“الأيام نيوز” تُحاوِرُ الأديبةَ اللّبنانيةَ “إخلاص فرنسيس”.. صُنَّاع الموتِ يُدمّرون الإنسانَ والجَمالَ والقِيَمَ.. ولا خَلاص للعالم من جنونه إلاَّ بالحُبِّ

“إخلاص فرنسيس” أديبةٌ لبنانيّةٌ مُقِيمة في الولايات المتّحدةُ الأمريكية أعادتْ، على طريقتها الخَّاصَّة، إحياءَ تقاليد الرَّابطة القَلَمِيَّة لأدباء المهجر التي أسَّسها في أمريكا سنة 1922 “جبران خليل جبران” و”ميخائيل نعيمة” و”إيليا أبو ماضي” وآخرون..

فهي تجْمَعُ كلَّ أسبوعٍ الأدباءَ العربَ والكُتَّابَ باللغة العربية من مختلف الأقْطَار والأجيال والتَّوجُّهات في صالونها الرّقميٍّ “غرفة 19″، وتُشْرِع أبوابَ النِّقاش حول قضايا الفكر والأدب التي ترتقي بالإنسان وتُرَسِّخُ قِيَمَ الحُبِّ والجَمال في عالَم استبدَّ به جُنُون الكراهيَّة والحروبِ والأزمات التي تستهدفُ تدمير الإنسان والقِيَم المُجتمعيّة وموازين الطَّبيعة على كوكب الأرض.

يُمكنُ اعتبار “إخلاص فرنسيس” رائدةَ أوَّل وأكبر صالون أدبي عربي رقميٍّ مُنتَظّمٍ في عقْدِ لقاءاته. وهي ناشطةٌ أدبيّةٌ شديدةُ الحيويّةِ، حيث تُشرِف على إقامة الفعاليّات الثقافية في المُدُن الأمريكية وفي العواصم العربية والدّولية، وتُراهنُ في رسالتها الأدبيّة والثقافية على الإنسان والحبِّ لتُسهِم في مواجهة “صُنّاع الموت” وتطهير العالم من مختلف أنواع التّلوّثِ الروحيّ والفكريّ والمادّي..

تتنوّعُ أعمال “إخلاص فرنسيس” بين الشّعرية مثل: وأمضي في جنوني، حين يزهر الورد. والقصصيّة مثل: على مَرْمى قُبلة. والرّوائية مثل: رغبات مُهشّمة. والفكريّة مثل: العشق المُقدّس. بالإضافة إلى أعمالٍ شعريّةٍ وقصصيّة مُشتركة مع أدباء آخرين، وأعمالٍ أخرى مُوَزّعة بين الصُّحف والمَجلاّت والدوريّات العربيّة.

الأيام نيوز: كيف تُعطِّرين الوطنَ برائحة النَّعْناع، وتُوقِظين الحنينَ من رائحة التّراب بعد المطر.. هل يحتفظ المكانُ برائحته أم تحتفظ الذاكرة برائحة المكان أينما سافرت على جغرافية هذا العالم؟

إخلاص: وماذا نحن دون ذاكرة ودون مكان؟ وهل يخرج منَّا المكانُ بمجرّد انتقالنا إلى مكان آخر؟ وهو ليس بأيّ مكان، بل هو الزَّمكان، حيث أبصرتْ الروحُ النورَ، ورأتْ عيناي وجهَ أمِّي، وسمعتْ أذناي تغْريدَ الكون حيث لفّني أبي بحنانه، ومَسَّ عظامي طائرُ الفينيق، فأشعل فيَّ بذرةَ الحياة.

لقد خرجتُ من الوطن، لكنّ الوطنَ لم يخرج منّي، أحملُه معي في أنفاسي وحرْفي وروحي وفكري، يعيشُ في داخلي، جُبلت من صلصاله، تكويني الأول وكياني بحرُه، برُّه، جبله، ففي كلّ وادٍ صدى لصوتي، وفوق كلّ أكَمَةِ شاهد دعْسَة قدمِي، وكلّ شجرة سنْدِيان يتأرجحُ اسمي محفورًا على أغصانها، على صَنوْبَرِه مسَّدَ الحلمُ أجفاني، وحفرتْ الريحُ أحلامي.

الوطنُ أكبر من أن أعطّره بكلمة أكتبها أو بقصيدة أو حكاية أو قصة أو رواية. الوطن هو الحاضر الأوَّل، هو الأنا التي تسْكُنني. نَبْتةُ النَّعناع معروفٌ عنها أنّها دائمةُ الخُضْرةِ، ولها رائحة مُنعشة، وفوائد كثيرة، وتنمو ملاصقةً للأرض، وقد عنْوَنتُ المجموعةَ القصصية الأخيرة التي صدرتْ في بيروت (ظلّ النعناع). إن قصدنا أن نتفيَّأ في الظلّ، نختار شجرة، ونجلس تحتها، لكن كيف لنا أن نسْتظلَّ تحت نبتة النعناع؟ في عالمنا الثقافي، كلَّما ازْددنا الْتِصاقًا بالأرض، تمتّعنا برائحتها خاصّة بعد المطر الأول الذي يُوقظ فينا الحنينَ إلى المكان الذي خَلَع علينا جمالَه، وجعلنا الإنسانَ الذي نحن عليه الآن.

الأيام نيوز: نُلامِسُ في كتاباتك امرأةً (حداثيّةً) تنتمي إلى حضارة الضوء والإلكترون وشبكات التواصل الاجتماعي.. لكنّها تُعاني من تَكلُّس الزمن البيْروتي في أعماقها.. فهل تَسعيْن إلى التحرّر منه، أو تحاولين العودة إليه من أجل تغييره؟

إخلاص: التَّكلّسُ كلمةٌ صعبةٌ وقاسيةٌ جدًّا، ولا تعطي المعنى المطلوب هنا، لأنّ التكلّسَ مرضٌ يفتك بالعظام وحتى بالأوعية الدموية.. الزمن البيروتيُّ واللبناني بشكل عام لأنّي بنت الجنوب، ولو أنّي سكنتُ بيروتَ مدّةً طويلة، لا أعتبره تكلّسًا، ولا أسعى بتاتًا إلى التَّحرّر من ذلك الزمن، برغم أنّي امرأة أنتمي إلى حضارة الضوء والشبكات العنكبوتية والتواصل، حيث أمارس الأدبَ بكلّ أنواعه، وأقف على الثقافة والحداثة، لكن هذا ما زادني إلّا تعلّقًا بالزمن اللبناني، حيث الأصالة في الأدب.

من لبنان خرَج كبارُ الأدباء والفلاسفة، وهو الرائد الأوَّل في الحداثة.. في الشبكات العنكبوتية قلّما تجِد ذلك، وأحيانًا كثيرة تكون مُزيَّفة، لأنّ الجميع يختفي خلْف الزجاج البارد، ولا نرى سوى قلّة تكتب بمصداقية. انا امرأة حداثية كما قلتُ في كتاباتي، لكن جذوري عميقةٌ جدًّا، خرجتُ من تربة خصبة، من تربة “جبران خليل جبران” حيث الثورة على المألوف، و”ميخائيل نعيمة” الذي أحدث تغيِيرًا في النَّهج الأدبي، وفي المفاهيم التقليدية للشعر والنثر العربي، و”سعيد عقل” رائد الحداثة في الشعر وغيرهم.. السَّابقون لعصرهم والسَّبَّاقون، صُنَّاع الحداثة، ليتنا نرتقي إلى ذلك الزمن، من أنا لأغيّره؟ بل نحن نحتاج إلى أن نتَغيّر إلى تلك الصورة من الأصالة.

دائمًا أردِّدُ كلمات “محمود درويش”:

هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها

أعتقدُ أنّ لبنان شاهِدٌ على هزيمة ذلك التكلّسِ والموت على مَرِّ العصور.

الأيام نيوز: يُفتَرضُ في المُبدع الأدبي أن يَمُرّ بمراحل في ممارسته للكتابة، تتطّور خلالها أدواته التعبيرية وتقنياته اللغوية.. غير أنّنا نرصدُ في كتاباتك أنك وُلِدتِ مُبدِعةً في منتهى النّضج، ولم تمُرّي بتلك المراحل.. فهل هي ثورةٌ إبداعيةٌ لديك اختارتْ زمن انفجارها؟

إخلاص: بكلّ بساطة، إن لم يولَد الإنسانُ ولديه موهبة الكتابة والإبداع فصعبٌ أن يكون مبدعًا، نولَد بالموهبة، ونعمل على صقْلها، نتعلّم التقنيات اللغوية والأدوات التعبيرية، نُنمِّيها بأن نرْفُدها من آبار تجارب وخبرات من سبقَنا، نتأنّى عليها كي تنضج. طبعًا مررتُ بكلّ تلك المراحل، مراحل “العَكّ” والتَّجْريب إذا صحّ التعبير، الخرْبشة والشَّخْبطة، وكتبتُ أشياءَ كثيرة قبل أن أبدأ بالنشر، وكنت أعتقد أنّها شيء، لكن مع مرور الوقت وبنصائح من سبقوني من المبدعين اكتشفتُ أنّه عليّ أن أتعلّم أكثر، ولكي أكتب أجمل كان عليّ أن أقرأ أكثر، وإذًا روّضْتُ قلبي على الانتماء إلى هذه المَسيرة الصعبة، ولأنّي في الطبيعة أحبُّ الجمال، والكتابة شَغَفي، ولا أحبّ الأشياء المنْقوصة أبدًا، كان لا بدّ من تحدٍّ للذات، وحين أبدأ عملاً يجب أن يخرج بأبْهى حُلَّة.. هذه هي الثورة الإبداعيَّة التي تتحدّثُ عنها التي اختارت الخروج إلى النور، وزمن انفجارها في الأوان المناسب.

الأيام نيوز: ما الذي تعْنيه الكتابةُ الأدبية لديك.. هل هي كَسْرٌ لصمتٍ يسكنُك، أو هي محاولةٌ لإعادة تأثيث أعماقك، أو ممارسةٌ للتحرّر من أشياء ما مثل الذاكرة؟

إخلاص: سؤالٌ جميلٌ، الإنسانُ طارئٌ في هذ العالم كغيره من المخلوقات، لكن الكتابة هي الفعل السَّرْمدي، هي فنّ الاحتراق، نحترق كي نولَد من جديد، وهي شكْلٌ من أشكال اعتناق الحياة، ونوعٌ من أنواع الاستقرار، انسِكابٌ لما يَجُول في الصدر والفكر، خاصّة لنا نحن البَعِيدين عن ذَوِينا والوطن، تجْتمع الحروفُ لتؤلّف كلمات ننْفضُ بها الرتابة عنّا، ونختبرُ فِعلَ الوحدةِ في زمن التشرّد والرغبة في تجريب كلّ جديد.

الكتابة كما دوْرة الحياة، تولَد فينا ومنّا تكبر وترحل معنا، ويصير المكتوب فِعْلَ استدامةٍ للحياة ما بعد الحياة. والكتابة ليس لنتحرّر من أشياء تسكننا لأنّنا نسكنها بل كي نقف أمام ذواتِنا، هي مرآةٌ لنا، وللآخر فينا، الكتابة، اللذة، الخطيئة، المتعة اللَّحْظية والزمنية التي تُقْتَرف فيها، لمساتٌ تسْري رعشةً في السطور، وفكرةٌ صاعقةٌ تقبضُ على أناملنا، تتحكّم بنا، وتمتلك قوَّةَ الإرادة فينا بقوة، فيُصدِر القلمُ فرَمانًا بإطلاق العنان، لتنطلق الكلمات  تلْتمِسُ الحرّيةَ من نيْرِ أفكارنا، تصهل في مدى البحر الأبيض، تتحرّر من جموح رغباتنا المُهشّمة، وأهوائنا النَّزِقة، وتصير كائنًا حيًّا أمامنا، نتبادلُ معًا الأدوار، تحاكينا والآخر، فتكون للحبْر الكلمةُ الأخيرة.

الكتابةُ صلاةٌ، فعل إيمان، وتجلٍّ للنفس البشرية، لكلّ إنسانٍ بصمةٌ مُميَّزة، والكتابة هي الصّبْغة الخصوصية التي تميّزنا عن الآخرين، وهي التَّقاسيم الروحية التي تمْنحُنا السَّلامَ النفسيَّ والمُصالحةَ مع الذات برغم توالي المُتناقضات في حياتنا، نأْتلِفُ مع الحبْر على الورق، نتَّكِئ إلى القلم، نرسمُ عَجَلة وُجودٍ تمتدُّ بنا نحو الأبد.

الأيام نيوز: تجنحُ لغتك إلى الشعرية حتى في كتاباتك القصصية والسّردية، فهل الأمر يتعلّق بتقنيتك الخاصّة في التّعبير، أم إنّ هذه الشعرية هي أشبه بالتزام ذاتي لاستحضار جماليات الطبيعة وموسيقاها لمواجهة أشياء في أعماقك مُرتبطة بمشهديات الخراب وأصوات الدّمار؟

إخلاص: يقول جبران خليل جبران: ” سعادةُ الحياةِ أن تمتلك روحًا تهْديك الفرحَ”. باعتقادي من هنا بدأ الشِّعر وعلاقته بالحياة والكون، روح الفرح، الطبيعة والكون في عرس دائم، والشعر هو الموسيقى التَّصويرية في هذه المَشْهديَّة.

رُبِّيت في بيئة ريفيَّة، في قرية جنوبيَّة تطلّ من الغرب على البحر الأبيض المتوسط، ومن الشرق على الجبال المحيطة بالقرية، ومن الشمال والجنوب أيضاً، جبال ووديان وغابات، وكنت في ليالي الصيف أنام على سطح منزلنا بسبب الحرّ، أرقب الكون، أصغي إلى الكواكب والنجوم والشُّهُب والرسائل التي ترسلها النجوم عبْر تلألئها، وأسمع صوت الخالق يتجلّى في المخلوقات نهارًا في الجبال والوديان في الشجر والصخر في النهر، وفي تتالي الفصول، في الطبيعة بكلّ تجلّياتها وتقلباتها، وغضبها وسُكونها، تعلّمتُ فنَّ الإصغاء منذ الطفولة، وكأنّ الله ينفخ في ناي الكون، كنت أسمع صوت العَتَم يزحف على القمم وأنا في قمّة الدهشة ممّا أسمع وأرى، وللطبيعة قصيدتها المروية في الفصول، وللكون قصيدته يحدّثنا بها الفلك والمجرات والكواكب، وللأدب موسيقاه يحدّثنا بها الشِّعر الذي أعتبِرُه الموسيقى التَّصويرية لأيّ نوع من أنواع الكتابة، أنا لا أتعمّدُ في لغتي الجنوح نحو الشعر، أعتقد أنّ الشعر مُتمكّنٌ مِنِّي، كوْني أحبُّ الموسيقى، فتنعكس في تقنيات التعبير.

الأيام نيوز: ما الذي تعنيه لك هذه الكلمات: الغربة، الجنون، الورد، الموسيقى، الطبيعة؟

إخلاص: اختيارٌ مُبدِعٌ للكلمات.  الغربة: أن أكون ولا يكون، وأن يكون ولا أكون، تستطيع إسقاطها على الوطن أولاً، الحبيب، الأنا، الآخر، الروح.
الجنون: الجنون هو الوجه الآخر المقابل للحلم، لولا الجنون لما كُنّا هنا نتَّبِع شغفَنا بكلّ ما أُوتينا من جنون. الورد: لغةُ من لا يُجيد الكلامَ في الوقت المُعيَّن. الموسيقى: لا يمكن أن أتخيّل مُرورَ يومٍ دون أن أستمع إلى قطعة موسيقية، أعتبرها شجون الله في الإنسان. الطبيعة: مَلحَمةٌ إلهية، رعْشة جمالٍ مكتوبةٍ بإصبع الله.

الأيام نيوز: هناك فيضٌ كبيرٌ من الحكمة والفلسفة في أعمالك، كأنمّا تمارسين نوعًا من التصوّف في كتاباته.. وتتوجّهين إلى رسم معالِمَ لمشروع الإنسان الذي لا خلاص له من جنون العالم إلّا بالحبّ والجمال والخير؟

إخلاص: أقِفُ أمام أسئلتك بجلال، أرانِي أُعيد صياغةَ ذاتي أمامها، أنا امرأةٌ سليلةُ الحربِ، وتحبُّ الحياةَ، برغم كلّ ما فيها من ألم ومُنغّصات. وعلاقتي بالحبّ والكتابة علاقةُ السّمكِ بالماءِ، أحيا، وأتحرّكُ بهِما، ودونَهُما الموتُ.. إنّ تلك الكلمةَ هي المايسترو، وهي إلهامُ الحالمينَ، توزّعُ الأدوارَ في الحياةِ العمليةِ اليوميةِ، فيؤدّي كلٌّ منّا دورَهُ بإتقانٍ.

لقد نالَ الوَجعُ من فراشةِ حلمي، وأحْنى الظلمُ والظلامُ بياضَ ورقي، وباتَ أنِيني الخبزَ اليوميَّ، وأنا أرى ما أرى. جلادٌ ينهش ظهري، ودمعي غزالةٌ تفرُّ من عينيّ، اتسعتْ دائرةُ الحرب والانقسامات والفواجع بسبب الحروب.. كبرتُ وأدركتُ أن صُنّاع الحرب هدفهم الأول هو تحطيم الإنسان، وقِيَمه الاجتماعية منها والفكرية، الاقتصادية والروحية، ولا تتخيّل كم هو صعْبٌ أن تجد ذاتك في وسَطِ كان يجب أن يدفع عجَلة بناء الإنسان إلى الأمام، تراه يُبْليه بحرْبٍ ضَروس، ويَرْميه في شَرَك العداوة مع ذاته والآخر. الحرب صناعةٌ بشريَّةٌ، فكرةٌ من قلب لم يتطهّر بجمرة المَحبّة، أمام هذا الواقع كان لا بدّ أن ينتفض قلمي للحبّ والإنسان.

لن أدع سوْط الجلاَّد ينال من رسالتي، وانتصرت بالحبّ، لأنّه جوهر الحياة، وبيقينية الإيمان بالإله الذي لا يُغلَب، أنا أؤمن بالإنسان، ومشروعي الأول والأخير وهدفي في عالمي الأدبي هذا هو الإنسان، الإنسان مِحور، فكر الله، وإن كان محور فكر الله يجب علينا نحن خليقة الله أن نعتني به. لا يمكن للإنسان أن يشفى من الوجع والكراهية والموت والقتل إلّا بالحبّ والجمال، من يعرف الحبّ ويتذوق الجمال لا يمكن أن يضغط على زناد بندقية ليقتل أخاه الإنسان، ولا يمكن أن يُنهي حياة إنسان، ولا يمكن أن يُطْفئ فتيلة مِدخنة، ولا أن يقصف زهرة برية، ولا أن يدوس على حلم طفل، ولا أن يبتُر رُؤى الشباب، ويقضي على أمانيهم، أو يكسر خاطر كهل.. بل يعمل على أن ينشر الحياة.

الأيام نيوز: نكاد نسمعُ استصراخَ طفلةٍ سجينة في كتاباتك، وتريد أن تتحرّر وتمارس “جنونها” وطفوليّتها.. هل هي الطفلة التي لم تعيشيها وتفتقديها، أم هي الطفلة التي تسكُنك، ولكنك تتستّرين على وجودها كأنما لا تُريدين الاعتراف بها؟

إخلاص: الطفولةُ نحنُ، ونحنُ الطفولةُ، في اللحظة التي نتخلّى فيها عن تلك الطفولة يَشيخُ القلم، وييْبَس حِبْرُه، لقد عشت طفولةً مُتأرجحةً ما بين الحرب والخوف والدَّمار، وما بين الطبيعة التي أعشق، والتي شَكّلتْ ما أنا عليه، البَراح الواسع للحرّية إذا صحَّ التعبير، حيث لا قيْد ولا أحكام مُسْبقة ولا تقاليد ولا طقوس إلّا تلك التي أوْجدها الخالق، لكنّها سُلِبت منّي بفعل الحرب، حيث أصبح الاستمتاع بالطبيعة خطرًا على حياتي، من المُتسلِّلين أعداء الحياة الدُّخلاء علينا وعلى الوطن، بالمعنى الأكبر للوطن.

أنا لا أتَستَّر على تلك الطفلة، بل أُطلق عِنان ضحكتها ودمعتها متى أرادت، وأعيشُ طفولتي بكلّ لحظة، وأتركُها تُمارس جنونَها وشغَفَها إلى حدّ الثمالة، أعترفُ بها بملء الفم: لولاها ما كنت قد كتبت.

الأيام نيوز: مجلة “غرفة 19” تجربةٌ إعلاميَّة متخصّصة في الثقافة والأدب تُذكّرنا بتجارب أدباء المهجر من أمثال “جبران خليل جبران”.. هل من كلمة حولها؟

إخلاص: مجلة “غرفة 19” هي المَوْقِد الذي أجْمعُ حوله أقلامَ المُبدعِين من كلّ الوطن العربي والمَهجر، لقد حمَل “جبران خليل جبران” هَمَّ الإنسان في الشرق عامة ولبنان خاصة إلى الغرب، كتب عنه وإليه، جسّده في لوحاته وحَرْفه، قدّمه إلى الغرب بكلّ شفافيَّة وصدق، ثار على الظلم، وعالج مواضيع الحبّ والحرّية، أسّس رابطة أدباء المهجر وجمَع فيها أقلام المبدعين المهاجرين، لتكون نافذة للانتشار، لكن من أنا لأتمثّل بجبران ونعيمة وغيرهما، وأكون امتدادًا لهم خاصة في ظلّ العالم الإلكتروني والفضاء الأزرق، كان لا بدّ من ردّ الجميل، والسير على نهج آخر، الآن لم يعد هناك من مهجر، العالم كلّه نراه في شاشة صغيرة، لكن كان لا بدّ من امتدادٍ لفكرة الحبّ والحرّية والسلام، لنشر بذور الإبداع والجمال، عندها أسّست “الغرفة 19”  لتكون نافذة  ثقافية أدبية اجتماعية، وانبثق عنها مجلة “غرفة 19″،  لكلّ الكتّاب من كلّ العالم العربي والمهجر، بغضّ النظر عن خلفيَّة الكاتب، وللشباب والأطفال لإطلاق مواهبهم، ونشر الجمال والإبداع في عالم تُفتّتُه البشاعةُ والكراهيَّة، في هذا العالمُ الغارقِ في الفسادِ، بكلّ ما فيهِ من كراهيةٍ.

إنّ السلاحَ الذي يدفعُ ثمنَهُ الإنسانُ ليُدمّرَ أخاهُ الإنسانَ يفوقُ الخيالَ. أنا ليسَ في يدي إلّا سلاحٌ واحدٌ، هو هذا القلم، وهذه اللغة، وهذه القلوبُ التي ما زالتْ تؤمنُ بالحبّ بلْسمًا وحيدًا لعلاجِ الإنسانيةِ.

الأيام نيوز: تقومِين بمبادرات إعلامية وثقافية مُتنوِّعة على المستوى الرَّقْمي وعلى الجغرافية الغربية والعربية، فهل من إضاءة حول رؤيتك إلى الواقع الأدبي العربي وقضاياه وأهدافك لتحريك السّكون أو تفعيل الطّاقات الإبداعية العربية لا سيما فيما يتعلّق بالمرأة؟

إخلاص: الواقع الأدبي العربي وقضاياه المتشعِّبة حالُه من حال الوطن العربي، ينزف في وطن، ويلْعَق جراحه في وطن آخر، وينتفض من تحت الرماد في مواجهة أسياد الموت والدمار كما في لبنان، ويَثور ويقاوم ويتشبّث بخيْط الأمل الحريري في وطن آخر، وأحيانًا يشنقُه الخيْطُ، لكن مع كلّ هذه السَّوْداويَّة أراه بخير، ونحتاج أكثر إلى أيادٍ بيضاء تؤمن بالقلم والكلمة. أطمح إلى مستقبل أفضل، وأشعر أنّ لديّ التزامًا اتّجاهَ المبدعِ في الوطن والاغتراب، أحاولُ رتْقَ الشَّرخ الذي سبَّبته الحروب، وردْم الهُوَّة التي فرّقتنا وشرْذمتنا، بما أملك من إمكانيات إعلامية وثقافية ومبادرات شخصية لدفع عجَلة الإبداع نحو الأمام، وتسليط الضوء على كلّ جمال، إن كان من خلال مِنصَّة “زوم” حيث أستضيف مُبدعين من مختلف الوطن العربي، للبحث في شؤون الثقافة والكتابة، وإن كان في مجلة “الغرفة 19” الإلكترونية والتي تهتمّ بدورها بكلّ جديد ومبدع، وأسلّط الضوء أيضًا على تكريم مُبدعِينا الذين سبقونا..

وبالنسبة للمرأة، على المرأة أن تؤمن بالمرأة أوَّلاً.. أن تؤمن بقدراتها الذاتية، أن تكفّ عن محاربة المرأة الأخرى، تثق بذاتها، وبطاقاتها الفكرية الإبداعية، تبتعد عن الابتذال، والصورة التي رسمَها لها الرجل الشرقي. ليس عيبًا أن تكون المرأة جميلة ومثقّفة، فالمرأة كائنٌ مثل الرجل، وقد تتفوق عليه، ألم يقل المتنبي: وما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ عيبٌ — ولا التّذكيرُ فخرٌ للهلالِ.

الأيام نيوز: هل من جوابٍ أخيرٍ حول سؤال لم نطرحه عليك؟

إخلاص: هناك سؤال لكم، بصفتكم جهة إعلامية، وأتمنّى أن يُطرح للبحث، كيف ترى وسائل الإعلام السَّاحةَ الثقافية، وما هي نوع المعاناة أو الصعوبات التي تواجهونها، أو ما السَّلبيات والإيجابيات التي تواجهها المؤسّسة الإعلامية المُتخصِّصة؟

في النهاية أشكر جريدة “الأيام نيوز” والقائمين عليها، ومُعِدُّ هذا الحوار، على هذه الأسئلة المختارة بعناية وحِرَفيَّة مُتفوِّقة، شرفتُ بكم، واستمتعتُ بالإجابة عليها.

 

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا