سياحة في بستان “ابن مريم التلمساني” (الجزء الثاني والأخير)

“البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان” كتابٌ أراد به صاحبه أن يجمع سِيَر العلماء والأولياء، لا أن يكون كتابًا في التاريخ والأدب. وإضافة إلى هذا، فهو ينفرد بمعلوماتٍ حول بعض أسماء الأماكن والعادات والتقاليد في “تلمسان”.. ويرى الأستاذ “محمد بوعياد” بأنَّ الكتاب يُعتبر مصدرًا مفيدًا للباحثين “في تاريخ الدولة الزيانية وتاريخ المغرب الأوسط”.

“ابن مريم التلمساني” فقيه ومؤرّخ جزائري من أعلام القرنين: التاسع والعاشر الهجريين. يُقال بأنّ مؤلَّفاته جاوزت 13 كتابًا، وصلنا منها كتابٌ واحد هو “البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان”، ولا تُوجد ترجمة كافية وافيّة عن سيرته ومسيرته وحياته.. نشرت المطبعة “الثعالبيّة” كتاب “البستان” سنة 1908، وجاء في الغلاف “وقف على طبعه واعتنى بمراجعة أصله حضرة الشيخ محمد بن أبي شنب المُدرّس بالمدرسة الثعالبيّة الدولية ومدرسة الآداب العليا بالجزائر”.

قال “ابن مريم” عن كتابه أنَّه “جمع أولياء تلمسان وفقهائها الأحياء منهم والأموات، وجمع من كان بها وحــوزها وعمالتها”. وعن سبب تأليف كتابه، قال: “ثبت أنَّ المرء مع من أحبَّ، فكيف بمن زاد عن مجرّد المحبّة بموالاة أولياء الله تعالى وعلمائه وخدمتهم ظاهرًا وباطنًا، بتسطير أحوالهم ونشر محاسنهم في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم نشرًا يبقى على مرِّ الزمان”. وقد أحصى مدير المكتبة الوطنية في سبعينيات القرن الماضي، الأستاذ “محمد بوعياد”، عدد الذين ترجم لهم “ابن مريم”، فقال: “ترجم ابن مريم في البستان لاثنين وثمانين ومائة عالِمٍ ووليٍّ ولِدوا بتلمسان أو عاشوا بها”.

نشر الأستاذ “محمد بوعياد” مقالة بجريدة “الأصالة” الجزائرية في شهر نوفمبر 1975، حول كتاب “البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان” وقيمته التوثيقيَّة لأعلام الجزائر الذين عاصروا “ابن مريم” أو كانوا قبله بأزمنة قصيرة أو طويلة. وتواصل جريدة “الأيام نيوز” نشر المقالة..

قيمة الكتاب التوثيقية

نعنى بقولنا القيمة التوثيقية للكتاب الفوائد المختلفة التي يستخرجها الباحث أو القارىء من هذا الكتاب.. إنَّ الباحث يستخرج من “البستان”، الذي وُضع كما يدلّ عليه اسمه للتَّرجمة لرجال العلم والصلاح، فوائد عديدة ومتنوعة، وهذا رغم ما ضمَّته أكثر التّراجم من الخرافات والأساطير، وهذه الفوائد يعثر عليها القارىء عرَضًا في ثنايا تراجم الرجال، إذ كان هدف المؤلِّف التحدُّث عن حياة العلماء والأولياء وتدوين كراماتهم ومناقبهم، لا تصنيف كتاب في التاريخ والأدب.

ومن أنواع الفوائد التي يمكن استخراجها من كتاب “ابن مريم”، المعلومات التاريخية ويحصل القارىء عليها – كما قلنا سابقًا – عرَضًا في أثناء حديث المؤلِّف عن شخص أو مكان أو كتاب… ونذكر بعضها فيما يلي على سبيل المثال:

يقول ابن مريم في ترجمته لمحمد بن عبد الجبار بن ميمون بن هارون “توفي سنة خمسين وتسعمائة في عام أخذ النّصارى تلمسان”. وإذا رجعنا إلى كتب التاريخ لاحظنا أنَّ الإسبانيين دخلوا تلمسان يوم الثلاثاء آخر ذي القعدة من سنة 949 هـ – 1543، ورغم أنَّ الفرق قليل في التاريخ إذ أنَّ المؤلِّف قد حدَّد دخول النصارى لتلمسان في سنة 950 هـ بينما وقع الحادث حسب المصادر الإسبانية، قبل شهر من نهاية سنة 949 هـ، فإنّ صاحب “البستان”، يثبت الأخبار المذكورة في الوثائق الأجنبية مصدرنا الفريد لمعرفة أكثر أحداث تلك الفترة الغامضة من تاريخ “بني زيان” ملوك المغرب الأوسط.

تاريخٌ تخالطه بعض الخرافات

وألصق “ابن مريم” أحيانًا، بعض الخرافات بأحداث تاريخية كما فعل بالحادث السابق الخاص باستيلاء الإسبانيين على تلمسان، فقد قال في ترجمة “سيدي سعيد البجائي” الذي التجأ إلى “يبدر”، وهو مكان قريب من عاصمة “بني عبد الواد”، “حين أخذت النصارى تلمسان دمرهم الله، فذهبتُ إليه مع أبي، وأخذنا منه الدعاء”.. وقال لوالدي: “أهل تلمسان كلهم يرجعون لبلدتهم، حتى محمد يرجع إلاّ سعيد ما يرجع، يعني بمحمد السلطان”. وكان الإسبانيون قد تدخّلوا عسكريًّا في الشؤون الداخلية للدولة الزيانية المنهارة، بسبب الخلاف الذي شبَّ إثر ثورة “أبي زيان” الثائر على أخيه السلطان “أبي عبد الله محمد” الذي كان قد خلف أباه “أبا حمو الثالث”. ورغم تحالف الإسبان مع السلطان وتعهُّدهم باحترام الأهالي، فقد عاثت عساكرهم فسادًا بعد دخولهم تلمسان سنة 949 هـ، وقتلوا واسترقّوا كل من سقط بين أيديهم من سكان المدينة، وأعادوا إلى عرش تلمسان حليفهم “أبا عبد الله محمد”، وهذا يفسِّر الكلام السابق “حتى محمد يرجع “.

حقيقة تاريخَّية لا توجد إلاّ عند “ابن مريم”

ووجدنا في ثنايا الكتاب فائدة تاريخية ذات أهمية كبرى لم نجدها إلاّ عند “ابن مريم”، وهي تُلقي ضوءًا جديدًا على حادث مهمٍّ في تاريخ تلمسان وهو الحصار الكبير الذي ضربه السلطان المريني “أبو يعقوب يوسف” على عاصمة بنى زيان من سنة (698 هـ – 1299) إلى سنة (706 هـ – 1307)، وقد أجمع المؤرّخون على القول، إنّ المدينة كانت مطوَّقة تطويقًا كاملاً، وإنَّ التَّضييق بلغ بالمحاصرين أشدّه حتى أنَّ “الطّيف كان لا يخلص إليهم”، حسبما قال “عبد الرحمن بن خلدون”، وها نحن نعثر لأول مرة على مصدر تاريخي يفنِّد هذا الكلام، فيحكي “ابن مريم” عرَضًا عند ترجمته لـ “أحمد بن مرزوق الحفيد” أنَّ هذا العالِم عُذِّب وسُجن لأنّه كان يبعث بانتظام بتموين ورسائل من قرية “العباد” قرب تلمسان حيث كان قاطنًا، إلى أقاربه بالمدينة المحاصرة. (بنو زيان أو بنو عبد الواد تربّعوا على عرش تلمسان من سنة (633 هـ / 1236) إلى منتصف القرن العاشر).

ولا تعود أهميّة هذا الخبر إلى تفنيد كلام المؤرّخين الذين تحدَّثوا بإسهاب عن حصار الملك المريني لتلمسان الذي “أدار الأسوار سياجًا على عمرانها كله، ومن ورائها نطاق الحفير البعيد المهوى”.. فحسب، وإنّما تتعدّاها إلى إيجاد تفسير مُرضٍ لقدرة أهل تلمسان على مواصلة المقاومة، والصمود في وجه العدو رغم انقطاع كل مورد للمؤونة والسلاح، مدة ثماني سنوات؟ فهذا النصّ الصّريح لـ “ابن مريم” يغيّر موقفنا من هذا الحادث التاريخي الهام في تاريخ “بني عبد الواد”، لأنّ كلام “ابن مريم” إن صدّقناه ولا داعي لعدم تصديقه، يدلُّنا على أنَّ تلمسان لم تكن مُطوَّقة تطويقًا كاملاً يمنع “الطيف من الخلوص إليها”، على حدِّ تعبير “عبد الرحمن بن خلدون”، بل كانت المؤونة والرسائل تتسرّب إلى أهلها ممّا يبدِّد حيرة القارىء ودهشته من صمود أهل تلمسان أمام هذا الحصار الطويل.

باب “عين الحوت” في تلمسان

ومن الفوائد التاريخية المتعلِّقة بالعمران، ذِكر أسماء بعض الأمكنة الموجودة بتلمسان وضواحيها من مساجد، ومدارس، وأبواب، وأحياء، ومقابر. ومن أمثلة ذلك ذِكر المؤلّف أسماءَ أبواب عاصمة “بنى زيان”، وهذا عند ترجمته لـ “عبد الله بن منصور أحد أولياء عين الحوت”، و “عين الحوت” هي قرية قريبة من تلمسان، وبعض تلك الأسماء ما زال معروفًا إلى يومنا الحاضر.

قيمةٌ اقتصادية واجتماعية للبستان

ويستخرج الباحث أيضًا من “البستان” فوائد خاصة بالحياة العلميّة والثقافية في المغرب الأوسط في العهد الزياني، إذ ذكَر المؤلِّف أكثر العلماء والأدباء الذين عاشوا في ذلك العهد، وأشار إلى آثارهم الفكرية، وأورد في أغلب الأحيان أسماء شيوخهم وتلاميذهم، والكتب المتداولة في زمنهم. كما كان يروي بين الحين والآخر بعض الأبيات التي قالها المُترجِم لهم أو قيلت فيهم.

وفي الكتاب أيضًا فوائد اقتصادية واجتماعية، منها أنَّ “ابن مريم” ذكَر عرَضًا كعادته عند حديثه عن العلماء والصالحين الذين ترجم لهم، أحداثًا ومعلومات تنير طريق الباحث في تاريخ المملكة الزيانية وفي الحياة الاقتصادية والاجتماعية بها. ومن أمثلة هذه الفوائد الاجتماعية والاقتصادية، ما ذكَره المؤلِّف في عدّة مناسبات عن فترات القحط والوباء التي كانت تمرُّ بالبلد.

والاطّلاع على زمن وقوع الآفات كثيرًا ما يساعد الباحث على تفهُّم سير الأحداث الاجتماعية في تلك الفترات. ومنها أيضًا ما أورده في ترجمة “محمد القلعي” من أخبار العادات التي كانت مُتّبعة بتلمسان، بعضها اندثر وبعضها ما زال موجودًا إلى عهدنا، كعادة شراء الناس لثورٍ معلوف لتَقديده، وما يزال سكّان عدّة جهات من المغرب الكبير، وعلى الخصوص في المدن وفي السهول، يجفّفون لحم البقر إلى يومنا.

وجاء في التّرجمة نفسها أن أحد الأشخاص كان يملك رحى بضاحية من ضواحي المدينة، خارج الأسوار. ونودّ أن ننبّه إلى أنَّ هذه الضاحية ما زالت معروفة بالأرحيَّة الموجودة بها إلى اليوم، ويطلق الأهالي اســـم “الرحِّي” (أي الطواحين) على ناحية من هذه الضاحية، ومثل هذا الخبر قد يُعين الباحث في تاريخ المدينة أو تاريخ اقتصادها..

وهذه الفوائد المتنوِّعة التي يتضمّنها “البستان” تجعل من كتاب “ابن مريم” مصدرًا هامًّا لتاريخ الدولة الزيانية وتاريخ المغرب الأوسط، إذ هو مُتمِّم للكتب التاريخية البحتة التي عَنِيَت فقط بالأحداث السياسية والعسكرية، ولم تأت إلا بالنَّزر اليسير من الأخبار الاقتصادية والاجتماعية، وذلك على عادة المؤرخين القُدامى..

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا