تتحرّك من مالي إلى النيجر.. يد الشيطان تتمدّد في المنطقة

لم يكن استدعاء السفير الجزائري لدى “نيامي” من قبل النظام العسكري الانقلابي في النيجر، ليأتي هكذا فجأة ومن دون خلفيات، أو ليمرّ هكذا لمحة ومن دون تبعات، فالحقيقة أنه جاء ضمن مسلسل تآمري معقّد ومُعدٍّ سلفا، شاركت في رسمه – على الأقل – ثلاث قوى غادرة ما فتئت تضمر الحقد الدفين للجزائر تاريخا ودولة وشعبا، وتناصبها العداء الكمين مواقفًا وسيادة وحزما، لحملها على تغيير سياساتها الخارجية بما يتوافق والمصالح الغربية الصهيونية، خدمة للأطماع النيوكولونيالية في المنطقة العربية، في القارة الإفريقية وفي مختلف مناطق العالم التي لا تخضع للهيمنة “الإمبريالية”.

وقد عمدت الخارجية الجزائرية بدورها، إلى استدعاء السفير النيجيري، وتذكيره بفحوى الاتفاقية الإطار التي كانت بلاده قد وقّعتها سابقا، العام 2021، والتي كان وزير الداخلية واللامركزية النيجري، حينها “ألكاش ألهادا”، قد عبّر عن غامر سعادته وكامل رضاه على محتوى الوثيقة المتعلقة بالاتفاق الأمني مع الجزائر، مؤكدا في ذات السياق، على أنّ هذه الخطوة “التعاونية” ستمنح البلدين ديناميكية جديدة أكثر فعالية لتبادل الرؤى والتشاور الثنائي، لمواجهة التحديات القائمة، خاصة ما تعلّق منها بمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود والأوطان.

وقد تمّ في ذات المنحى، تنصيب مجموعة عمل مشتركة لدراسة طرق ووسائل تنسيق الجهود بصورة مستدامة، بهدف تأمين المناطق الحدودية، ووضع حدّ لتدفق أفواج المهاجرين بصورة غير شرعية ولا آمنة، من مختلف دول الساحل والصحراء.

وهكذا، ظلّ الأمر على ما تم الاتفاق عليه من دون خرق ولا إخلال، ليس لأنّ السلطات النيجيرية هي التي حرصت على احترام بنود الاتفاقية، وإنما لكون الطرف الجزائري هو الذي ظلّ يتحمّل ويتجاوز ويغض الطرف عن كثير من التبعات والعقبات والصدامات، مقدّرا ضعف الجانب الآخر وهشاشة وضعه، لكن على الأقل أنّ هذا الطرف كان يساعد الجزائر بجنوحه للصمت وعدم إثارة البلبلة.

اليوم وقد أراد عسكر النيجر أن تطفو إلى السطح قضية المهاجرين غير النظاميين، مستغلين في ذلك عملية الترحيل الأخيرة التي قامت بها السلطات الجزائرية، بحق مواطنين نيجيريين مقيمين بصورة غير شرعية، وهي العملية التي جاءت ضمن إطار اتفاقي ملزم موقّع بين البلدين، كما سلف ذكره، فإنّهم قد تجاوزوا فعلا صلاحياتهم القانونية والتزاماتهم الأخلاقية ومسؤولياتهم الدستورية، حيث كان عليهم؛

  • أن يدركوا بأنّ انقلابهم على نظام الحكم في البلد شأن داخلي قد لا يعني غيرهم، لكنه ليس انقلابا على الاتفاقيات والالتزامات الإقليمية والدولية التي كانت قد وقّعتها جمهورية النيجر مع الجزائر.
  • أن يدركوا بأنّ سبل معالجة الخلافات الثنائية، إن وجدت، لابد وأن تمرّ حتما عبر قنوات التواصل الأخوية السائدة بين الطرفين الجزائري – النيجيري منذ زمن بعيد، والتي تتّسم بالحكمة والهدوء والاحترام المتبادل.
  • أن يدركوا بأنّ المرور مباشرة إلى مستوى التصعيد ومنحى الاستعداء، هو مسعى غير ودّي ولا أخوي، أو بمثابة عضٍّ لليد الممدودة التي طالما أطعمت الشعب النيجيري، آخرها مسح الديون المتراكمة منذ استقلال البلد، ناهيك عن عشرات الآلاف من الرعايا النيجيريين الذين يقاسمون الجزائريين أرزاقهم يوميا من غير منّ ولا مساومة ولا ابتزاز، ثم أنه مسعى خائب لن يفضي إلى شيء، ما دام وجودهم “الانقلابي” غير قانوني ولا دستوري.

ولذلك، تصبح فرضية تآمر الانقلابيين في النيجر، مع جهات خارجية وغريبة عن المنطقة، ضدّ الجزائر أمرا غير مستبعد الورود، خاصة وأنّ “سيناريو” مماثلا كان قد صدر عن المجلس العسكري المالي منذ زمن يسير، وبالتالي تكون خيوط المؤامرة قد اتضح أبيضها من أسودها، ولم يعد خافيا على أحد تمدّد يد الشيطان في المنطقة لزرع الفتن والفوضى، تحضيرا لاختراقها ثمّ التحكم في مصيرها.

إذا، وبعدما سُدّت فجوة ليبيا بسبب خطر الحرب الأهلية وغياب دولة شرعية ونظام مسؤول.. وبعدما تم إغلاق بوابة المغرب بسبب فاشية النظام المخزني القاتل الذي لا يتوانى عن رمي المهاجرين القادمين من دول الساحل في الصحراء وتركهم يموتون عطشا وجوعا.. لم تبق سوى وجهة الجزائر مشرعة من باب الأخلاق والإنسانية، لينة في تعاملها مع هؤلاء الفارين من جحيم الفقر والجوع والحروب والتخلّف والتهميش.. وهي نقطة “الضعف” التي يحاول هؤلاء وأولئك استغلالها لإغراق الجنوب الجزائري بالمهاجرين غير النظاميين والوافدين بصورة غير شرعية.

كان يكفي استدعاء السفير الجزائري، إذا تحتم الأمر، لكن أن يتم تقديم شكوى لدى منظمة الهجرة الدولية، موازاة مع ذلك مرة واحدة، فهذا يعني أنّ الأمر كان مبيتا وأنّ له ما قبله وسيكون له ما بعده.

الملاحظون والمتابعون للشأن الإفريقي، يؤكدون على وجود مخطط لإغراق جنوب الجزائر بالمهاجرين، ويجعلون منها قضية للابتزاز والمساومة، أو للضغط والتشويش على المواقف السيادية الجزائرية، خاصة مع احتمال تضاعف أعداد المهاجرين أمام تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في دول الانقلابات والتناحر جنوب الصحراء.

ممثلة منظمة الهجرة الدولية، والتي لم يسمع بوجودها أصلا قبل اليوم، بادرت هي الأخرى ومن دون تريث إلى إيداع شكوى ضدّ الجزائر، في اتهام ضمني، قبل النزول إلى الميدان والتحقّق من الادعاءات النيجيرية المجانبة للواقع، والتي كانت خارجيتها قد صرّحت في وقت سابق أنه؛ “تم إطلاع ممثلة الهجرة الدولية على العمليات الواسعة لإعادة المهاجرين غير النظاميين وطردهم، والتي نفذتها السلطات الجزائرية في الأيام الأخيرة”، مردفة في ذات السياق أنه؛ “تم تنبيه المسؤولة بشأن هذا الوضع الذي بجانب كونه عبئا إضافيا على السلطات النيجيرية في إدارة الأمور الأمنية والإنسانية، ينتهك أيضًا كرامة المهاجرين أنفسهم”..

بهذا الإسفاف المنحط إذًا، تعاطت سلطات “نيامي” العسكرية مع الوضع المعقّد والقائم منذ زمن غير يسير، في تبرير فاضح لقصورها وضعفها، وعجزها عن احتواء الأزمات المتراكمة وإيجاد الحلول اللازمة لما يعانيه الشعب النيجيري، مُحَاوِلةً في الوقت نفسه، نفض يديها من مسؤولية ما يعانيه البلد وما سيؤول إليه وضعه مستقبلا، في غياب تام لأية مبادرة ولا لأي مخطط ناجع وفعال للخروج من أزمة الشرعية المنقوصة القائمة.

على المستوى الدبلوماسي، ردّت الجزائر طبعا، باستدعاء السفير النيجيري المقيم لديها، وذكّرته بقانونية عمليات الترحيل وشرعيتها، ما دامت تجري ضمن “وجود إطار ثنائي مخصّص لهذه المسألة، ويتعلق بترحيل المهاجرين غير الشرعيين”.. كما لفتت انتباهه إلى أنّ هذا الإطار يجب أن يبقى الفضاء المفضّل لمناقشة ومعالجة كافة المعطيات وكل التطوّرات المرتبطة بهذه القضية، مبدية، أي وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية، تمسّكها الراسخ بالقواعد الأساسية لحسن الجوار، وإرادتها الحازمة في مواصلة التنسيق مع النيجر بشأن هذه القضية المتعلّقة بتدفقات الهجرة، وكذا بخصوص أية مسألة أخرى، في إطار الاحترام المتبادل وعلى أساس قيم التعاون والثقة والتضامن.

إلا أنّ المسكوت عنه، ولو إلى حين، هو المشروع الماكر الذي يرسم في الخفاء، من خلال التواطؤ الذي تحبك حيثياته بين سلطات النيجر وأطراف خارجية، هدفها ضرب الجزائر في استقرارها وأمنها باستعمال ورقة المهاجرين الوافدين من دول الساحل والصحراء.

ليس هذا فقط، وإنما هناك مخطط آخر تعمل هذه الأطراف على إنجازه، وهو إفشال المشروع الاقتصادي الإستراتيجي، المتعلق بخط أنابيب نقل الغاز من أحواض أبوجا بنيجيريا عبر النيجر، إلى موانئ الجزائر المتوسطية وتصديره إلى أوروبا وبقية العالم، خدمة لخط آخر تم استحداثه بديلا لهذا الخط، وهو الرابط بين نيجيريا والمغرب الأقصى مرورا بكل من؛ بنين، طوغو، غانا، ساحل العاج، ليبيريا، سيراليون، غينيا، غينيا بيساو، غامبيا، السينغال، موريتانيا والصحراء الغربية.. وأمام استحالة منافسته لخط أبوجا – الجزائر، وجدت هذه الأطراف نفسها أمام حتمية إدخال المنطقة المحاذية لحدود الجزائر الجنوبية، في دوامة من الفوضى والصراعات والحروب، لثني المستثمرين المحليين والأجانب عن المضي قدما في تحقيق هذا المشروع الذي سيجعل من النيجر البلد الأكثر انتفاعا من عوائد استغلاله.

ولذلك، على انقلابيي النيجر أن يدركوا بأنّ أيّ تآمر ضدّ الجزائر ومصالحها، سيكون له ارتدادات عكسية عاصفة على نيامي نفسها، عاجلا وآجلا وفي كل حين وآن.. فعشرات الآلاف من الرعايا النيجيريين الذين وجدوا في جيوب الجزائريين الملجأ والمنجى لهم من جحيم الفاقة والعوز.. ومشروع خط نقل الغاز من نيجيريا.. ومشاريع الإنماء المحلية المزمع إنجازها في النيجر بتمويل من الصندوق الجزائري للتعاون الدولي.. كلها فرص حياتية وجودية بالنسبة إلى الشعب النيجيري، والتي ستتبخّر ولن يكون لها في غير الجزائر البديل والعوض.

وعليه، وعلى رأي المثل؛ لا تعض اليد التي أطعمتك، فلربما جعت يوما ولن تجد لها بديلا.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا