المُستعرب الروسي “أغناتي كراتشوفسكي”.. أربعون عاما مع المخطوطات العربية (3)

رغم أنّه كان إمام الزجّالين، فقد ظلّ الشاعر القرطبي “ابن قزمان” مجهولًا في تاريخ الأدب العربي، ولولا النسخة الوحيدة لديوانه التي ظهرت في “صفد” بفلسطين في القرن السابع الهجري، لظلّ هذا الشاعر الكبير مُغيّبًا في ذاكرة النّسيان.

أفرد المستعرب الروسي “أغناتي كراتشوفسكي” مقالةً مُطوّلة في مذكّراته حول المخطوطات العربية لمخطوط ديوان “ابن قزمان”، وكيف تناقلته أيدي المُستشرقين في مشارق الأرض ومغاربها، وأولته بالدّراسة والعناية.. وتوصّل إلى رؤية جديرة بالتّأمل وهي أنّ البحث ودراسة المخطوطات قد وحّدت جهود العلماء والباحثين على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم ومناهجهم، وذلك من منطلق أنّ المخطوط – مهما كان مصدره – هو ميراثٌ إنسانيٌّ لكافّة شعوب العالم.

جاء في مقالة “كراتشوفسكي”: “… إنّ للمخطوطات أقدارها، فإنّ قوّتها السِّحرية التي توحّد العلماء الكثيرين فى اندفاع مشترك، تطرد نهائيًّا فى يوم من الأيام أرواح الظلام الشرّيرة التي ترمي إلى التّفرقة بين الناس والشعوب”.

فيما يلي، نواصل إبحارنا في مقالة الشيخ “المهدي البوعبدلي”، الذي كان عضو المجلس الإسلامي الجزائري، حول المُستعرب الرّوسي “أغناتي كراتشوفسكي”، التي نشرها بمجلة “الأصالة الجزائرية” في شهر جانفي 1973.

“ابن قزمان” إمام الزجّالين

الدراسة الثانية هي تحليل “أغناتي كراتشوفسكي” لديوان “ابن قزمان”، وللظروف التي اكتشف فيها هذا الديوان ووصل إلى خزانة “لينينغراد”، ونشره تحت عنوان (مخطوط وحيد وعلماء.. اثنتي عشرة لغة).

وقبل أن نذكر مقال “كراتشوفسكي”، نذكر بإيجاز نبذة من حياة “ابن قزمان” كما حرّرها أحد الأدباء الاختصاصيين (الدكتور عبد العزيز الأهواني في كتابه: الزّجل في الأندلس)، فقال: “لولا المصادفة التي حفظت لنا ديوان ابن قزمان فى نسخة وحيدة كُتبت في صفد في القرن السابع الهجري لكان مبلغ علمنا عن إمام الزجّالين لا يتجاوز كثيرًا القدر الضئيل الذي نعلمه عن حياة أيّ زجّال آخر، ذکره صاحب المُغرِب، ومع هذا فالنسخة التي جُمعت فيها أزجاله قد سقطت منها أوراق، ولم تذكر شيئًا عن المناسبات التي قيل فيها الزّجل، ولا عن تاريخ نظمه، وقد ندرَت أخبارُ ابن قزمان لأنّ أصحاب كتب التّراجم من الأندلسيين اعرضوا عن ذكره، كما أعرضوا عن ذكر الزجّالين قبله وبعده، فابن بسّام لم يفرد له ترجمةً في الذخيرة، وابن خاقان لم يشر إليه في القلائد أو المطمح… أمّا ابن الخطيب فقد ترجم له في الإحاطة، ولكنه خلط بينه وبين عمّه، أمّا الذين ترجموا له من الأندلسيين فهم ابن الأبّار في تحفة القادم ذكر اسمه وأنه من أهل قرطبة، وقال: وهو المنفرد بالإبداع في طريقة الأزجال، وذكر أنه توفي سنة 554”.

وبعد أن يذكر “الأهواني” من ترجموا لابن قزمان من القدماء شرقيين وأندلسيين، يقول: “… ذلك مبلغ ما وصلنا من عناية القدماء بابن قزمان، أمّا المحدثون والغربيون منهم بنوع خاص، فكان لابن قزمان عندهم شأنًا آخر، إذ أنَّ اكتشاف ديوانه كان لديهم حدثًا جديدًا في تاريخ الشعر الأندلسي بل والأوروبي كله، فعكف عليه العلماء، سواء في ذلك أصحاب الدراسات العربية أو الدراسات الرومانية في القرون الوسطى، يقتبسون منه الشّواهد ويقارنون بين نظام القوافي عنده وعند التروبادور، ويحاولون تفسير بعض ألفاظ أعجمية استخدمها الزجّال، إلى غير ذلك من أبحاث عدّ منها الأستاذ ليفي بروفنصال في مقالة له كتبها سنة 1944 تسعة وعشرين بحثًا أو إشارة أو اقتباسًا، ويمكن أن يُضاف إلى هذا العدد مقالات جديدة صدرت بعد التاريخ المذكور”.

“كراتشوفسكي”: حياتي الاستعرابيّة مع المخطوطات

ولنواصل حديث “كراتشوفسكي”، قال إثر العنوان: “غالبًا ما كنت في حياتي الاستعرابيّة ألتقي بمخطوطات كانت قد اكتُشفت منذ زمن بعيد دون أن يشعر أحد، ودون أيّة جلبة أو ضوضاء إلّا أنّ قصة دخولها بالتدريج إلى دنيا العلم. تذكِّر أحيانًا بأسطورة سحرية: في هذه القصة يقوم بالأدوار مجموعة من الشخصيات ارتبطت أقدارهم معًا بدون انتظار، ومع أنّ موضوع القصة (بدون رتوش)، إلّا أنّها تعطي صورة ذات دلالة للعمل الجماعي لعلماء كثرة من الشعوب الذي يجذب إلى مجراه موهوبين ممتازين وعاملين بسطاء وشعوبًا كاملة بتراثها الاستعرابي القديم والقوميات التي نالت استقلالها أمام عيوننا، بل ويجذب إلى مجراه الشرق والغرب كافة على اختلاف أشكالها الظاهريّة، حقًّا إنّها لصورة جذّابة تحمل بين جوانبها قوة معلِّمة، ومثل هذه الصورة كمثل (الشمس على قُطيرة ماء)، تعكس حركة الثقافة الإنسانية التي لا تعرف الكلل”.

حفيد “جان جاك روسو” يبيع خزانة مخطوطاته

ثم يذكر المؤلِّفَ “ابن قزمان” ونبذة من ترجمة حياته والوسط الذي عاش فيه وكيف وصل ديوانه الوحيد إلى مكتبة “لينينغراد”، وذلك أنَّ أحد أحفاد الكاتب الفرنسي الشهير “جان جاك روسو” كان له حفيد عُيّن قنصلًا لحكومته في حلب وبغداد، وأنجب هناك ولدًا شغف بالعربية حتى صار من علمائها، وجمع مجموعة من المخطوطات القيّمة منها ديوان “ابن قزمان”، وانتقل “روسو” المستشرق إلى طرابلس الشام وتغيّرت ظروفه المادية، إذ كان من كبار المثريّين فى أول عهده، فالتجأ إلى بيع خزانته، وكان ذلك بواسطة المستشرق الفرنسي المعروف سیلفیستر دوساس “أکبر مستشرق مشهور في عصره الذي كان يقدِّر جيّدًا قيمة هذه المجموعة”، فاتّصل بواسطة تلاميذه بوزير التعليم الشعبي في روسيا، فبيعت المجموعة على دفعتين في عامي 1819 و1825، و”حُرمت فرنسا من مجموعة قيّمة”.

يذكر أنَّ هذه المجموعة هي التي كانت أساسًا لمجموعات المتحف الآسيوي العالمية الشّأن التي جذبت بدورها المستشرق “فرين” أول خازن للمتحف الآسيوي ومؤسّس استعرابنا العلمي، وإنَّ هذا المستشرق هو أول من أعدّ فهرسًا لهذه المخطوطات التي كان من ضمنها “ديوان ابن قزمان”، وحفظت وجوده، إلّا أنّه بقى مغمورًا أكثر من ستّين عامًا، ولما عين “روزن” المستشرق الألماني “عضوًا معاونًا” للأكاديمية الروسية، طبَع ونشر فهرسًا للمخطوطات الموجودة بالمتحف الآسيوي، ووجّه اهتمامًا خاصًّا لديوان ابن قزمان، وطبعه بانفراده باللغة العربية لأوّل مرة. واستعان على شرح المفردات التي كان الكثير منها باللغتين العربية والإسبانية الدّارجتين، واستعان بالمستشرق الشهير “دوزي” الهولندي “الذي كان خبيرًا بالموضوعات الإسبانية أحسن من كل المستشرقين في أوروبا”، إلّا أنّ “دوزي” كما قال كراتشوفسكي “كان يشعر بأنّ أيامه تميل نحو الغروب – وقد مات فعلا بعد عامين ـ وعلى هذا لــم يجرأ على أن يربط نفسه بعمل جديد مجهد، ولم يستجب لتحرُّش “دوزي” إلّا بخطاب يتضمّن بعض ملاحظات طريفة تتعلق بالشاعر “ابن قزمان” وبأشعاره.

نشر ديوان “ابن قزمان” في غرناطة

وحوالي سنة 1880 قام المخطوط برحلة خاصة إلى غرناطة حيث كان يدرسه الأستاذ الجامعي الإسباني “سیمونیت”، وقد قام بتعريف أبناء وطنه بالشاعر القرطبي في مقالة خاصة كتبها، وكثيرًا ما كان يستعين بعناصر من مؤلَّفات “ابن قزمان” في أعماله العلمية عن تاريخ الإسبان المستعربين، إلى أن قام البارون “دافيد غينتسبورغ” تلميذ “دوزي”، وهذا البارون رغم أنّه من رجال الأعمال وكبار الرأسماليين فإنّه كان يهتم بالعربية وبتاريخ الأندلس.. قام بنشر ديوان “ابن قزمان” بماله الخاص.. وهكذا أصبح المخطوط فى متناول كل راغب في دراسته.

ديوان “ابن قزمان”.. من إسبانيا إلى فلسطين

يذكر كراتشوفسكي أنَّ ديوان “ابن قزمان” شقَّ طريقه رويدًا رويدًا من الأندلس إلى الشرق العربي، وهناك في فلسطين وبالضبط في مدينة صفد، قام شخص عربي بعد مائة سنة من ظهور الديوان بنسخ هذه الأزجال، ورغم قيامه بكتابتها بدقّة وعناية إلّا أنّه كان يجهل لهجات الأندلس الشعبية والإسبانية، فلهذا تسرّبت الأخطاء، ثم يقول: “وعلى كل حال فما كنّا لنعرف الشيء الكثير عن ابن قزمان لو لم يخزن هذا المخطوط في المتحف الآسيوي”.

العربية بالحروف اللاتينية

وبعد أن يذكر اهتمام المستشرقين الاسبانيين بالديوان… والمراحل التي اجتازها بعد طبعة قام البارون “دافيد غينتسبورغ”، يذكر اهتمام المستشرق التشيكي “نيكل” المتخصص فى الدراسات الرومانية الذي رأى أنّ الحروف العربية “لا تعبِّر عن صوتيّاته إلّا بصورة رديئة، فاختار طبعه بالحروف اللاتينية وكانت هذه الطبعة هي المرحلة الثانية بعد طبعة غينتسبورغ في خلق أدوات العمل على أزجال ابن قزمان”.

“ابن قزمان” في دائرة البحث والدراسة

وقد استمرت التَّأليفات عن “ابن قزمان” تنمو دون توقُّف حيث أنَّه يوجد فى المجلد التَّكميلي للطبعة العالمية لدائرة المعارف الإسلامية التي صدرت بثلاث لغات، ظهرت المقالة الثانية عن “ابن قزمان”، والمقالة الأولى موجودة فى مجلد أساسي، وكان قد كتبها علّامة ألماني في ذلك الوقت الذي بدأت فيه فقط دراسة “ابن قزمان”، وظهر أنّ مؤلِّف المقالة الثانية هو رائد الاستشراق العلمي في يوغوسلافيا “بيرقترا أفيتش” الذي كانت تتوحّد في استعداده جامعتا: فيينا والجزائر، ولا يقلّ دلالة أن قد ظهر بعد مرور ستّين سنة بعد صدور مقالة “دوزي” الفرنسية الأولى المتعلقة بالمخطوط، بحث تحليلي دقيق عن بعض أشعار “ابن قزمان”، وكان قد كتب هذا البحث باللغة الفرنسية البليغة “أويفوتووليو” المستعرب الفنلندي الموهوب والمتخصص فى الدراسات الرومانية.

المخطوطات.. هل تطرد الأرواح الشرّيرة المُفرِّقة بين والشعوب؟

وختم كراتشوفسكي دراسته القيّمة، بعد ما وصف المخطوط – الأصلي للديوان – بأنّه متواضع بسيط مائل إلى الصفرة، وغلافه رديء من الورق المُقوّى بألوان مختلفة انطفأت من تأثير أشعة الشمس، وهذا الجلد يرجع في أصله إلى الشرق. ثم يقول: “… وفى كل مرّة كنت أمرّ فيها أمام المخطوط، كنت أتوقّف قريبًا منه بشعور خاص يسيطر عليّ بأنّ هذا الكتاب إنّما هو مخطوطنا الفريد المشهور لديوان ابن قزمان، وبدا في أنّ المخطوط يملك قوة جذّابة بالنسبة للعلماء، فإنّ كثيرًا منهم من تطلَّع باهتمام.. بل وسنوات طويلة في هذه الأوراق الصفراء أو في صورها الفوتوغرافية، ومن هؤلاء العلماء: الإنجليز والفرنسيون والروس والهولنديون الإسبانيون والألمان، وكان أحيانًا كل من اليهودي والتشكي يحاولان فك رموز سطوره الملغّزة بإصرار لا يقلّ عن إصرار العربي أو الفنلندي، إنّها لأممية العلم حقًّا يوحِّدها هدف واحد.. وبأيّ إمتاع ترى كلمات العالم الفنلندي الأخيرة في عمله عن ابن قزمان التي أملاها وهو على سرير المرض فى آخر أيام حياته أثناء فترة قصيرة ما بين الحربين اللّتين عذّبتا وطنه الصغير: أيّها العمل السلمي العالمي، ليتك تستطيع أن تستمر وتتّصل بصرف النّظر عن كل ما يهدّدك اليوم بالدّمار.

إنّ للمخطوطات أقدارها، فإنّ قوّتها السِّحرية التي توحّد العلماء الكثيرين فى اندفاع مشترك، تطرد نهائيًّا فى يوم من الأيام أرواح الظلام الشريرة التي ترمي إلى التّفرقة بين الناس والشعوب”.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا