المُستعرب الروسي “أغناتي كراتشوفسكي”.. أربعون عاما مع المخطوطات العربية (الجزء الرابع والأخير)

الجهود الجبّارة التي قام بها “كراتشوفسكي” خدمةً للأدب العربي على امتداد أكثر من أربعين سنة.. لاقت الثّناء العظيم من كبار الأدباء والكُتّاب العرب، لا سيما في فترة الستينيات من القرن الماضي، غير أنّه ظلّ في نظرهم مُستشرقًا روسيًّا مثله مثل باقي المُستشرقين في العالم. و”كراتشوفسكي” ناضل من أجل ألّا يُصنَّف مع المستشرقين، بل أبدع “علم الاستعراب” ليُميّز نفسه كمستعربٍ أفنى حياته في دراسة تاريخ الأدب العربي في القديم والحديث من أجل غايات معرفيّة خالصة، وليس من أجل غايات مشبوهة أو مرتبطة بالاستعمار مثلما فعل المستشرقون الأوروبيون.

تجاوزت خدمات “كراتشوفسكي” للعرب التّعريفَ بآدابهم في العالم، لا سيما في بلده روسيا، إلى نفض الغبار عن كثيرٍ من المخطوطات العربية التي رأت النّور على يديه، مثل ديوان “ابن قزمان”، وديوان “أبي الفرج الوأواء الدمشقي”، وإحيائه للأدب الجغرافي العربي، وبحثه المستفيض “عن القصة التاريخية في الأدب الحديث، وهو بحث نقدي تحليلي عن روايات جورجي زيدان ويعقوب صروف وفرح أنطون وجميل مدور..”، وبحثه التاريخي عن حياة الشيخ “عياد طنطاوي” الذي قضى زمنًا يُدرّس العربية وآدابها في روسيا، وإصداره كتابَ “البديع” لابن المعتزّ باللغة العربية، بالإضافة إلى ترجمته للكثير من كتب الأدب العربي في العصر الحديث مثل ترجمته لكتاب “الأيام” لطه حسين..

كتب عنه الأديب المصري “محمود تيمور” في مجلة “الرسالة”، في 15 أفريل 1953، قائلا: “فإنّ رجلاً قصر حياته على نشر ثقافتنا العربية في العالم الغربي، وأوسع لنا الطريق لنتبوّأ مكانتنا بين آداب الأمم العالمية لجديرٌ بأن يحتلّ في قلوبنا أكبر مكانة”، غير أن عنوان مقالة “تيمور” كان “العلّامة المستشرق كراتشوفسكي”، وكان الأولى أن يكون “العلّامة المُستعرب”، على الأقل تحقيقًا لرغبة “كراتشوفسكي” الذي ميز نفسه مُستعربًا، وابتدع مصطلح الاستعراب.

فيما يلي، نواصل إبحارنا في مقالة الشيخ “المهدي البوعبدلي”، الذي كان عضو المجلس الإسلامي الجزائري، حول المُستعرب الرّوسي “أغناتي كراتشوفسكي”، التي نشرها بمجلة “الأصالة الجزائرية” في شهر جانفي 1973.

الأدب العربي في القرن العشرين

ظهرت لـ “كراتشوفسكي” تآليف أخرى منها “الأدب العربي في القرن العشرين”، قرظته مجلة “الرسالة” المصرية فقالت “هذا عنوان كتاب أخرجه حديثًا المستشرق الروسي الشّهير (يوليفيتش كراتشوفسكي) تناول فيه بالبحث والتّحليل التيّارات الأدبية في العالم العربي ومؤلَّفات الكُتّاب العرب البارزين، وعقد فصلًا خاصًّا للحديث عن الأدباء المصريين الذين امتدّ تأثيرهم إلى العراق وسوريا والأقطار العربية. وختم الكتاب بفصل مطوَّل عن المؤلَّفات التي ظهرت لكُتّاب العرب فى مرحلة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، كما تحدّث في هذا الفصل عن قصائد الشعراء العرب فى الموضوعات الحربية وما نظم منها خاصة في تمجيد بطولة ستالينغراد”.

أربعون عاما مع الأدب العربي القديم والحديث

“كراتشوفسكي” وثيق الصّلة بالشرق العربي من قديم وله صداقات كثيرة بعلماء العربية ورجال الأدب العربي، ثم يذكر رحلته في زمن التعلُّم – التي ذكرناها – وتقول مجلة “الرسالة: “نشر كراتشوفسكي كثيرًا من الآثار العربية النادرة بعد أن قام بتصحيحها واستكمالها، وفي عام 1930 ألّف كتابًا خاصًّا عن الشيخ عياد الطنطاوي الذي سافر من مصر لتدريس اللغة العربية في روسيا، فعاش هناك من عام 1847 حتى عام 1861 (وهو الذي خلفه نوفل جدُّ بائعة أوراق المصحف الكوفي) وتوفي ودفن هناك. وفى العام الماضي أخرج كتابًا طريفًا بعنوان: مع المخطوطات العربية، وقد تحدَّث فيه حديثًا قصصِيًّا خلّابًا عن رحلته إلى بلاد الشرق العربي”.

تضيف “الرسالة”: “فالمستشرق كراتشوفسكي وثيق الصّلة بالأدب العربي القديم والحديث، وقد عاصره عن قرب أكثر من أربعين عامًا، فإذا تحدّث عن (الأدب العربي في القرن العشرين) فلا شك أنّ حديثه حديث العالم الخبير”.

تاريخ الأدب الجغرافي العربي

وقد ظهر كثير من تآليفه في ميدان الاستشراق، وقد اهتمّ بها الكُتّاب فترجموها إلى اللغة العربية ونقدوها. ومن أهمّ هذه التآليف “تاريخ الأدب الجغرافي” الذي ترجمه أو ترجم القسم الأول منه الدكتور “صلاح الدين هاشم السوداني”، وقد طُبعت هذه الترجمة بالقاهرة سنة 1963 ونقدها كثير من الكُتّاب منهم الدكتور “عبد الرحمن بدوي” والدكتورة “عائشة بنت الشاطئ”.

نشر الدكتور “عبد الرحمن بدوي” نقده في مجلة “الكتاب العربي”، بعددها الخامس المؤرَّخ في جمادي الآخرة سنة 1964، فقال: “هذا كتاب ممتاز، أعِدّه من خير ما أخرجت المكتبة العربية من كتب علمية فى تاريخ العلوم عند العرب، وترجمته إلى العربية عمل جليل، خصوصًا والمترجم الدكتور صلاح الدين عثمان هاشم من السودان قد ترجمه عن اللغة الروسية مباشرة، ولم يُترجم إلى لغة أخرى: إنجليزية أو فرنسية حتى يكون في متناول الباحثين، ولم يوجد فى بابه غير کتاب جوزيف رينو (1795 – 1867) المستشرق الفرنسي المعروف الذي بدأ فنشر مع ماك جوكين دي سلان کتاب: تقويم البلدان لأبى الفداء سنة 1840، ثم تُرجم الكتاب إلى الفرنسية… ومنذ دراسة رينو هذه لم يظهر غير مقالات متفرّقات عن الجغرافيين العرب، إلى أن جاء أغناتي كراتشوفسكي من تلاميذ روزي المستشرق الروسي الكبير (1849 – 1908)”.

منتخبات آثار كراتشوفسكي

ثم يذكر الدكتور “عبد الرحمن بدوي” ترجمةَ كراتشوفسكي (التي سبق أن ذكرنا مجملها فى هذه الدراسة)، ويقول: “وقد طُبع كتابه هذا لأول مرة سنة 1957 الجزء الرابع من (منتخبات آثار كراتشوفسكي)، وإنّما طُبع منه قبل ذلك فصولًا متفرّقة أو كاملة أو مبتورة على هيئة مقالات مستقلة، وكان تأليفه له في الفترة بين عامي 1938 و1945، فكأنّ الكتاب لم ير النور بضرورته الرّاهنة فى حياة المؤلف الذي توفي سنة 1951. وقد أشرف على طبعه زوجته يعاونها (آخرون). والتّرجمة التي بين أيدينا هي للقسم الأول من الكتاب (وقد ظهر منذ سنتين أو ثلاث القسم الثاني منه)”.

“عبد الرحمن بدوي” وآثار كراتشوفسكي

ثم يذكر الناقد “عبد الرحمن بدوي”: “إنّ المؤلِّف اتّبع في تأليفه الترتيبَ التاريخي، فبدأ ببداية الجغرافيا الرياضية عند العرب قبل ظهور المصنّفات الجغرافية الأولى. وقفى على ذلك بدراسة بداية الجغرافية عند العرب، ثم الجغرافيين العرب المتأثّرين بكتب الجغرافيا اليونانية (الخوارزمي، الزرقاني، الخازني، نصير الدين الطوسي…)”.

ثم يتناول “بدوي” الجغرافيين اللغويين… ثم يذكر الرحّالة الذين زاروا الأصقاع الشمالية (روسيا وغيرها) مثل “ابن فضلان” الذي كتب عن رحلته بعض المستشرقين الروس والدانيماركيين… ثم يصل إلى المدرسة الكلاسيكية التي يؤلِّفها جغرافيو القرن الرابع الهجري وعلى رأسها: البلخي، الاصطخري، ابن حوقل، المقدسي.. وبها تبدو الخرائط الجغرافية العربية.

ثم يذكر “بدوي” جغرافيِّي القرن الخامس مثل: البيروني، أبي عبيد البكري الأندلسي، ثم جغرافيي القرن السادس مثل: الإدريسي صاحب كتاب (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) الذي كتبه في بلاط ملك صقلية “روجارو”، الذي امتاز بأنّه أوّل کتاب رُسمت فيه خريطة للعالم.

ثم يختم الدكتور “بدوي” دراسته بقوله: “والمؤلِّف في ذكره لكل علَم من هؤلاء يتحدَّث عن أهميّة ما نُشر له ومصادره، وقد يتحدّث عن المخطوطات والدراسات التي كُتبت حول المؤلِّف والكتاب وما تُرجم إلى اللغات الأوروبية”.

“عائشة بنت الشاطئ”.. كتابٌ عن العرب من موسكو

أمَّا الدكتورة “عائشة بنت الشاطئ” فكتبت في جريدة “الأهرام” المصرية بعددها المؤرخ 19 جوان 1964 تحت عنوان “تاريخ الأدب الجغرافي العربي: كتاب من موسكو” ما يلي: “هذا كتابٌ يحمل آثار جهد شاقٍّ صابر وعمل مخلص دائب استغرق ثلث قرن من الزمن، أمضاه المستشرق الروسي كراتشوفسكي في مادته الخصبة من تاريخ الأدب الجغرافي عند جمع العرب من الإيماءات الأولى في قديم ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي إلى قريب من العصر الحديث. ويأخذني العجب، وأنا أتمثّل هذا العالم الكبير، يستقرئ مئات المصادر الأدبية والعلمية، ويراجع دواوين الشعراء وأساطير العرب، ويطالع في القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ويتتبّع قصص الرحلات والأسفار وكُتّاب البلدان ومؤلَّفات العرب في الجغرافيا الوصفية والرياضية والإقليمية، ليستخلص منها جميعًا معالم تاريخنا الجغرافي على امتداد سيره الطويل، وليسجِّل ما على الزمان من خيالاتنا الأسطورية وتصوُّراتنا الأدبية وبحوثنا العلمية وكشوفنا الجغرافية، متتبِّعًا مجرى التيّار على درب الزمن، ليرقب روافده الأصيلة التي انطلقت إلى الخارج تحمل إلى الدنيا ثقافة العرب ومعارفهم الجغرافية، ويميّز في الوقت نفسه ما تلقّى التيّار من روافد خارجية على مرّ العصور والأدهار.

يا لها من رحلة مثيرة في أعماق تاريخنا الجغرافي يرويها لنا شيخ المستشرقين الروس بكل ما حوت من عجائب وغرائب، ويضع بين أيدينا بعد كل مرحلة من مراحلها، حشدًا من المصادر والمراجع التي كشفت له عن معالم الطريق وأضاءت مسالكه، ووجّهت خطوات السّير فيه، فما انتهت الرحلة إلّا وقد اجتمع لنا الفهرس الجامع لمراجع البحث في تاريخ الجغرافيا عند العرب، دليلًا مرشدًا للمتخصّصين في الدراسات العربية والإسلامية، ومؤرّخي الحضارة الإسلامية بوجه عام”.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا