ردّ دقيق ومحكم.. قراءة في أبعاد الضربة الإيرانية

تُحاول أوساط في الكيان الإسرائيلي القول إنّ الكيان حقّق نجاحًا في إسقاط جميع الطائرات المسيّرة والعدد الأكبر من الصواريخ الإيرانية، ليشيروا في النتيجة إلى محدودية القدرات الإيرانية، هذه الأوساط تتحدث عن استعادة الكيان لزخم الدعم الغربي، وإعادة تشكيل المشهد بصرف الأنظار عن الجرائم الإسرائيلية في غزّة نحو تصوير “إسرائيل” من جديد دولة صغيرة تدافع عن نفسها من الأعداء “الأشرار” المحيطين بها.

لكن هذا التصوير الإسرائيلي لما حصل فيه قدر كبير جدًّا من المغالطة التي تهدف إلى تعزير الوعي الإسرائيلي والإقليمي بالقدرات الردعية والعسكرية الإسرائيلية.

إيران أرادت ضربة مركّبة لا عسكريًّا فحسب، ولكن سياسيًّا أيضًا، بمعنى أنها أرادت ضربةً تحظى بزخم إعلامي كبير، مع تحقيق أهداف عسكرية محدودة، دون أن تؤدّي هذه الضربة إلى جرّها لحرب شاملة، بمعنى كانت الضربة مدروسة ومناورة غاية في الحذر تسعى إلى صياغة موقف ردعي جديد لا يتطور إلى حرب أو تعريض عمقها ومصالحها الاستراتيجية داخل الأراضي الإيرانية لاستهداف أمريكي أو إسرائيلي.

إنّ افتقاد عنصر المفاجأة لم يكن ناجمًا عن بعد المسافة بين إيران وفلسطين المحتلة كما يذهب البعض، بل كان مقصودًا، والمؤشرات عليه صريحة وكثيرة، منها الإعلان الأمريكي المسبق عن موعد الضربة في الليلة نفسها، الاستنفار الإسرائيلي الواسع السابق للضربة بساعات، والإعلان المباشر من الحرس الثوري بمجرد إطلاق المسيرات، وإعلان الحرس الثوري عن الخطة المركبة للضربة بكون المسيرات سوف تتبع بصواريخ باليستية في اللحظات الأخيرة، فالإعلان الإيراني عن إطلاق الصواريخ سبق إطلاقها بالفعل، ومن ثمّ فإيران نفسها تعمدت إلغاء عنصر المفاجأة.

وهذا يعني أن إيران تعمدت أن تكون الضربة بهذا القدر الذي سمته هي محدودًا، أي ضربة مكشوفة مسبقًا، تسحب من الإسرائيلي ذريعة ردّ أوسع، وتوفّر للأمريكي فرصة إقناع الإسرائيلي بعدم الردّ السريع والمكشوف على العمق الإيراني، مع إصابة عدد محدود من الأهداف العسكرية في النقب والجولان بعيدًا عن التجمعات الحضرية الإسرائيلية، فالضربة الإيرانية مركبة عسكريًّا وسياسيًّا.

فتعمد إلغاء المفاجأة، وعدم استخدام الصواريخ والطائرات الأكثر تطورًا، وعدم تفعيل الطبقات الهجومية المرتبطة بإيران في الإقليم، ساهم في جعل الهجوم الكبير من حيث الكم محدودًا من حيث النوع وهذا مقصود إيرانيًّا.

الكيان وبقدر ما تحدث عن نجاح في إسقاط المقذوفات الإيرانية، فإنه نجاح مشروط بطبقات الحماية المحيطة به والتي تتقدمها الولايات المتحدة الأمريكية، ومشروط بإرادة إيرانية أصلاً.

أمّا إستراتيجيًّا فقد انكشف الكيان من جهة اعتماده المطلق على طبقات الحماية الدولية والإقليمية، وإحراج دولة عربية قيل إنها شاركت في إسقاط المقذوفات الإيرانية، وكذلك انكشفت طبقات الحماية وأدوات عملها وأماكنها وكيفيات عملها وتنسيقها بين بعضها سواء داخل الكيان أم في الإقليم.

إيران من جهتها لم تضرب “إسرائيل” بشيء لا تعرفه هذه الأخيرة أو لا تتوقعه، فبينما كشفت “إسرائيل” عن كل أوراقها الدفاعية لم تكشف إيران عن كل أوراقها الهجومية، فهذه المناورة تخدم إيران من جهة استطلاعها للقدرات العسكرية الدفاعية لـ “إسرائيل” وحلفائها وكيفيات عملها، وهو ما يمكن أن تستفيد منه إيران تاليًا هي وحلفاؤها في مواجهة أكثر جدية لو فرضت عليها.

تكشف الضربة آفاق القوى الفاعلة في الإقليم، لاسيما إيران والولايات المتحدة، وتؤكد المؤكد بكونهما فعلاً ليسا في صدد مواجهة أوسع وأشمل، ويمكن بهذه القراءة ملاحظة البعد الراهن المحدود للضربة بكونها حالة من التعادل النسبي بين الطرفين، والبعد الإستراتيجي الذي يحتاج وقتًا ليتكشف وتتضح معالمه.

ساري عرابي - كاتب وباحث فلسطيني

ساري عرابي - كاتب وباحث فلسطيني

اقرأ أيضا