المُستعرب الروسي “أغناتي كراتشوفسكي”.. أربعون عاما مع المخطوطات العربية (الجزء الثاني)

يروي لنا “أغناتي كراتشوفسكي” قصّته مع مصحف عثمان رضي الله عنه، وكيف حصل عليه من حفيدة رجلٍ روسيٍّ من أصول عربيَّة.. كما يروي لنا أنّ نسخةً من مصحف عثمان ظهرت في مدينة “بجاية”، وانَّ الناس كانوا يتبرّكون بها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، حيث قال: “عثرتُ في بعض الأوراق على قصيدة وصف فيها صاحبها حالة بجاية، ويذكر أنَّ أهلها كانوا يخرجون ليلة 27 رمضان إلى ساحة سفح جبل فليفلة ليتبرّكوا بالمصحف العثماني، وبالفعل استحال هذا الاجتماع إلى ما سُمّي بصلاة 27”. ويروي أيضًا أنَّ روسيا أعادت إلى المُسلمين مخطوطًا لمصحف عثمان، وجدته في تركستان، حيث يقول: “وبإيعاز من لينين، أعادت السلطة السوفييتية على الفور إلى المسلمين هذه الذّخيرة القوميّة التي يحترمونها احترامًا عميقًا”.

فيما يلي، نواصل إبحارنا في مقالة الشيخ “المهدي البوعبدلي”، الذي كان عضو المجلس الإسلامي الجزائري، حول المُستعرب الرّوسي “أغناتي كراتشوفسكي”، التي نشرها بمجلة “الأصالة الجزائرية” في شهر جانفي 1973.

مُذكّرات عن المخطوطات العربيّة

كتاب “أغناتي كراتشوفسكي” يحتوي على 28 مقالًا تشملها سبعة فصول مع مقدّمة وخاتمة، كل مقالٍ يذكر فيه الظروف التي اكتشف فيها تلك المخطوطات وانطباعاته. ونجد المؤلف يقول في مقدمته: “فما كتبت هذه المذكرات عن نفسي، بل عن المخطوطات العربية التي لعبت دورًا كبيرًا في حياتي، والتي شاء لي الحظ، أن أقع عليها، أو التي شقّت طريقها إلى دنيا العلم عبر يدي”. ولنقتصر على تقديم مقالين من هذه المقالات المذكورة.

دراسة بعض أوراق بالخط الكوفي من مصحفٍ للقرآن.

دراسة ديوان أبى بكر بن قزمان الأندلسي.

فالدراسة الأولى لها عنوان: (قرآن کوفي.. وجدة عربية).

والدراسة الثانية لها عنوان: (مخطوط وحيد وعلماء اثنتي عشرة لغة).

المخطوطُ غنيمةٌ حربيّة

قال عن (قرآن كوفي.. وجدة عربية)، ما يلي: “يمثل القرآن الكوفي من القرنين الهجريين الأول والثاني شيئًا نادرًا جدًّا في مجموعة المخطوطات، وتُعتبر النسخ الكاملة منه أحادية في كل العالم، وكان زينة مكتبتنا العامة مدّة طويلة، القرآن الذي يعرف بالعثماني أو السمرقندي، وقد حُمل إلى مدينتنا بأمر الجنرال فون كاوفمان، كغنيمة حربيّة عند غزو آسيا الوسطى، ثم عاد من جديد إلى آسيا الوسطى بعد ثورة أكتوبر، وبالطبع فإنّه لم يكن مطلقًا في يد الخليفة في اللحظة التي مات فيها، مثله كمثل توائمه التي عُرف منها في العالم ما لا يقلّ عن ثلاث أو أربع نسخ، ولكنها تُنسب كلها أو ترجع إلى القرن الأول الهجري، فإنّ تلك النّسخة الكاملة لـم تبق في لينينغراد، وكان الأمر هنا وفي البلاد الأخرى عادة أنّ القرآن الكوفي فى كل مكان يتمثّل في أوراق ناقصة من الرقّ، يختلف عددها باختلاف الأماكن، بل إنّ مارسيل المشهور، مؤسِّس المطبعة العربية في مصر وقت حملة نابوليون، والهاوي الكبير لفن الخطوط، ولعلم تطوّر الخطوط الأثرية، لم يستطع أن يحمل معه – من مصر – إلّا أوراقًا منفردة وقَع جزءٌ منها في مكتبتنا العامة.

ولقد شكّلت أمريكا طيلة القرن الأخير وبفضل ملايينها، مجموعات في مجالات مختلفة، يكشف ضوءها أحيانًا مجموعات العالم القديم، إلّا أنّها حتى الآن ليست أسعد من هذا العالم في المخطوطات الكوفيّة، وهي تقوم بنشاط بوصف وبحث الأوراق الجزئية المختلفة التي تقع لديها من وراء المحيط، إلّا أنّ مثل هذه الأوراق الكوفيّة لم تكن تظهر بصورة كثيرة.

السيّدة المجهولة والمصحف العثماني..

ولذلك يصبح من المفهوم كيف خفق قلبي، عندما وقع في يدي ذات مرّة في خريف 1936، بضع عشرات من الأوراق الرّقيّة الكبيرة الرائعة بخط كوفي قديم، وكانت سيّدة مجهولة قد حملت هذه الأوراق إلى معهد الاستشراق لتبيعها… وهنا تبدو قصة جزء المصحف الذي اشتراه المؤلف لخزانتهم، وذكر ضمنها المصحف العثماني الذي كان بالمتحف الآسيوي بـ “لينينغراد”.

ولنقف قليلا لنتحدّث عن المصحف العثماني المذكور. كانت هذه المصاحف، أي المنسوبة لعهد الخليفة “عثمان بن عفان”، يتسابق إلى اقتنائها الملوك والسلاطين، وبالفعل يُحكى أنَّ واحدًا منها ختم به المطاف في “بجاية” وكان الناس يجتمعون للتبرّك به ليلة 27 رمضان لخبرٍ يطول..

المصحف العثماني في مدينة بجاية

قال “كراتشوفسكي”: “عثرتُ في بعض الأوراق على قصيدة وصف فيها صاحبها حالة “بجاية” ويذكر أنَّ أهلها كانوا يخرجون ليلة 27 رمضان إلى ساحة سفح جبل “فليفلة” ليتبرّكوا بالمصحف العثماني، وبالفعل استحال هذا الاجتماع إلى ما سُمّي بصلاة 27. ونُسبت تلك الصلاة أنّها كانت لإحياء ذكرى أحد مشايخ الطريقة الرحمانية. والحقيقة أو ما يقرب منها، هو ما ذكره الشاعر حيث بقي سكان البوادي يزورون البلدة ومساجدها ليلة 27 رمضان من كل سنة”.

ثروة عربيّة في مكتبة “طشقند”

ثم عُرِف أنَّ مصحفًا آخر كان بخزانة “تيمور اللنق” بسمرقند. وبالفعل لا زالت آثار سمرقند تحتفظ بالقاعدة الرخاميّة، أي مصطبة من رخام بساحة البلدة، وقيل أنَّ هذه المصطبة كانت داخل مسجد “الخواجة أحرار”، وقد أمر ببنائها العالم الفلكي الشهير “أولغ بك” حفيد “تيمور اللنق”، ليوضع عليها المصحف. وإثر الزلالزل التي هدمت كثيرًا من معالم البلدة، أخرِجت هذه المصطبة إلى الساحة العمومية.

وقد تعرَّضت إحدى المجلات العربية بالحديث عن هذا المصحف، ووصفت مكتبة “طشقند” (عاصمة أوزبكستان) “إنّها تضمّ عشرين ألف مجلد من بينها نحو الألفين من المخطوطات التي لا توجد إلّا فى هذه المدينة.. وفيها من الآثار النفيسة والأغلاف الثمينة، نسخة فوتوغرافية من مصحف عثمان رضى الله عنه، وهو يُعتبر من الآثار التي قدّمتها الدولة السوفياتية إلى المسلمين، حيث اهتمّت الحكومة بأن تعيد إلى المسلمين مقدساتهم وذخائرهم الدينية..

“لينين” يُعيد مصحف عثمان إلى المُسلمين

وفي سنة 1968، أي بعد استلاء القوات القيصرية على سمرقند بوقت قصير، عثر حاكم تركستان العسكري على هذا المخطوط القديم القيِّم في مسجد “خواجة أحرار”، وأرسله إلى المكتبة الإمبراطورية “بطرسبورغ”، وبإيعاز من “لينين” أعادت السلطة السوفييتية على الفور إلى المسلمين هذه الذخيرة القومية التي يحترمونها احترامًا عميقًا. وقد أبدى أحد العلماء العرب شكّه فى نسبة هذا المصحف الشريف إلى سيدنا “عثمان”، لأنّ الفن الدقيق الذي کُتب به وأبعاد الحروف الهندسية الجميلة للكلمات.. كل ذلك كان بعيدًا عن شكل الكتابة المتداولة في عهد سيدنا عثمان رضى الله عنه، حيث كانت رسوم الكلمات ذلك الوقت غير مستحكمة فى الإجادة..

قصّة حفيدة العربي “أريني غيورغييفتش نوفل”

ورغم خفقان قلب “كراتشوفسكي” عندما قدّمت له السيدة المجهولة الأوراق الكوفية، فقد ذكر كيف استشار اختصاصيين في “علم تطوُّر الخطوط الأثريّة العربية”، كلًّا على حِدته. واتفق جوابهم له أنَّ تلك الكتابة: “ترجع إلى بداية القرن التاسع الميلادي أو ربّما إلى نهاية القرن الثامن”، ذلك أنّه رغم تخصّصه، فقد رأى عدم الاتّكال على نفسه بالتّحقيق في قيمة الأوراق المعروضة عليه. ثم يتحدّث عن بائعة الأوراق، فيقول: “وهذه السيّدة سمّت نفسها باسم روسي عادي إلّا أنّها قالت أنّه كانت لديهم – منذ وقت بعيد – جدّة عربية توفِّيت لا تذكرها”.

ثم يذكر كيف أمكنه أن يغري تلك المرأة حتى تُلحِق بقيّة الأوراق التي عدّها من أعظم النّفائس. وبالفعل ألحقت البقيّة التي صار مجموعها يشتمل رُبع مصحف. واكتشف أثناء تصفّحه للأوراق ولبعض كتب ألحقتها مع الأوراق أنَّ البائعة الروسية ليست لها جدّة عربية بل جدّ عربي من أكابر العلماء المستشرقين، والذي يهمّه من أمر هذا المستشرق وحفيدته هو ما ختَم به مقاله: “… وبعد أعوام كثيرة عرفتُ مصادفة أن تخميني كان مضبوطًا، وأنّنا اشترينا القرآن الكوفي حقيقةً من حفيدة نوفل”.

وجدُّ البائعة هو “أريني غيورغييفتش نوفل”، عربي مسيحي من أسرة مشهورة في طرابلس الشام، كان يعلِّم في القسم التعليمي بالوزارة الخارجية بروسيا حوالي 1860، من جملة ما قال فيه كراتشوفسكي: “فقد كان نوفل كالكثير من العرب المسيحيين لا يميل إلى الإسلام، وسمح مرارًا لنفسه في كتبه بالنّيل من الرسول محمد ومن الإسلام، وقد احتجّ السفير التركي على ذلك وطلب مصادرة كتبه”.

الأحفاد يبيعون مكتبة جدّهم

حفيدة “نوفل” هذه التي قال عنها المؤلف بأنَّ جدّها “كانت مكتبته جيّدة في وقت ما، ولم تحو الكتب فحسب بل والمخطوطات أيضًا.. وكان نصيب المكتبة لسوء الحظ مؤسفًا، بأولاده نصف الروسيين ونصف الفرنسيين، كانوا قد تلقّوا تعليمهم في المدارس الخاصة بأولاد كبار الشخصيات، وكانوا من أولئك الأولاد ذوي الملاعق الذهبية الذين كانوا معروفين آنذاك، ولم يكونوا يهتمّون لا بالعلم ولا بالأدب.. وانتهى بهم الأمر تدريجيًّا إلى أنَّهم انتهزوا فرصة شيخوخة والدهم، فأخذوا يبيعون الكتب المختلفة. ولعلّ حفيدته لم تُرِد أن تتذكّر مساوئ والدها، أو لعلها خافت أن نكشف عن جدّها الذي كان مستخدمًا كبيرًا في وزارة الخارجية في زمن القيصريّة، وبسبب هذا استبدلت الجدّ العربي بالجدّة العربية. ومن الصعب القول أيًّا من هذين الاحتمالين هو الأصحّ”.

فريق الدعم

فريق الدعم

اقرأ أيضا