شمسٌ جزائرية أحرقت ظلام الاستعمار.. ماذا لو لم يظهر “عبد الحميد بن باديس” في زمانه؟ (الجزء الأول)

بعث الله في الأمّة الجزائريَّة من يُجدّد دينها ويوقظ نهضتها في العصر الحديث، فكان الإمام “عبد الحميد بن باديس”، وأيَّده بكوكبةٍ من علماء الجزائر من جيله، فكان ميلاد جمعية العلماء المسلمين ردًّا على احتفالات الاستعمار بمائة سنة من وجوده في بلادٍ كانت تُسمّى جزائر “العلم والجهاد” في عصرها الذّهبي وقوّتها الدوليَّة الجبّارة التي “روَّضت” بها الدول “الكبرى” التي تتجبّر في عصرنا على البلدان التي تُسمّى “العالم الثالث”، وتعبث بعقول وثروات شعوبها ومستقبل أبنائها..

ماذا لو لم يظهر الإمام “عبد الحميد بن باديس” وكوكبة العلماء الذين اعتنقوا تحرير العقل الجزائري وأحدثوا ثورة في التعليم والتربية والإعلام والتأليف باللغة العربية، في تلك الظرفيّة الزّمانية من التّاريخ؟ الإجابة عن هذا السؤال تستدعي أولاً معرفةً ظروف الجزائر وشعبها بعد مائة عام من الاستعمار.. لكي نقف على حجم الجهود الجبَّارة والتّحديات الكبرى التي واجهت “ابن باديس” وكوكبته. وتستدعي ثانيًّا معرفة الإنجازات العظيمة التي حقّقتها جمعية العلماء الجزائريين، على الأقل خلال عقدين من وجودها، في مجالات التربية والتعليم والإعلام وإعادة بناء الشخصية الجزائرية التي توهّم الاستعمار بأنّه استطاع تشويهها وطمس ملامحها ومحو عناصر أصالتها التاريخية والدينية واللغوية والمجتمعيّة.. ولن نحاول الإجابة عن ذلك السؤال، ونترك للقارئ هذه المهمّة!

خلال عقودٍ طويلة والباحثون والدّارسون والكُتّاب.. يُسطّرون البحوث والدّراسات والكتابات حول الإمام “ابن باديس” وكوكبة العلماء الذين حملوا معه لواء تحرير العقل الجزائري، وستبقى الأقلام تنزف حبرًا وأفكارًا حول الإمام وأصحابه، وكيف جمع الله هذه الكوكبة من العلماء لتظهر في زمن واحد فيما يُشبه المعجزة الإلهية.. ومن الذين كتبوا عن “ابن باديس” الدكتور “رابح تركي”، وقد اخترنا إعادة نشر هذه المقالة التي نشرها عام 1970 في مجلة “العربي”..

من أجل تحرير الجزائر..

لعلّ أقرب الناس إلى ثورة أول نوفمبر سنة 1954 المجيدة ومبادئها وأهدافها هو المرحوم الإمام “عبد الحميد بن باديس” (1889 – 1940)، باعث النهضة الإسلامية العربية في الجزائر الحديثة وراعيها وموجِّهها، ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وصاحب ورئيس تحرير مجلة الشهاب الغرّاء (1925 – 1939).

فالإمام “عبد الحميد بن باديس” كان من الرَّعيل الأوّل الذين كافحوا بصدق وإخلاص من أجل تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي في دائرة العروبة والإسلام، وهو الذي يعود إليه الفضل الأوّل في توجيه الحركة الوطنية في الجزائر في مطلع هذا القرن نحو هذا الاتّجاه القومي السليم، وبذلك استطاعت الحركة الوطنية الجزائرية أن تتخلَّص في بداية الثلاثينيات من هذا القرن من الاتّجاهات التي تتعارض مع عروبة الجزائر وإسلامها… وتجعل من تحرير الجزائر في دائرة الحضارة الإسلامية العربية، هدفها الأساسي الذي تناضل في سبيله وتعمل من أجله ليل نهار.

رائد التعليم العربي..

لقد كانت حركة التربية والتعليم العربية التي قادها “ابن باديس” بنجاح في الثلث الأوّل من القرن والتي بدأها في مدينة قسنطينة في عام 1913 بتدريس الحضارة الإسلامية والأدب العربي وتفسير القرآن الكريم وموطأ الإمام مالك ابن أنس رضي الله عنه في الحديث الشريف.. كانت هذه الحركة التي سرعان ما امتدّت إلى مختلف جهات الجزائر في المدارس التي أنشأتها جمعية العلماء التي كان الفقيد رئيسها إلى أن وافته المنون في 16 أفريل سنة 1940، وفي النوادي العربية الإصلاحية التي كوَّنها أنصار “ابن باديس” في معظم المدن الجزائرية، وعلى رأسها نادي “التّرقي” الذي أنشئ في عاصمة الجزائر في عام 1926، هي المشعل الذي أضاء للجزائر العربية طريق الخلاص النهائي من الاحتلال الأجنبي في ظل عروبتها وإسلامها.

القائد السياسي المُلهِم للوطنيين الأحرار

والواقع أنَّ “ابن باديس” لم يكن مربيًّا ومعلِّمًا لجيلٍ كامل من أبناء الجزائر البَررة الذين نهضت على كاهلهم الحركة الوطنية في الجزائر والذين ساهموا بقسط وافر في ثورتها الكبرى في عام 1954، هذه الثورة التي حرَّرت الجزائر وطردت الاستعمار الفرنسي منها إلى الأبد.. وإنّما كان إلى جانب ذلك قائدًا سياسيًّا مُلهِمًا للوطنيين الأحرار في الجزائر في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، وكان مُصلحًا عظيمًا يتمتّع بقوة روحيّة هائلة أثّرت في كل من احتكّ بها سواء من قريب أو من بعيد، وبثَّت إشعاعاتها الروحيّة والفكريّة في كامل أنحاء الجزائر وفي بقية أقطار المغرب العربي الأخرى.

سياسة الاستعمار الفرنسي في الجزائر

ولا يمكن للقارىء أن يعرف الدَّور الكبير الذي لعبه “ابن باديس” في النهضة الجزائرية إلّا إذا ألّم ولو إلمامة بسيطة بسياسة الاستعمار الفرنسي في الجزائر بعد الاحتلال مباشرة… لقد أدركت فرنسا بعد احتلالها للجزائر في 5 جويلية سنة 1830 أنّه ما دام الإسلام والعروبة قائمين في الجزائر فإنّ احتلالها لن يُكتب له البقاء طويلاً، ولذلك خطَّطت سياستها في الجزائر منذ اليوم الأوّل للاحتلال على العمل بكل وسيلة ممكنة على تحطيم الشخصية الإسلامية العربية للشعب الجزائري كي يمكنها أن تجعل منه شعبا تابعًا لشعبها فيما وراء البحر المتوسط. وكانت تريد أن تعيد مأساة الإسلام والعروبة في الأندلس من جديد في الجزائر. ولقد تجلَّت سياستها لتحطيم الشخصية الجزائرية في الأمور التالية:

  • القضاء على الدين الإسلامي.
  • القضاء على الثقافة الإسلامية العربية.
  • القضاء على اللغة العربية التي هي وعاء الفكر والثقافة في الجزائر.
  • القضاء على الجنسية الجزائرية.
  • تشويه تاريخ الجزائر في ظل الحضارة الإسلامية العربية.
  • العمل على تفكيك الوحدة الوطنية للشعب الجزائري عن طريق إثارة الفتن والحزازات العنصرية بين سكان الوطن طبقا السياسة الاستعمارية المعروفة (فرِّق تسد).

وتمشِّيًا مع أهداف هذه السياسة، قضت فرنسا على معاهد التعليم الإسلامية التي كانت مُزهرة في الجزائر قبل الاحتلال، وشرَّدت العلماءَ والطُّلاب، كما حوَّلت معظم المساجد الإسلامية إلى كنائس، والبعض منها سلّمته لليهود الذين حوّلوها بدورهم إلى معابد لهم. ثم أصدرت مراسيم اعتبرت الجزائرَ بمقتضاها جزءًا من بلادها، وضيَّقت الخناق على اللغة العربية حتى أصدرت في عام 1937 قانونًا أصبحت بمقتضاه لغة أجنبية في الجزائر، وقبل صدور هذا القانون الجائر، أصدرت في عام 1904 قانونًا آخر ينصُّ على عدم السّماح لأيّ جزائري بأن يتولّى إدارة أيّة مدرسة لتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي إلّا إذا حصل على رخصة من عامل العَمالة (محافظ المحافظة) أو الحاكم العسكري في المناطق التي تخضع للحكم العسكري المباشر. وقد أنذر هذا القانون – الغريب – كل جزائري يقوم بفتح مدرسة عربية بدون ترخيص مسبق بذلك إمّا بالغرامة وإمّا بالحبس أو بهما معًا. أمّا إذا سُمح له بفتح مدرسة عربية، فإنّه يُشترط عليه ما يلي:

  • اقتصار التعليم في المدرسة على تحفيظ القرآن الكريم وحده.
  • عدم التعرّض – بأيّة صورة من الصُّور – إلى تفسير القرآن الكريم وبخاصة الآيات التي تحضُّ على الجهاد في سبيل التَّحرير وعدم الرضوخ للظلم والاستعباد.
  • استبعاد دراسة التاريخ الجزائري والتاريخ العربي والإسلامي من الدراسة، وكذلك جغرافية الجزائر وجغرافية سائر الأنظار العربية والإسلامية.
  • عدم تدريس الأدب العربي بسائر فنونه وعصوره.

وإمعانًا في سياسة مسخ الجزائر، ضربت فرنسا حصارًا حولها، عزَلها عن العالم العربي والإسلامي عزلًا كاملًا طيلة أكثر من قرن من الزمان. أمّا التعليم في المدارس الرسميّة، فقد كان كلّه باللغة الفرنسية، وكان أبناء الجزائر يدرسون جغرافية فرنسا وتاريخها بتفصيل وافٍ، وفي الوقت نفسه لا يعرفون شيئًا عن جغرافية بلادهم سوى أنّها محافظة أو مقاطعة فرنسية! أمّا التاريخ، فكان أبناؤنا يدرسون في حصصه أنَّ أجدادهم هم (الغاليون أجداد فرنسا).

وهكذا سارت السياسة الاستعمارية في الجزائر على هذا المنوال.. وفي عام 1930، أقامت فرنسا احتفالات صاخبة دامت لمدّة شهرين وذلك بمناسبة مرور قرن على احتلالها للجزائر. وقد اتّخذت فرنسا من هذه الاحتفالات فرصة لإهانة الجزائريين والمسّ بعواطفهم الدينيّة، حيث تردَّدت في خُطب الرّسميين الفرنسيين في هذه الاحتفالات عبارات القضاء على الإسلام نهائيًّا في الجزائر، والقضاء على العروبة قضاء أبديًّا.. إلى آخر ما تبجَّح به الخطباء الفرنسيون في هذه الاحتفالات الصّاخبة.

“ابن باديس”.. شمسً أشرقت في ليل الاستعمار

وسط هذا الظلام الحالك والجوّ الاستعماري المحموم ضدّ العروبة والإسلام في الجزائر، ظهر الإمام “ابن باديس” في مطلع القرن العشرين كالأمل المُرتجى لشعب يبحث له عن مَخرجٍ من هذا الظلام الشامل.. وبدأ في نشر دعوته عن طريق المدارس والنّوادي، ودروس الحضارة الإسلامية وتفسير القرآن الكريم والحديث الشريف التي كان يلقيها على طلّابه وروّاده في مدينة قسنطينة مسقط رأسه.

وبعد نهاية الحرب العالمية الأوّلى اتّخذ خطوة جديدة لنشر دعوته العربية الإسلامية التي تندرج تحت دائرة حركة التَّجديد الإسلامي التي بدأها في الشرق الإسلامي “جمال الدين الأفغاني” و”محمد عبده” وغيرهم من روّاد هذه الحركة الانبعاثيّة “في العالمين: الإسلامي والعربي.

وكان “ابن باديس” يخفي أهدافه السياسية لتحرير الجزائر تحت ستار الحركة الدينية كي يتجنَّب مكائد الاستعمار وبطشه الشديد. وتتمثَّل هذه الخطوة الجديدة في الصحافة العربية التي كوَّنها بعد الحرب العالمية الأوّلى، حيث أنشأ جريدة “المنتقد” في عام 1925، ونظرًا لشدَّة لهجتها وجرأة دعوتها لمقاومة الاستعمار وعملائه.. أغلقتها الإدارة الاستعمارية بعد صدور أعدادٍ قليلة فقط منها.

وبعد ذلك أنشأ مجلة “الشِّهاب” في العام نفسه وكانت جريدةً أسبوعيَّة في أول الأمر، ثم تحوّلت في عام 1927 إلى مجلة شهريّة، وقد استمرَّت في الصدور حتى قرب نشوب الحرب العالمية الثانية في عام 1939 حيث أوقفها الفقيد من تلقاء نفسه حتى لا تضطرّه الإدارة الاستعمارية إلى نشر أشياء لا تتّفق مع مبادئه الإسلامية والثوريّة.

وكانت مجلة “الشّهاب” تُعتبر مجلة كامل أقطار المغرب العربي، فقد عملت على ربط الرأي العام في الجزائر بالرأي العام في كل بلدان المغرب العربي من جهة.. ومصر وكل الأقطار العربية الأخرى التي حاول الاستعمار أن يفصله عنها من جهة أخرى. لهذا كانت دعوة “ابن باديس” وكانت سياسته في المجال القومي هما اللّذين أنقذا الجزائر من سياسة الفرنسة والتّجنيس اللذين كانت الإدارة الاستعمارية تسعى بكل جهودها لفرضهما على الشعب الجزائري، خصوصًا قبل الحرب العالمية الثانية.

يقول “ابن باديس” في الردّ على أحد دعاة سياسة التَّجنيس فى عام 1937 الذي كتب مقالًا في جريدة فرنسية بعنوان (أنا فرنسا)، أنكر فيه وجود الأمّة الجزائرية العربية المسلمة والقومية العربية فى الجزائر، وقد حدَّد “ابن باديس” في هذا المقال الهامّ الذي أثار ضجة كبرى في ذلك الحين فى الصحافة الفرنسية التي تصدر في الجزائر وفرنسا وكذلك في الدوائر العليا الفرنسية.. حدّد مفهوم الوطنية الجزائرية وخصائص الأمّة الجزائرية تحديدًا واضحًا قاطعًا، وهاجم بكل عنف كل من يدعو ضدّ اتّجاه التاريخ والمنطق، يقول “ابن باديس” في هذا المقال الذي نشره في مجلة “الشِّهاب” (عدد نوفمبر سنة 1937) تحت عنوان “كلمة صريحة”:

كلمة صريحة..

“قال البعض من النوّاب المحليين ومن الأعيان ومن كبار الموظفين بهذه البلاد (الجزائر).. إنَّ الأمة الإسلامية الجزائرية مجمعة على اعتبار نفسها أمّة فرنسية بحتة لا وطن لها إلَّا الوطن الفرنسي، ولا غاية لها إلّا الاندماج الفعلي التام في فرنسا، ولا أمل لها في تحقيق هذه الرغبة إلّا بأن تمدّ لها فرنسا يدها بكل سرعة، فتلغي جميع ما يحول دون تحقيق هذا الاندماج التام. بل قال أحد النوّاب النّابهين أنّه فتّش عن القوميّة الجزائرية في بطون التاريخ فلم يجد لها من أثرٍ، وفتّش عنها في الحالة الحاضرة فلم يعثر لها على خبر، وأخيرًا أشرقت عليه أنوار التَّجلي فإذا به يصيح: فرنسا هي أنا. حقًّا إنَّ كل شيء يرتقي في هذا العالم ويتطوّر!!

وبعد هذا، يبدأ ابن باديس في تفنيد هذه الدَّعوى المهلهلة فيقول: “إنّنا نحن فتَّشنا في صحف التاريخ، وفتّشنا في الحالة الحاضرة فوجدنا الأمة الجزائرية المسلمة متكوِّنَة موجودة كما تكوَّنت ووُجدت كلُّ أمم الدنيا، ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتها الدينية واللغوية، ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها بما فيها من حسَنٍ وقبيح شأن كل أمَّة في الدنيا. ثم إنَّ هذه الأمّة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا، ولو أرادت، بل هي أمّة بعيدة عن فرنسا كل البُعد، فى لغتها، وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج. ولها وطن محدود مُعّين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة”.

فابن باديس هنا حدّد بدقّة وفي عبارات قاطعة خصائص الشعب الجزائري ومقوّماته الأساسية التي هي العروبة والإسلام، ورسم الطريق واضحًا لكل من يريد أن يخدم بلاده، ويساهم في حركتها الوطنية وجهادها المقدَّس من أجل الحرية والاستقلال التّام.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا