المُستشرق المجري الحاج “عبد الكريم يوليوس جرمانوس”.. دور الإسلام في تاريخ الإنسانيَّة (الجزء الثاني)

الخروج من البداوة، وتحقيق انتصارات كُبرى على أكبر الحضارات في عصرها: الرومانيَّة والفارسيَّة، ثم الانتشار على جغرافيَّة العالم وبناء أكبر حضارة إنسانيَّة قائمة على العدل والعلم والأخلاق، في فترة زمنيَّة قصيرة جدًّا.. يُعتبر أكبر معجزة حقَّقها الإسلام في تاريخ البشر. مُعجزة لم ترتكز على القوة ولا على الثَّروة.. بل ارتكزت على الأخلاق والقِيَم وعلى الإنسان بمعناه الإنساني.. الإنسان المؤمن الذي يقف في صلاة الجماعة مع غيره من النَّاس دون تفرقة أو عنصريَّة بحسب الانتماء العرقي أو اللَّوني أو المستوى الاقتصادي أو الثِّقل الاجتماعي..

وقد تنبَّه “عبد الكريم جرمانوس” إلى هذه النقطة، وقال: “القوة الأخلاقيَّة العظيمة هي التي حقَّقت انتصار الإسلام وليس نوع سلاح المسلمين أو كمِّيته”. وفيما يلي، نواصل الإبحار مع الحاج المَجري “عبد الكريم” في دراسته التي نشرتها مجلة “الأصالة” الجزائرية في الأول من شهر مارس 1972..

رسولنا الكريم.. أعظم رجال الدولة في تاريخ العالم

لقد كانت تعاليم الإسلام الاجتماعية التحرُّرية والمنادية بالتَّكافؤ، هي مصدر الخطر الأول الذي أحَّست به الطبقة الحاكمة في مكَّة في ذلك الحين، واضطهدوا محمدًّا صلى الله عليه وسلَّم، بل وهدَّدوه في حياته. ولم يكن لمحمد اليتيم من ملجأ له في اضطهاده سوى أقربائه، ولكن حتى الكثير من هؤلاء تخلُّوا عنه. وكان خير سند له هي السيدة خديجة (رضى الله عنها) التي أحبَّته بل وآمنت به منذ البداية، وساندته حينما تكاثر عليه أعداؤه.. إنَّ هذا التمسُّك والإصرار الذي قامت به السيدة خديجة رضى الله عنها ليبعث على الإعجاب، وسيظلُّ مثلاً حيًّا أمام كل مسلم ومسلمة.

وتغيَّر وضع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنوَّرة، بعد أن أحرز نصرًا مبينًا على أعدائه.. وإذا بصاحب الدَّعوة المضطهد يصبح زعيمًا وقائدًا حربيًّا يقوده توفيق الله وإلهامه في كلِّ خطاه، وأنضجت الرُّؤيا والتجاربُ المتَّصلة والتفكير العميق محمدًّا صلى الله عليه وسلم، وجعلت منه أعظم رجال الدولة في تاريخ العالم، فقد أذكى صلى الله عليه وسلم الشعورَ القومي لدى العرب، فدين الإسلام دین أجدادهم: إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.. مكة العربية هي مركز الديانة الإسلامية، واحتفظ صلى الله عليه وسلم للعرب بالكثير من قدسيَاتهم فاعترف بالحجر الأسود رمزًا، وبالكعبة الشَّريفة قِبلةً وبالسَّعي بين الصفا والمروة سبع مرَّات، ولكنه صلى الله عليه وسلم أمَر في الوقت نفسه بهدم كلِّ الأصنام الوثنيَّة، وأقام مجتمعًا يطبِّق قواعد الإسلام وقوانينه. وحينما دخل صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين إلى مكة.. أرسى صرح الدولة والديانة الإسلامية وشعار الإسلام نفسه، بأنَّ لا إله إلاَّ الله الواحد الحق، يعبِّر في إيجازٍ مُعجزٍ عن تلك الحقيقة الرائعة التي جاهد العقل الإنساني، وحاولت تعاليم الفلاسفة المتعاقبين طوال السنين أن تعبِّر عنها وتعترف بها. فالكون بأجمعه قد خلقته قوةٌ أخلاقية شاملة تتحكَّم في الشَّكل الخارجي المتغيِّر للمادة.

كيف انتصر قومٌ بسطاء على جيوش حضاراتٍ عريقة؟

وعلى الرَّغم من أنَّ الشعوب العربية في ذلك الوقت كانت تعاني من العداوات القبائليَّة العتيقة التي ورثوها عن أيام الجاهلية والوثنيَّة، فقد كانت البساطة المتناهية لشعار الإسلام في حدِّ ذاته، وتلك القوة القاهرة الكامنة فيه، هي التي قادت الشعوب العربية المسلمة، بعد وفاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إلى الوقوف أمام شعوبٍ ذات حضارة مرتفعة كالبيزنطيين والفرس. فجيوش الإمبراطورية البيزنطيَّة ودولة الفُرس، كانت على أعلى درجات التَّنظيم، وكانت مُجهَّزة خير تجهيز، في الوقت الذي كانت فيه الجيوش العربية لا تملك سوى وسائل القتال البدائية: النِّبال والرماح والسيوف والحراب. ولكن، على الرغم من هذا، فقد توالت انتصارات المسلمين العرب في سرعة تخلب اللُّب، انتصروا على جيوش بيزنطية وفارس، واحتلُّوا ديارها، وخضع أهالي هذه الأقاليم طواعيَّة للمسلمين العرب، رافعين راية الإسلام.. دين البساطة والحق.. دين السماحة والمعايشة السلمية. إنَّها حقًّا ظاهرة فريدة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً.. أن ينتصر قومٌ بسطاء لا يملكون إلاَّ أدوات القتال البدائيَّة على أمم ذات حضارة مرتفعة، وتسليح جيوشها يكاد يبلغ حدَّ الكمال..

القوة الأخلاقيَّة العظيمة حقَّقت انتصار الإسلام

إنَّ القوة الأخلاقيَّة العظيمة هي التي حقَّقت انتصار الإسلام وليس نوع سلاح المسلمين أو كمِّيته.. سرّ النصر يكمن في عقيدة الإسلام نفسها، في ذلك الانضباط الرُّوحي الفريد الذي تفرضه شعائر الصلاة، خالقة بذلك قوة شجاعة لا يمكن قهرها، وإرادة متينة لا تهاب الموت.

واليوم، وبعد مرور أكثر من ألف عام، فلعلَّ العرب يأخذون العبرة الوافية من تلك الانتصارات الحربية التي حقَّقها أسلافهم العظام في القرن السابع الميلادي..

أخرجت الانتصاراتُ الحربيَّة العربَ من براريهم المقفرة إلى الأراضي الخصيبة المجاورة إلى سوريا والعراق ومصر.. وقادتهم فتوحاتهم غربًا حتى المحيط الأطلسي، وشرقًا إلى بلاد الفرس وشواطئ بحر قزوين. وظلَّت الجيوش العربية المسلمة تتقدَّم بلا توقُّف في كل الاتجاهات.. وعلى الرغم من أنَّ الشعوب في إفريقيا قاومتهم قليلاً، إلاَّ أنَّها اعتنقت الإسلام.. وفي الشَّرق، حاول “الخزر” إعاقة الزّحف الإسلامي.. ولكن لم يمض الكثير من الزمن حتى اعترف هؤلاء أيضًا بسموِّ الإسلام. وهكذا أصبح الإسلامُ الدِّيانة الغالبة في العصور الوسطى.

اتِّساع رقعة الدولة الإسلامية

وبذلك الاتِّساع الهائل في رقعة الدولة الإسلامية، نما دخلُها وتضاعف إلى درجة لم يعد من الممكن معها تقسيم هذا الدَّخل على أفراد المجتمع بالطريقة العائليَّة نفسها التي كانت متبَّعِة النظامَ القبلي سابقًا. وكان سيِّدنا أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)، رفيق محمد صلى الله عليه وسلم وأول الخلفاء الرَّاشدين، والدَّاعية إلى حياة البساطة والزُّهد، كان كالأب العادل وسط عائلة المسلمين المتنامية. وكانت تصرُّفات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وحفاظه على أموال المسلمين هو النِّبراس المضيء لصحابته وخلفائه، والمثل الدائم الذي يدعِّم نقاءهم الأخلاقي، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ما زاره الصديق أبو بكر للتَّباحث معه في أمور دنيويَّة شخصية، أطفأ صلوات الله عليه قناديلَ الزَّيت المُضاءة من بيت مال المسلمين.

وكانت هذه التصرُّفات وستبقى دليلاً وهاديًا لكلِّ مسلم وكل حاكمٍ، وبدأ الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، الذي كان أول من لقِّب بأمير المؤمنين، بدأ في قيادة الدولة الإسلامية المتعاظمة طبقًا لتعاليم الإسلام الحازمة. وفي بداية هذه المرحلة، لم يكن العرب على دراية كافية بوسائل الإدارة، ولذا فقد اضطرُّوا إلى الاستعانة بالمسيحيين والفرس في هذه المجالات، وكانت حسابات الدولة الإسلامية تتمُّ في البداية باللغات: الفارسية واليونانية، كما تداولوا عملاتهم فيما بينهم. وقام الخليفة عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) بتقسيم الدولة الإسلامية إلى ولايات، وجعل على كل منها عاملاً يحكم بين الناس بالعدل.. وتولَّى عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) بنفسه حُكم المدينة المنوَّرة مقرَّ الدولة الإسلامية في ذلك الحين، وكانت عدالة عمر بن الخطاب مثار إعجاب كلِّ الكتَّاب العرب فيما بعد، وأشادوا بها دائمًا.

ولقد كان عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) رجلاً ذو همَّة، وبعد تفكير عميق بدأ في تنظيم تلك المبادرات التي بدأها أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)، والتي تتشابه في نواحٍ معيَّنة مع تجارب إشراف الدولة الأخرى التي برزت فيما بعد في تاريخ الإسلام.

نظام الدولة “العُمريَّة”

وقد حكم ابن خلدون – أحد أكبر المفكِّرين العرب – حكَم على تلك المحاولات في مقدَّمته التي صدرت بعد ذلك بزمان طويل، بأنَّها ضارَّة وغير اقتصادية ولا تؤدّي إلى الهدف المقصود منها. ولقد خشي الخليفة عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) أن تثمِل نشوةُ النَّصر المحاربين العرب فيعتبروا الأرض المحرَّرة ملكًا خاصًّا لهم، ويتصرَّفون تصرُّفات الإقطاعيين، أو أن ينسلخوا بإقطاعيَّاتهم الجديدة عن الدولة الإسلامية… بل وقد يتحدّون سلطةَ الدولة المركزية نفسها فيما بعد. ولذا فقد أمر الخليفة عمر (رضى الله عنه) بمنع وجود ملكيَّة خاصة للأراضي.. وكان المتبقِّي من دخل بيت المال بعد اقتطاع نسبة الخُمس، يتمُّ توزيعه توزيعًا عادلاً على صورة هبات وعطاءات على المقاتلين وعائلاتهم.. وبهذا فقد تمتَّع كل مسلم من الرَّضيع إلى العجوز بخدمات الدولة وإنفاقها عليه، وكانت الدولة تتحرى بدقَّة عن الحاصلين على هبات من الدولة بدون وجه حق.

ولفترة من الزَّمان، بدأ نظام إشراف الدولة هذا كما لو كان نظامًا مثاليًّا، ولكن قصور الجهاز الإداري وبدائيَّته في ذلك الحين، بالإضافة إلى طبيعة دخل الدولة المتمثِّل في المنتجات الخام، أوقع هذا النظام في الكثير من المشاكل، وبالتالي لم يعمِّر طويلاً.

ومنذ منتصف القرن السابع الميلادي، انقسم العالم دينيًّا إلى قسمين رئيسيين: مسلمين ومسيحيين. وأيًّا كان قدر تباين الأديان.. سواء كانت مسيحية أم زاردوشتيَّة، فإنَّها مادة تدمغ الثقافة بطابعها. ولكن الأساس الحيوي للثقافة.. وهو الوضع الاقتصادي لم يتغيَّر، وإن ارتبط مع مرحلة التطوُّر التكنولوجي للعصر بعلاقات متبادلة.

الدولة في القرون الوُسطى

وفي نهاية القرن السادس الميلادي ومطلع القرن السابع الميلادي، أدَّت عمليات إشراف الدولة التي أدخلها الإمبراطور “يوستينيان” في الإمبراطورية البيزنطيَّة، أدَّت إلى عمليات مشابهة في بلاد الفرس، حيث بدأت الصناعة والتجارة في الدُّخول تحت سيطرة الدولة تدريجيًّا، وأصبح الجنود والموظفون يتقاضون نسبًا متزايدة من مرتَّباتهم على صورة مواد عينيَّة بدلاً من النُّقود. ونتج من الإشراف الكامل للدولة وسيطرتها على جميع المرافق المختلفة، الفقدان التام لحرية الحياة الاقتصادية، وأصبح التَّعامل بالنُّقود محدودًا للغاية، بل ولم يقتصر الأمر على العاملين في قطاعات التجارة والصناعة فحسب، وإنَّما وصل الحال إلى أنَّ المحامين والأطباء والكَتبة أصبحوا تدريجيًّا موظَّفين حكوميِّين.

وأدَّت القيود المفروضة على الحرية الاقتصادية للأفراد إلى اندلاع حركات التمرُّد، ممَّا أرغم حكومة “بيزنطة” على إدخال أنظمة اقتصادية جديدة للتَّخفيف من التوتَّر القائم في الحياة الاقتصادية. وقد طبَّق عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ومن بعده معاوية بن أبي سفيان في سوريا، ذلك النظام الاقتصادي القديم للحكومة “البيزنطية” من سيطرة الحكومة على مختلف المرافق، ذلك النظام الذي استُبعد فيما بعد كنتيجة للتطوُّر الاقتصادي العالمي.

العرب.. من قبائل رُحَّل إلى صُنَّاع حضارة

ولكن، وكنتيجة حتميَّة لانتصار العرب على الشعوب الأجنبيّة ذات الثقافة العالميَّة العتيدة، ومن خلال الزيجات المشتركة والاتصالات الفكريَّة المتعدِّدة، فقد تحوَّل العرب من قبائل رُحَّل، ساكني خيام، ورعاة أغنام، إلى سكَّان مُدن، وصُنَّاع، وأهل فكر، وعلماء، ورجال دولة ناضجين.. لتولِّي مهام الحُكم.

وبدخول العديد من الأجناس في دين الله أفواجًا، اشتدّ عود الفكر العربي المتوقِّد دائمًا، إذ بدأ العرب يتعرَّفون في همَّة على العلوم الأجنبية وعلى الفكر العالمي. وخلال فترة الحكم الأموي، كان المسلمون والمسيحيون أثناء مسامراتهم يناقشون سويًّا أوجه الاختلاف بين الديانتين.. فأخذ المسلمون يتَّخذون من كلمات الله عز جلاله حججًا مقنعة وبراهين ساطعة لآرائهم، ممَّا قوَّى من عقيدة علماء المسلمين أنفسهم، وأوسع من مداركهم، وبدأوا في تفسير العديد من آيات القرآن الكريم المعجزة من وجهات نظر مختلفة. وأدَّت هذه العملية بدورها إلى البدء في تفسير تراكيب اللغة نفسها، وشرعوا في وضع أسس عمليَّة لقواعد الحديث والمُخاطبة.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا