“بوسعدية” يعودُ إلى الجزائر من بوّابة “الأيام نيوز”

“بوسعدية” شخصية من الموروث الشعبي المغاربي، كانت تظهر مرةً أو مرتين في السنة، وتقدّم عروضا راقصة في الشوارع على قرع الطبل، وهي في هيئة بدائية عجيبة، وذلك من أجل التسوّل، وقد اختفى ظهورها في الجزائر منذ ثمانينيات القرن الماضي. يُقال بأن بوسعدية ظهر خلال القرن السادس عشر أو قبله، ولكن المصادر المُوَثّقة التي توصّلت إليها “الأيام نيوز” تفيد بأنه ظهر في قبل القرن الثامن عشر.

بداية الحكاية

يُحكى أن “بوسعدية” كان زعيمًا لقبيلة في إفريقيا الغربية، وهناك من يُرجعُ انتماءَه إلى قبائل هاوسا (النيجر)، أو بامبارا (مالي)، أو بورـ نو (شمال شرق نيجيريا)، أو قبائل أخرى في تشاد والكونغو والسنغال. وكان يعيش حياةً مُستقرّة بين أفراد قبيلته، ومع زوجته “مبروكة” وابنته “سعدية”. وذات صباح، استيقظ “بوسعدية” وتفقّد أهل بيته فلم يجد ابنته، وبعد بحث وتحرّ، أدرك بأن “سعدية” اختطفها صيّادو الرّقيق واقتادوها إلى بلاد من بلدان “المغرب العربي”، فقرّر البحث عنها، وهو مُتنكّر في هيئة بدائية عجيبة ويقرع على الطبل ويقدّم عروضا راقصة على الطريقة الإفريقية، ويرطن بكلمات لا يفهمها أحدٌ، ولكن إذا سمعتها “سعدية” ستُدرك معناها وتكشف عن مكانها، فيقوم بإنقاذها. ولعل الذين قالوا بأن “بوسعدية” هو شخصية من القرن السادس عشر، اعتمدوا على هذه الحكاية، لأنها تشير إلى الزمن الذي نشطت فيه حركة استرقاق الأفارقة وبيعهم في أسواق العبيد في الشمال الإفريقي. ويبدو أن من نسجوا هذه الحكاية غفلوا أن “بوسعدية” ما كان عليه أن يتنكّر وهو يطوف في الشّوارع راقصا وقارعا على الطبل، إذا كان اسمه “يفضح” كل حكايته، فهو “أبو سعدية”، إلاّ إذا كان الاسم مرتبطٌ بأمر آخر.

في وَصفُ بوسعدية

أقدَمُ توصيف لـ “بوسعدية” هو ما نشره الكاتب الفرنسي “أشيل روبرت”، سنة 1900، في كتابه “العربي كما هو: دراسات جزائرية وتونسية”، وقامت “الأيام نيوز” بترجمته، حيث يقول: ” توقّف عن البكاء، ها هو بوسعدية قد جاءك، هذا ما كانت تهدّد به الأمّهات العربيات أطفالهن ليتوقّفوا عن البكاء. فمن هي هذه الشخصية التي تتسبّب في كل هذا الهلع لأطفال الأهالي؟ من هو هذا الزّنجي الذي يُمارس الغناء والرّقص والإيماء والموسيقى، ويجوب كل أرجاء الجزائر، خاصة مدينة قسنطينة، وباقي المدن والقرى والمناطق النائية، ليمارس مهنته الغريبة؟ إنه بوسعدية البعبع والكائن الخرافي الذي يرعب الأطفال.

هيأته شديدة الغرابة، فهو يضع على رأسه قبّعة أو شاشية تتزاحم عليها أشياء كثيرة مثل رأس ثعلب أو ذئب أو وَشَق، وقطَع من المرايا الحلقية الصغيرة، وأصداف وأنياب خنزير بريّ، ويتدلّى منها ذيل حصان أو بغل.

أما ثيابه فهي تتشكّل من قندورة (ثوب فضفاض) وسروال عربي، وسترة (صدرية) غالبا ما تكون حمراء وهي مزيّنة بأزرار نحاسية وأحزمة قديمة وأسلاك من أنواع مختلفة وأجراس.. ويلفّ حول خصره حزاما قديما، يجعل القندورة تبدو وكأنها تنّورة قصيرة. وحتى تبدو هيئة الزنجي شديدة الغرابة أو هزلية أكثر، فإنه يعلّق في حزامه جلودا مجفّفة لأرانب وثعالب.

والآلة الأساسية التي ترافق بوسعدية، هي طبل بدائي مصنوع من الخشب وجلد مزيّن بحلقات خشنة ملوّنة بالحنّاء، وهذا الطبل يُعرف في السودان الغربي باسم جانجا فورنيا”.

لبوسعدية التقطت سنة 1884 e1673940239327

من هو بوسعدية؟

اشتهر “بوسعدية” في بلدان المغرب العربي، تماما مثلما اشتهر في مناطق كثيرة في الجزائر. فكيف يُمكن لشخص واحد أن يظهر في أمكنة متعدّدة عبر بلدان مختلفة وفي وقت متقارب، وهو يمشي ويجرّ خلفه حمارا مُتهالكا يحمل عليه أغراضه وما جادت به أيادي النّاس؟

ورد في سجّل الجزء الثالث من كتاب وقائع المؤتمر الدولي الرابع عشر للمستشرقين، الذي انعقد في الجزائر سنة 1905، أن المهنة الأساسية لـ “الزنوج” القادمين من إفريقيا الغربية، هي تكسير الحجر وأشغال الطرقات، ولكن بعضهم كان يقدّم العروض الراقصة في الشوارع على الطريقة الإفريقية، وجاء في ذلك السّجلّ “هؤلاء الزّنوج يُطلق عليهم اسم بوسعدية، وكانت الأمّهات يذكرن هذا الاسم لترهيب أطفالهنّ حتى يتوقّفوا عن البكاء”. أما المجلة الإفريقية لسنة 1921، التي كانت تُعنى بشؤون المستعمرات الفرنسية في إفريقيا، ويُصدرها مؤرّخون ومستشرقون، فجاء فيها: “بوسعدية هو نوع من الزنوج الراقصين، يمارس الرّقص بمفرده ويتنقّل عبر القرى والمناطق النائية”.

“أخويّة” بوسعدية

ذَهبَ سجلّ المؤتمر الدولي الرابع عشر للمستشرقين إلى التوضيح أكثر بأن “بوسعدية” ليس توصيفا لفئة فحسب، بل هو توصيفٌ لـ “أخويّة” تُمارس تقديم العروض الموسيقية الراقصة في الشوارع، حيث جاء فيه “في المناسبات الدينية الإسلامية، تجوب أخويّة الزنوج الشوارع في كل المدن الجزائرية، وهي تقرع على الطّبول، وتضرب صنجات حديدية، آملين في جمع تبرّعات نقدية وعينيّة”. وفي هذا الاتجاه ذهبت المجلّة الإفريقية في عددها لسنة 1921 بالقول: “في كل عيد إسلامي، ينتظم الزنوج في مجموعات، حيث كل مجموعة تتكوّن من خمسة أو ستّة أشخاص، من أجل الرّقص في الشّوارع، وأمام أبواب المتاجر، وبيوت العائلات الميسورة. ومن الواضح أن هذا الرقص له هدفٌ واحد وهو تجميعُ أكبرَ قدر من المال والمؤونة. ويتبعُ الراقصين والموسيقيين الزنوج حمارٌ يقوده زنجيٌّ عجوزٌ، وذلك من أجل تحميل ما يتمّ جمعه من الكسكسي والطّحين والخبز والطّعام”. فإذا كان “بوسعدية” هو “أخويّة” فمن المُفترض أن يكون لها تنظيم يحكمها ويوزّع الأدوار بين أعضائها، وهذا ما يُفسّر ظهور “بوسعدية” في أمكنة متعدّدة وفي أوقات متزامنة.

e1673939943679

فنٌّ شوارعي من زمن الدّايات

أشرنا إلى أن ظهور “بوسعدية” يعود إلى القرن الثامن عشر، ذلك أن الرّحّالة الألماني “مورتيس فاغنر” أورد في كتابه “رحلات في ولاية الجزائر في سنوات 1836، 1837، و1838” الصادر في المدينة الألمانية لايبتسيغ سنة 1841، ما يتطابق مع ما أوردناه سالفا حول مجموعة “بوسعدية”، ويؤكّد بأن الممارسة “الموسيقية” التي تقوم بها هذه المجموعة تعود إلى أزمنة قديمة، ما يعني أنها تعود إلى القرن الثامن عشر على أقل تقدير. يُحدّثها “مورتيس فاغنر” عن مظاهر الاحتفال بالعيد في الجزائر، قائلا: “يستيقظ الناس في الصّباح على أنغام الموسيقى الصاخبة التي يعزفها السود.. موسيقاهم ذات إيقاع همجي، وتصاحبها حركات الفنّانين السّود وتمثيلهم الصامت واهتزازات أجسادهم، بحيث يبدو كل شيء فيهم يتحرّك، الرأس والفم والأذن والعين والقدم والأصابع، وهذا في الوقت الذي يتهادى فيه الجسم ويؤدّي حركاته على حدة. ومظهر هؤلاء الزنوج غريب، يستعصي على الوصف، ولا يستطيع الإنسان أن ينظر إليهم دون أن يضحك، وتراهم يلتفّون بالأجنبي، طالبين منه ثمنا لهذه التسلية التي قدّموها له، ويضجّون بآلاتهم حوله، ويُصعّرون وجوههم بصورة رهيبة، فيضطر لشراء نفسه وإخراجها من دائرتهم السوداء بعدد من القطع النّحاسية. وهذه الموسيقى الزنجية من العادات القديمة المتّبعة في الأعياد. وكان هؤلاء أنفسهم يوقظون الداي من نومه صبيحة العيد، ويعزفون موسيقاهم في قصر القصبة، مثلما يفعلون ذلك في الأماكن الأخرى”.

قوى خارقة لبُعبعُ الأطفال

ساد اعتقاد شعبي بأن “بوسعدية” يمتلك قوى خارقة، فكان الناس يقصدونه لتطهير أجسادهم من الأمراض وجلب الحظ، وطرد الأرواح الشرّيرة. أما النساء فكُنّ يقصدنه لمساعدة العاقرات على الإنجاب، وتيسير الزواج للفتيات، وتقديم أبنائهن إليه ليشفيهم من بعض الأمراض مثل السّعال الديكي. وقد كان “بوسعدية” البعبع الذي يخيفون به الأطفال، ودارت حوله الأساطير، وفي هذا الشأن، سجّل الكاتب “موريس غرافيي” شهادته من زمن طفولته، قائلا: “كان الأمر مرعبا فعلا لجميع الأطفال المسيحيين والمسلمين، على حدّ السّواء، الذين احتشدوا (حول بوسعدية) وهم يرتدون تنانير قصيرة أو حتى فساتين أمّهاتهم. وكانت جدّتي تقول لي: إذا لم تلتزم الهدوءَ وتكون أكثر حكمة، فإنني سأعطيك إلى بوسعدية ليأخذك معه.. وقيل بأن البوسعيدية كان يأخذ الأطفال الأشقياء، الذين تتخلّص منهم أمّهاتهم، إلى الجبل فيذبحهم ثم يأكلهم”.

إضاءة لن تكون الأخيرة

يحتاج “بوسعدية” إلى إضاءات أخرى لاستجلاء “تاريخه”.. فهناك “أنواعٌ” أخرى منهُ ارتبطت بالمدن الكبيرة في الجزائر، لا تعتمد على الطبل والعروض الراقصة، بل كانت تعتمد على عزف الموسيقى باستعمال آلات وترية في الشوارع والمقاهي. وهذا ما سنحاول إضاءته في موضوعات قادمة.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا