الإمام عبد الحميد بن باديس.. زارع “المحبّة العادلة”

الإمام العلاّمة “عبد الحميد بن باديس” زارعٌ للمحبَّة ومن أنصار الإنسانيّة ولكن وفق شروط “العدل والإنصاف والاحترام”، وداعيَّةٌ إلى تربية الذّوق الجمالي ليُبصر الإنسان ما في هذا الكون من آيات الجمال.. ولكن من منظورٍ إسلامي، فقد يكون الجمال فتنةً وبابًا من أبواب الشرّ.

أضاء الأستاذ الدكتور “عمار طالبي” زاويةً قلّما تنبّه إليها الدّارسون لفكر وآثار الإمام “عبد الحميد بن باديس” حول مفهوم الفن والجمال والنّزعة الإنسانية عند رائد النهضة الجزائرية، حيث نشر مقالًا في مجلة “الأصالة” الجزائرية، في مارس 1972، بعنوان (النَّزعة الإنسانية والجمالية عند ابن باديس)، وتُعيد جريدة “الأيام نيوز” نشره بمناسبة يوم العلم، ببعض التّصرف وتغيير العنوان الأصلي.

المغتربون روحيًّا لا يؤمنون بعبقرية أبناء الوطن

قد يبدو عنوان هذا المقال (النَّزعة الإنسانية والجمالية عند ابن باديس) مفتعلاً إذا نسبناه إلى شخصية مثل شخصية “ابن باديس”، إذ يتصوَّر الذين لم يدرسوا الجوانب المختلفة لفكره أنّه لم يعالج مثل هذه المشكلات التي تُعتبر في نظرهم غريبة عنه وعن آفاقه الثقافية وخاصة بعض زملائنا الذين تكوَّنوا تكوينًا غربيًا، وأنبتوا عن أصول مجتمعهم الثقافية، وانقطعت قلوبهم وعقولهم عن جذور أمّتهم، فأصبحوا غرباء فى ديارهم، منفصلين عن أنفسهم، لا يمكنهم أن يقتنعوا بأنَّ مسلما عربيًّا يفكِّر فى المشكلات الكبرى التي تمسُّ الإنسان من حيث هو إنسان، لأنَّهم اقتنعوا بالانفصال، وارتسمت في عقولهم صورة قاتمة عن أصولهم، وعمّن ارتبط بها، فلم يعودوا قادرين نفسيًّا أن ينسبوا أيّ شيء ذي قيمة إليها، وانغلقت صدورهم على أفكار سوداء داكنة لم تكن لتسمح لصورة أو لفكرة أخرى مضيئة لأن تنفذ إليها، فمن لنا بأن دروا أنّهم لا يدرون؟ وأنّى لهم أن يقتنعوا أنّهم منبتون لا يفهمون!

النّخبة المثقّفة قسمان: أحجارٌ.. وكُفّار!

لقد أدرك “ابن باديس” نفسه هذه الظاهرة الغريبة في عهده، وفكَّر فيها وكتب عنها، فبيَّن لنا أنّ النُّخبة المُثقّفة في عهده قسمان متصارعان، فطائفة كانت تقتصر على أخذ علوم الدين واللِّسان وأخرى كانت تدرس العلوم الطبيعية وغيرها باللسان الأجنبي، وصوَّر لنا نظرة الطائفتين إحداهما للأخرى، فقال: “فهؤلاء يعتبرون الآخرين أحجارًا.. وأولئك يعتبرون هؤلاء كفّارًا”. ويبدو أنَّ هذا التَّعبير أحسن بيانٍ يصوِّر لنا النخبة المثقفة لذلك العهد، وماتزال آثار هذه الظاهرة قائمة إلى يوم الناس هذا.

لن نخدم الإنسانية ما لم نخدم أوطاننا

وإذا كان “ابن باديس” ينزع نزعةً إنسانية فإنَّه لم يمنعه ذلك من أن يعتبر خدمة وطنه وخدمة أمنه سبيلاً طبيعيّةً لخدمة الإنسانية قاطبة، لأنَّه لا يمكن – فى نظره – أن نخدم الإنسانية ما لم نخدم أوطاننا وشعوبنا، قال ابن باديس: “إنّ خدمة الإنسانية فى جميع شعوبها، والحدب عليها في جميع أوطانها، واحترامها في جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها، هو ما نقصده ونرمي إليه، ونعمل على تربيّتنا وتربية من إلينا عليه، ولكن هذه الدائرة الإنسانية الواسعة ليس من السَّهل التوصُّل إلى خدمتها مباشرة ونفعها دون واسطة، فوجدتُ التفكير فى الوسائل الموصلة إلى تحقيق هذه الخدمة وإيصال هذا النَّفع”.

التصوُّر القرآني للحقيقة الإنسانية

وقد استمد “ابن باديس” هذه النَّزعة الإنسانيّة من التصوُّر القرآني للحقيقة الإنسانية، تلك الحقيقة التي احترمت الكائن البشري، وأولته الدرجة الأولى من الكرامة، وأوضحت للناس أجمع أنَّ بني الإنسان من طينة واحدة، وأنَّ هذه الطّينة أو تلك الطبيعة تتساوى فيها جميع الأجناس. إنَّ القرآن قد صرَّح بالكرامة الإنسانية تصريحًا لا تشوبه شائبة من شك أو تحوم حوله حائمة من ظن، “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ” (الإسراء: 70).

كما عبَّر لنا القرآن عن أصل الطبيعة الإنسانية الواحد وعن أرومتها المتحدة التي استند إليها في دعوته إلى التّعاطف والتّراحم والمحبّة والأخوة، فخاطب بني آدم كافة بهذا النداء العميق الذي يتوجّه إلى فطرة كل كائن من الكائنات الناطقة، “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا” (النساء: 1)

بل إنَّ القرآن اعتبر الاعتداء على الموجود البشري اعتداء على البشرية قاطبة، كما أنَّ إحياء فرد واحد إحياء للحقيقة الإنسانية كلها، “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” (المائدة: 32). واحترم الإسلامُ أديانَ الآخرين وأفكارهم وعقائدهم، “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” (الكافرون: 6).

ودعا القرآن الكريم إلى التَّعايش السلمي بين مناهج الناس في الحياة وتصوُّراتهم لها، وهوَّن عليهم أمر الاختلاف فيها “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” (المائدة: 48).

وشرَّع للإنسان مبدأ العدل العام حتى مع العدو، “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا” (المائدة: 8). وقرَّر مبدأ أخلاقيًّا اجتماعيًّا حضاريًّا في مخاطبة الإنسان لأخيه الإنسان، فأمر بأن يكون خطابًا لطيفًا ليّنًا جميلاً، “وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا” (البقرة: 83).

فهمُ “ابن باديس” للمذهب الإنساني الإسلامي

وهكذا فهم “ابن باديس” أصول المذهب الإنساني الإسلامي، وحلَّلها فيما كتب، وفيما شافه به أمّته. وانتهى في تصوُّره للحقيقة الإسلامية إلى القول بأنَّها حقيقة دينية إنسانية، فقال: “علمنا أنّه دين الإنسانية… فإذا عشتُ له فإنّي أعيشُ للإنسانية لخيرها وسعادتها في جميع أجناسها وأوطانها، وفي جميع مظاهر عاطفتها وتفكيرها”. وآمن “ابن باديس” بوطن الإنسانية العام، كما آمن بأوطان أخرى خاصة، تبدأ من الجزائر ثم المغرب العربي ثم الوطن العربي فالوطن الإسلامي، وتنتهي بوطن الإنسان من حيث هو إنسان.

“ابن باديس” أحبَّ الإنسانية وبغَض من يبغضها

أحبَّ “ابن باديس” الإنسانية وبغَض من يبغضها أو يظلمها أو سوَّلت له نفسه أن ينال من كرامتها، وعبَّر لنا عن هذه النَّزعة الإنسانية القائمة على الحبّ فى صورة واضحة جميلة واقعية فيها تأكيد لهذا المعنى، وإلحاح فى الإبانة عنه، فقال: “إنّنا نحبّ الإنسانية ونعتبرها كلاًّ، ونحبُّ وطننا ونعتبره منها جزءًا، ونحبّ من يحبّ الإنسانية ويخدمها ونبغض من يبغضها ويظلمها”، فليس هناك في نظره أيّ تناقض بين حبّ الوطن وحبِّ الإنسانية، بل إنّه ردّ على أولئك الذين ينكرون الأوطان الخاصة لأنَّها بزعمهم ضدَّ إنسانيتهم.

الإنسان، فيما يرى “ابن باديس”، إذا أحبّ وطنه وغذّى عقله بالمعرفة السليمة فإنَّه يشعر بالحب العميق لكلّ من يجد فيهم صورته الإنسانية وكانت الأرض كلها وطنًا له، وهذا هو وطنه الأكبر، هذا ترتيب طبيعي لا طفرة فيه ولا مَعدَل عنه، فلا يعرف ولا يحبّ الوطن الأكبر إلَّا من عرف وأحبّ الوطن الأصغر. وأنكر “ابن باديس” على أولئك الذين يسِمُهم بالأنانية لأنَّهم لا يعترفون إلَّا بالوطن الضيّق، كما أنكر على الذين يضرّون بالأوطان الأخرى فى سبيل وطنهم الكبير، وهؤلاء عنده شرّ وبلاء على البشريَّة جمعاء. ونعى أيضًا على الذين لا يعترفون إلَّا بالوطن الأكبر وضربوا صفحًا عن الوطنيّات والأديان، وكأنَّه يقصد بذلك الشيوعيين الذين وصفهم بأنَّهم عاكسوا الطبيعة.

الوطنية الإسلامية..

أمَّا الوطنية الإسلامية فى نظره فهي الوطنية التي تعترف بالوطنيّات كلّها وتنزلها منزلتها غير عادية ولا معدوٍ عليها، وترتِّبها ترتيبها الطبيعي حيث تنبني كل واحدة منها على ما قبلها، وتعتبر دعامة لما بعدها، والإنسان هو الذي يجد صورته وسعادته فى وطنه الصغير، كما يجدها في أمّته ووطنه الكبير، وأخيرًا يجدها في الإنسانية كلها، فالوطنية الإسلامية “تحافظ على الأسرة بجميع مكوِّناتها، وعلى الأمَّة بجميع مقوِّماتها، وتحترم الإنسانية فى جميع أجناسها وأديانها”.

التَّقريب بين جميع عناصر الإنسانية

وأوضح لنا “ابن باديس” أنَّه يهدف إلى التَّقريب بين جميع عناصر الإنسانية ويجاهد من أجل ذلك ويحترمها رغم اختلاف الأديان والأجناس، وربط ذلك كله بصفته إنسانًا مسلمًا: “أنا كمسلم أدين بالأخوّة الإنسانية وأحترمها في جميع أجناسها وأديانها، وأسعى للتَّقريب بين جميع عناصرها، وأجاهد فيما هو السَّبيل الوحيد لتحصيل ذلك، وهو العدل والتَّناصف والاحترام”.

وبما أنّ “ابن باديس” يُعتبر من المربِّين الممتازين فإنّه بنى عمله التربوي على المحبَّة وعلى زرعها في القلوب التي أراد أن يثبت في أعماقها حبّ الإنسانية بجميع أجناسها وأديانها، وأن يعلِّمها الأخوَّة الإنسانية، ووصف نفسه بأنَّه زارع محبَّة، فقال: “أنا زارع محبّةٍ ولكن على أساس من العدل والإنصاف والاحترام مع كلِّ أحدٍ من أيّ جنسٍ كان ومن أيّ دين كان.. فاعملوا للأخوّة ولكن مع من يعمل للأخوَّة، فبذلك تكون الأخوَّة صادقة”.

ويشعر القارىء بإلحاح “ابن باديس” على التحفُّظ في هذه النَّزعة وعلى تقييدها بقيود العدل والإنصاف والاحترام المتبادل، والواقع أنَّ هذا يعود إلى ظروفه الاجتماعية والسياسية، إذ أنَّ المستعمرين لا يحترمون إنسانية الإنسان الجزائري وقد أبان “ابن باديس” عن ذلك في قصيدته المشهورة:

مَنْ كَــان يَبْغـي وَدَّنَــا — فَعَلَى الْكَــرَامَــةِ وَالـرّحبْ

أوْ كَـــانَ يَبْغـي ذُلَّـنـَا — فَلَهُ الـمـَهَـانَـةُ والـحَـرَبْ

هَـذَا نِـظـامُ حَـيَـاتِـنَـا — بالـنُّـورِ خُــطَّ وَبِاللَّـهَـبْ

وأنشأ قصيدة أخرى عنوانها: “القوميّة الإنسانية”، جاء فيها قوله:

قومي هم وبنو الإنسان كلهم — عشيرتي وهـــدى الإسلام مطلبي

مفهوم الفن والجمال عند “ابن باديس”

لم يكن “ابن باديس” من أولئك الفقهاء الذين لا يفكِّرون إلَّا فى القِيَم الأخلاقية والمنطقيّة، بل إنَّه اهتم بالقيم الجماليَّة أيضًا، فكتب مقالاً عنوانه: الفن الأدبي فى الحديث النَّبوي. فتحدَّث عن جمال الصوت، وعن الصورة الرائعة التي صوّر بها النَّبي صلى الله عليه وسلم النساء في قوله ممَّا رواه “البخاري” في صحيحه عن أبي قلابة عن ثابت البناني عن قتادة عن أنس أنّه كان للنبي حادٍ يقال له “أنجشة” وكان حسن الصوت، وكان النّبي فى مسير له، فحدا الحادي وكان يحدو بهن فقال له النبي: “ويحك أنجشة رويدًا بالقوارير”، وذلك أنَّه لما غنّى “أنجشة” للإبل وكان على ظهورها النساء، أخذت في السَّير ونشطت واندفعت، فأتعبهن (النساء) ذلك السّير، وأشفق النبي عليهن، فأمر الغلام الفارسي الحادي وهو “أنجشة” أن يرفق بهنَّ لشدة ما يجدن من الاضطراب على ظهور الإبل، وهي تسرع في سيرها فعبَّر عن ذلك بصورة جذّابة، فشبّه النساء بالقوارير أو الزجاجات لما فيها من بياضٍ ولمعانٍ ورقَّة، ولِما فى النساء أيضًا من رقَّة العواطف ولطفها وسرعة انكسار قلوبهن وتأثيرها وعُسر انجبارها.

وقد حاول “ابن باديس” أن يعرِّف لنا مفهوم الفن، فبيَّن لنا أنَّه: “إدراك صفات الشيء على ما هي عليه من حسن وقبح إدراكًا صحيحًا، والشعور بها كذلك شعورًا صادقًا، والتَّصوير لها تصويرًا مطابقًا بالتعبير عنها بعبارات بليغة في الإبانة والمطابقة للحال، ذلك هو الفن الأدبي”.

فالفن الأدبي عنده يتكوَّن من عناصر إدراكيَّة شعورية وتعبيريَّة ومن مطابقة، والفنان هو ذلك الإنسان الذي يدرك صفات الشيء الحسنة والقبيحة إدراكًا صحيحًا، وهو الذي يشعر بتلك الصِّفات وينفعل بها بصدق، ثم يعبِّر عن إدراكه وتجربته الشعوريَّة تعبيرًا مُبينًا بليغًا، على أن يكون ذلك مطابقًا للحال.

ويلاحظ القارىء أنَّ “ابن باديس” جرى على رأي رجال البلاغة في أصلٍ من أصول البلاغة والنقد ألَا وهو مطابقة الكلام لمُقتضى الحال، كما أنّه اشترط في التصوير أن يكون مطابقًا، فكأنَّ المطابقة هنا تشبه لحدِّ ما يُسمِّيه “أرسطو” بالمحاكاة. والواقع أنَّ الفنان يبدع الصُّور ويُضفي على الأشياء أخيِلةً وظِلالًا ذاتية ما كان لها أن تُعتبر مطابقة للواقع الخارجي أو محاكية له.

المذهب المنطقي في الفن

ويمكن القول بأنَّ “ابن باديس” ذهب في الفن مذهبًا منطقيًّا يتَّصل بالحق أكثر من اتصاله بالإبداع الفني، لأنَّه اعتبر الفن إدراكًا لصفات الشيء على ما هي عليه في الواقع الخارجي، فكأنَّ الصورة الفنيَّة نسخة ممّا هو واقع في العالم الخارجي على نحو ما يتصوُّر الفلاسفةُ الحقيقةَ التي يرون أنَّها مطابقة ما في عالم الأذهان لما فى عالم الأعيان. ولم يكن بهذا الاعتبار مثل شيء جديد أبدعه الفنان سوى التَّعبير الذي يمتاز بالإبانة والبلاغة، ولكننا نجد “ابن باديس” يضيف إلى عناصر الصورة الأدبية الفنيَّة عنصرًا آخر يُتوِّجها وهو اللذة التي تحصل للمتذوِّق، لأنَّ هذه اللّذة في نظر “ابن باديس” تدفع عن الإنسان ما يجده من متاعب الحياة وأوصابها وآلامها، لا الآثار الفنية التي تُدخل على النفوس انشراحًا وبهجةً وصفاءً.

تربية الذّوق الجمالي لإدراك الآيات الجماليّة في الكون

وأدرك “ابن باديس” أيضًا ما يُسمّى في الفن بالتّواصل أو المشاركة الوجدانية، فقال: “لذا كان أكثر الفن الأدبي في تصوير الحسن وعرضه على الناس ليشاركوا الفنان في إدراك ذلك الحسن والشعوريّة والتذوق للذة ذلك الإدراك والشعور”. وبيَّن لنا، باعتباره مربِّيًا ومعلِّمًا، دور تربية الذّوق الجمالي وغرسه في النفوس لتتمكَّن من الشعور بما في هذا الكون من آيات الجمال، وذكر أنّ القرآن الكريم مُفعم بصور ومشاهد تعرض علينا آفاق الكون فى صورها الجذابة الجميلة. وأشار أيضًا إلى أنّ الحديث النبوي يشتمل على روائع من الفن الأدبي وخوالد من الآثار الرفيعة. كما أنَّه استشهد بقصيدة “كعب بن زهير” الذّائعة التي ألقاها أمام النبي صلى الله عليه وسلم (فوصف المرأة والماء الذي مُزجت به الخمرة.. وصوَّرها تصويرًا فنيًّا، ولم يُنكَر عليه لأنَّه لم يكن يصف شخصًا مُعيّنًا يؤدي وصفه إلى إثارة الشّهوة البهيميّة نحوه، وإنَّما للنفوس البشرية صورها الجمالية، وتنمِّي فيها قوة الشعور والذوق).

الفقه النَّفسي في الحديث النَّبوي

ولم يُخفَ على “ابن باديس” أن ينبِّهنا إلى ما فى الحديث من فقه نفسي، فحلَّل الحديث تحليلًا فقهيًّا نفسيًّا، وأوضح أنَّ فيه تنبيهًا على نبذِ التَّشديد والتَّنطع فيما لا عيب فيه ولا قبح في معناه، ولا فحش في لفظه من جهة، وفيه أيضًا: “التَّنبيه على المحافظة على قلوبهن (النساء) وعواطفهن ليدوم ودّهن وسلامتهن، ويدوم الهناء معهن والاستمتاع بهن، لأنّهن ضعيفات القلوب، رقيقات العواطف، شديدات الإحساس، يصبرن على كل شيء من الرجل إلَّا على كسر قلوبهن ومسّ عواطفهن”.

الإسلام دين الحياة والعلم والفن

ومن جهة أخرى نجد “ابن باديس” يتصوَّر الإسلام على أنَّه حقيقة قائمة على عناصر ثلاثة: الحياة والعلم والفن، فقال: “الإسلام دين الحياة والعلم والفن، والحياة قوة وإيمان وجمال، والعلم يمثّل القوة، والفن يمثّل الجمال”. بید أنَّ “ابن باديس” ربط بين القيمة الجماليَّة والقيمة الخلقية، فذهب إلى أنَّ الدعوة إلى الجمال والتَّحبيب فيه فى جميع مظاهر الحياة يجب أن تكون فى إطار العفاف والفضيلة، وساق عدة آيات قرآنية فى هذا المعنى، منها قوله تعالى: “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ” (التين: 4)، وقوله: “وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ” (غافر: 64)، وقوله: “حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ” (يونس: 24)، وقوله: “فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ” (النمل: 60)، وقوله: “قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ” (الأعراف: 32)، وقوله: “قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ” (النور: 30).

قد يُصبح الجمال فتنةً وشرًّا..

ويرى أنَّ القرآن نفسه استخدم الصُّور الجماليّة فى الدعوة إلى الهداية وإلى التأمّل في الطبيعة: “يعرض علينا القرآن صورًا من العالم العلوي والسفلي في بيان بديع جذّاب يشوّقنا إلى التأمّل فيها والتعمّق في أسرارها”. إنّ الجمال فى نظره يصبح أحيانًا فتنة إن لم يُحط بسياج من الأخلاق، وإذا كان العالم ينطوي على جمال فإنّه قد يصير شرًّا وبلاء على من اتّبع هواه واستعبد عقله: “هذا العالم بمائه وأرضه وأزواجه هو فتنة للإنسان بما يه من لذائذ ومن جمال…”.

الجمال.. من مقوِّمات الحضارة

إنَّ “ابن باديس” زارع محبَّة وداعٍ إلى المعاني الحقيقية للمذهب الإنساني، وإلى رحابة الأفق، وعلَّم الناس أنَّ الجمال مُقوِّمٌ من مقوِّمات الحضارة، وأنَّ التربية الجماليّة وتنمية الذَّوق من أسُس التربية الخلاّقة للشخصية الحرّة الشاعرة بذاتيّتها وحريتها وقوتها المتذوِّقة لما فى العالم من جمال، المتعاطفة مع ما في الإنسان من محبّة وما في جوهره من كرامة متأصِّلة.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا