظَّهر.

شيخٌ مولعٌ بالقهوة والتَّدخين

وأمَّا ما فُطر عليه وجُبلت عليه نفسه من الأخلاق الكريمة والشِّيم فإنَّه كان – كما عرفه جميع من عاشره – حلو الشمائل شجاعًا طموحًا إلى الأخطار في استرجاع الشجاعة الأدبية وفي المجتمع أيضًا إلى قومه، يلتهب غيرةً على دينه ووطنه بمعناه العام الواسع لا الخاص الذي حددته السياسة، وقورًا عظيم المهابة، كريمًا أريحيًّا أنوفًا، متواضعا يتلألأ في وجهه نور العلم والوقار والجمال، وضَّاح المُحيَّا، جميل المبسم، مشرق الجبين قد داعبت زرقة السماء مقلتيه فأشرقتا في طلعته البهيَّة إشراق الشمس والقمر، متماسك الجسم تام الخلق ربعةً فسبحان من خلقه في أحسن تقويم. وكان حسن الشارة يظهر دائمًا في شكل أنيق وهيئة حسنة، يتعمَّم بعمامة هندية الصُّنع جزائرية الوضع والشكل (طربانطي)، ويلبس من فوق القميص (البداعي) وفوقهما (الجباضولي) أو ما يسمى (الدامي) وفوق ذلك كله العباءة أو تارة البرنس يلقيه كرداءٍ على كتفيه، وقد يجمع بين العباءة والبرنس في حُسن سمتٍ، وكان مولعًا بتناول القهوة والتَّدخين.

شاعرٌ ينظم المُوشّحات

وللشيخ مقدرة عظيمة على الترسُّل ونظم الشِّعر، وله مكانة عالية في نثره ونظمه، فهو يكتب على أسلوب البُلغاء من الرَّعيل الأول فلا تكلُّف ولا تعسُّف وتارة يميل إلى السَّجع، وله تخصُّص في الشِّعر بنظم الموشحات على أسلوب ما نظمه أدباء الجزائر وعلماؤها من موشَّحاتهم المولدية – الخاصة بالمولد النبوي الشريف – الشهيرة الموزونة على مقتضى الأنغام والألحان والطُّبوع الموسيقيّة الأندلسية التي أشار إليها الشيخ “سيدي أحمد بن عمار” في رحلته “نحلة اللبيب بأخبار الرحلة إلى الحبيب”. وكان الشيخ يحسن هذا الفن، فانصت معي إلى قوله في طالع مُوشَّح:

يا روح سار تعطَّر

من نشر أهل الخيام

بالله تتخطَّر

واحمل إليهم سلامي

بلِّغ إلى أهل طِيبه

منِّي عظيم التحيَّة

قف وقفة مُستطيبة

عند كريم السجيَّة

وانشق هنالك طِيبه

من روضة عبقريَّة

وهذه مقطوعة له أخرى من قصيدة نظمها بمناسبة اطّلاعه على صنيع صديقنا الأستاذ “أحمد الأكحل” في رسالته (روح السعادة) المطبوعة بالجزائر (1342 هـ – 1925)، فقال:

رعى الله امرئ يرعى المعالي

يسامر نجمها جنح الليالي

له نفس لها لحظ طموح

إلى أعلى ذرى حسن الخلال

له عقل له أنف شموخ

أبي إلّا طلوعًا كالهلال

وخير الناس من يهدي أناسا

إذا ركبوا أهازيج الضَّلال

وخير الهدى هدى من لسان

أَمون ناصح للزُّور قالي

ويقول فيها:

إذا ضيَّعت عمرك في محال

متى تسمو إلى أفق الكمال

فوقتٌ للطعام ووقت نردٍ

وأوقات على قيل وقال

متى تترك أخي للعلم وقتًا

فنجم العلم عندك برج خال

ولهذه القصيدة مقدّمة اجتماعية كتبها الشيخ نفسه تمهيدًا لها، نقتطف منها الفقرة التالية كأنموذج لأسلوب الشيخ في نثره وما يرمي إليه من إصلاح المجتمع، وكتابة المرء تمامة على علمه، وعقل الكاتب في قلمه.

“الحمد لله الذي ورَّث ذريّة سيدنا محمد العلمَ، وخصَّهم منه بمطالع إذا أهَّلّت أهلَّتهم فيها هللٌ لرؤيتها ذوو البصائر والفهم، وشهدوا أن ذلك الجمال، لا يشرق إلّا من أفق العلا والكمال، والصلاة والسلام على منيع الحِكم، ومنير الدياجي إذا ادلهمَّت دياجير الظُّلم، وعلى آله وذريَّته وعترته الآخذين باليمين رايات المجد والكرم.

وبعدُ، فإنَّ الجزائر بلدة كانت يُشار إليها بالبنان، في العلم والهناء ومصادر الخيرات والجود والإحسان، مصونة ممَّا هو نصب الأعين من التَّجاهر بالفساد، وممَّا هو شائع ودائع من مرأى الزِّنى والسُّكر وكل ما يقذي العين ويُشجي الفؤاد، مشكومة أهلها بشكيمة الدين ولجام العفَّة ومكارم الأخلاق والحياء، عن التلفُّظ بألفاظ الفحش فضلاً عن التَّجاهر به في الخلاء والملاء، إلى أن قضى الله بهتك سترها، فأفضت إلى ما هو مُشاهدٌ من أمرها، بعوامل قاطعة لأزمة الدين، والحسنة لاطة فيه بالقذف والتَّقبيح والتَّشيين، إلى أن انقلب ظهر المجنّ، وصار أعقل الناس من كان في حضرة المكر أجن، وسُدَّت أبواب الأرزاق، وضاق بالخلق النِّطاق، محنة دخلت على المسلمين من إهمالهم وصيَّة سيّد المرسلين (من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فعوضًا عن العمل بها اشتغل كل فرد إلّا القليل بما لا ينفعه ولا يغنيه..”.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا