من أوراق المؤرّخ “أبو القاسم سعد الله”.. “ابن العنّابي”.. مُفتي الجزائر ومصر (الجزء الثالث)

نُفي المُفتي وعالِم الدين “ابن العنابي” إلى الإسكندرية، لأسبابٍ سياسّة، فقد رفض الوجود الاستعماري الفرنسي في الجزائر، وكان يُوجّه انتقادات لاذعةٍ إلى الجنرال “كلوزيل” الذي “تولّى مهمّته في الجزائر خلال سبتمبر سنة 1830”.. وقد “قيل أنَّ أسرة: ابن العنابي، ما زالت بالإسكندرية إلى اليوم، وتُعرف بأسرة: الجزائرلي”.

ومثلما كان “ابن العنابي” مفتي الحنفيَّة في الجزائر، فقد تولّى المنصب نفسه في الإسكندرية، حيث كان يوقّع فتاويه بهذه العبارة “مفتي السادة الحنفيّة بثغر الإسكندرية”. وكما “تصدَّر للتَّدريس في بلاده بالجامع الكبير أو الجامع الجديد، فإنَّنا قد عرفنا أنَّه جلس للتَّدريس في الجامع الأزهر، وكانت حلقة درسه موئل العلماء على اختلاف مستوياتهم”.

نواصل إبحارنا مع سيرة “ابن العنّابي” وبعض فتاويه التي جمعها أحد تلاميذه في كتاب بعنوان “الفتح القيُّومي بجواب أسئلة الرُّومي”. ونذكّر أنَّ المؤرّخ الدكتور “أبو القاسم سعد الله” نشر دراستين حول “ابن العنّابي” في مجلة “الأصالة” الجزائرية، خلال سبعينيات القرن الماضي، وقد اختارت جريدة “الأيام نيوز” إعادة نشر الدِّراستين مُدمجتين بتصرُّفٍ في دراسة واحدةٍ وتوزيعها على ثلاثة محاور: سيرة ابن العنّابي، بعض الأسئلة التي أجاب عنها في الفتوى، تقديم كتابه “السّعي المحمود في نظام الجنود”..

نفي “ابن العنابي” إلى الإسكندرية

بعد انقضاء ذلك الأجل (عشرين يومًا)، رحل “ابن العنابي” إلى الإسكندرية. ولا شك أنَّ سفر المفتي كان بحرًا. ورغم أنَّ تاريخ النّفي غير معروف الآن بالضبط، فإنّه بدون شك كان في خريف أو شتاء سنة 1830 – 1831، لأنّ “كلوزيل” قد تولّى مهمّته في الجزائر خلال سبتمبر سنة 1830.

وبنفي “ابن العنابي” من الجزائر، أسدِل الستار على نشاطه فيها. فقد توجَّه بأسرته إلى مصر وأقام بالإسكندرية، وهناك ولاّه والي مصر “محمد علي” وظيفة الفتوى الحنفيّة بهذه المدينة، ولذلك نجد اسمه مقرونًا بعد حادثة النّفي بعبارة “مفتي ثغر الإسكندرية”. والملاحظ أنَّ بعض العائلات الجزائرية الأخرى قد هاجرت، أو نُفيت أيضًا إلى الإسكندرية. من ذلك المفتي “ابن الكبابطي”، والداي “حسين باشا” نفسه، و”مصطفي بو مزراق” باي التيطري السابق، والباي “حسن” باي وهران السابق.. وقد قيل أنَّ أسرة “ابن العنابي” ما زالت بالإسكندرية إلى اليوم، وتُعرف بأسرة “الجزائرلي”.

قليل التأليف.. كثير الفتوى

لم يعرف عن ابن العنابي أنّه كان من المؤلِّفين المكثرين، فأغلب المصادر لا تذكر له سوى “السعي المحمود”، و”ثبته” المذكور، أو إجازته لتلميذه “إبراهيم السقا”. وقد عرفنا أنَّ له إجازة أخرى مشابهة لتلميذه “عبد القادر الرافعي”. وعثرنا له على رسالة في مسألة “التوحيد” كنّا قد أشرنا إليها. والظّاهر أنَّه كان مُقلاًّ في التأليف وكان مُكثرًا في الفتاوى. وقد اشتهر بذلك، حتى أنَّ بعض العلماء الجزائريين، كالمفتي “حميدة العمالي”، كان ينقل فتاويه بنصِّها في “كُنّاشه”. وكان “ابن العنابي” يوقع فتاويه، وهو بالإسكندرية، هكذا “مفتي السادة الحنفية بثغر الإسكندرية”. وقد عرفنا أنَّ الدّايات كانوا يستكتبونه في المسائل السياسية أيضًا، ولا شك أنَّ بعض رسائله في ذلك ما زالت مدفونة في دور الوثائق (الأرشيف). ولعلّ له بعض الأعمال الأخرى التي لم نهتد إليها بعد. وممَّا يُذكر أنّ مؤلِّف (الأعلام) قد عثر له على أنموذج من خطّه، على “ثَبْت الجوهري” في دار الكتب المصرية. ولا ندري ماذا كتب “ابن العنابي” هناك في الإسكندرية، ولا كميّة ما كتبه.

ولكن إذا كان التَّأليف قليلاً عند “ابن العنابي”، فإنَّ تلاميذه كثيرون وقد عرفنا منهم على الأقلّ اثنين: الرافعي والسقا، والأخير هو الذي اختصر كتاب شيخه لـ “محمد علي”، كما سنرى.

وإذا كنّا لا ندري أنَّ “ابن العنابي” قد تصدَّر للتدريس في بلاده (الجزائر) بالجامع الكبير أو الجامع الجديد، فإنَّنا قد عرفنا أنَّه جلس للتَّدريس في الجامع الأزهر، وكانت حلقة درسه موئل العلماء على اختلاف مستوياتهم. وجاء في رسالة الشيخ “المهدي البوعبدلي” أنَّ “ابن العنابي” قد “روى عنه الكثير من أعلام المشرق والمغرب لمَّا كان في الإسكندرية”، ونحن لا نشك في أنَّ تلاميذه بالجزائر قد يفوقون عدًّا تلاميذه في المشرق لطول إقامته بها وارتفاع شأنه فيها.

والي مصر يأمر باختصار كتاب ابن العنّابي

وبإشارة من “محمد علي”، والي مصر، اختصر “ابراهيم السقا”، تلميذ “ابن العنابي”، کتاب “السّعي المحمود”، وسمَّى المختصر هكذا (بلوغ المقصود مختصر السّعي المحمود). ولا شك أنَّ والي مصر “محمد علي” قد فعل ذلك لأهميَّة الكتاب الأصلي.. ولكونه محشوًا بشواهد واستطرادات مملَّة للقارىء العادي الذي يهمّه الرأي والفكرة أكثر ممّا يهمّه التثبّت والتّعليل. وقد وقفت شخصيًّا على نسخة من (بلوغ المقصود) فوجدته يحتوي على 68 صفحة ومكتوبًا بخطّ نسخٍ جيّد.. والنسخة التي وقفنا عليها تحمل تاريخ سنة 1308 هجرية، وهو بلا شك ليس تاريخ اختصار الكتاب، وإنَّما هو تاريخ نسخة أخرى منه. ونعتقد أنَّ “إبراهيم السقا” قد اختصر کتاب شيخه “ابن العنابي” بعد تأليف الأصل بقليل أي بعد سنة 1242 هجرية (1826)، لأنّها هي الفترة التي تليق بموضوع الكتاب..

أمَّا اسم “ابن العنابي” في هذه النسخة فقد ورد على النحو التالي “كشّاف الحقائق، ومنبع الرَّقائق، شيخنا المحفوف باللطف الخفي، محمد بن محمود ابن محمد الجزائري الحنفي”.. والملاحظ أنَّ النسخة التي اطلعنا عليها من ” بلوغ المقصود” تضمُّ تعاليق مطوَّلة في معنى الآيات والأحاديث والكتب والمعاني الواردة في صلب المختصر، ولا تضيف جديدًا للفكرة الأساسية التي انطلق منها المؤلف الأصلي. والملاحظة الأخيرة التي نبديها حول “بلوغ المقصود” أنّه قد جاء في آخره إضافة وصف “الشافعي” أمام اسم “ابن العنابي”. فقد جاء هناك “قال أصله، قال جامعه الفقير إليه سبحانه، محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري الحنفي الشافعي، الشهير ببلده بابن القباني (كذا)، نزيل مصر القاهرة، فرغت من جمعه سنة 1242، رابع عشر رجب هجرية”. (الناسخ سها في كتابة القباني بدل العنّابي).

“ابن العنابي” شخصية مرموقة في عصره

وقد اختلفت الآراء حول شخصية “ابن العنابي”. فقد عرفنا وصف تلاميذه له من كونه شخصًا يُتبرّك به ويُرام الثواب عنده. وجاء في نسخة “السّعي المحمود” أنّه (ابن العنّابي) “شيخنا وأستاذنا العالم الربّاني”، ووصفه تلميذه “السقا” في “بلوغ المقصود” بـ “كشّاف الحقائق، ومنبع الرّقائق والدّقائق، شيخنا المحفوف باللطف الخفي..”، وتوافق هذه الأوصاف المصطبغة بالمشاعر الدينية والصوفية الأوصاف التي أطلقها عليه معاصروه ومُواطنه “حمدان بن عثمان خوجة”، وهو رجل سياسي واقتصادي جزائري. فقد لاحظ “خوجة” على تكليف الباشا للمفتي (إذا صح أنَّه ابن العنابي) بالدعوة إلى الجهاد إبّان الحملة الفرنسية، بأنَّ المفتي كان رجلاً صالحًا وعادلاً ولكنه لم يكن محاربًا. ويتّفق هذا الحكم تقريبًا مع حُكم “ديرينو” الفرنسي المعاصر له أيضًا. وعندما تقرّر نفي “ابن العنابي” من الجزائر، كتب “خوجة”: “كان المفتي سیدي محمد العنابي رجلاً نزيهًا وفاضلاً، كان يكتب دائمًا إلى كلوزيل، يلومه على تصرّفاته التي كانت تبدو له مخالفة لوثيقة الاستسلام”.

وقد عرفنا أنّه كان محلَّ ثقةٍ لبعض دايات الجزائر الذين كلّفوه بسفارة للمغرب، واستكتبوه لباي تونس، كما أصبح محلّ ثقة والي مصر “محمد علي” الذي عيّنه مفتي الحنفيّة بالإسكندرية.

وهكذا يتَّضح أنّ “ابن العنابي” كان شخصية مرموقة بين قومه في عصره. ويمكن تقسيم دوره إلى ديني وسياسي. فالدّور الديني لعبه وهو يباشر وظيفة الإفتاء ويتصدّر للتّدريس ويمنح الإجازات لتلاميذه والمعجبين بعلمه. أمَّا الدور السياسي فيتمثل في صلته بدايات الجزائر، وفى موقفه من الاحتلال الفرنسي لبلاده، وفي إشادته بدولة “آل عثمان”. وسنعرف هذا منه (وتولِّيه وظيفة الإفتاء بمصر باعتباره عالمًا منفيًّا لأسباب سياسية، ويضاف إلى ذلك دوره الفكري، وهو الذي يظهر فيما طرحه في كتابه “السعي المحمود” من آراء في الحضارة الغربية، وضرورة أخذ المسلمين منها ما يرقيهم وينسجم مع شريعتهم.

ثروة علميَّة في انتظار من يجمعها

إضافة إلى كتابه “السعي المحمود في نظام الجنود”، ترك ابن العنابي آثارًا أخرى كثيرة منها الرسائل والفتاوى والإجازات والكتب والأشعار، وهي جميعًا ثروة ضخمة لو جُمعت، أو جُمع منها البعض لعرفنا صورة صادقة عن شخصية ابن العنابي وعصره وثقافة علماء عصره.. ولكن يد البحث ما زالت لم تمتد إلى هذا التراث بالجمع والفحص والتصنيف والنقد. وإلى أن يحين هذا، نكتفي هنا بوقفات قصيرة فيما قد عثرنا عليه من إنتاج، تاركين البقية للباحثين الآخرين.

وأول ما يلفت النَّظر كثرة فتاوي “ابن العنابي”، وقد نقل عنه هذه الفتاوي علماء الجزائر وعلماء تونس وعلماء مصر وغيرهم. ولا غرابة في ذلك فالرجل كان متمكِّنًا من علوم الدين، حافظًا، عميق المعرفة، وله بعض الآراء المنسجمة مع روح العصر، وكان كثير الأسفار، مقرَّبًا من السلطة السياسية، ويبدو أنَّه كان يتمتَّع بجرأة كبيرة أيضًا. ثم إنَّه تولى مناصب دينية عديدة تجعله عرضة لإبداء الرأي في كثير من القضايا التي ترد عليه سواء من رجال الدولة أو من رجال العلم أو من العامة، فقد عرفنا أنَّه تولّى منصب الفتوى والقضاء والتّدريس والأوقاف ونحو ذلك، ولا شك أنَّ له ثروة طائلة من الفتاوي بعضها ضاع وبعضها ما زال موجودًا.

أسئلة من بلاد الرُّوم

وقد اطّلعنا له على مجموعة من هذه الفتاوى، منها أجوبته على ستّة أسئلة وجّهها إليه بعضهم من بلاد الرُّوم، ويغلب على الظنّ أنّه من النَّصارى وهو الذي تشير إليه الوثائق باسم (الرُّومي). وقد وجدنا نسختين من هذه الأجوبة: نسخة مكتوبة بخطٍّ جيّد لكن مليئة بالأخطاء وليس لها عنوان خاص، وهي تقع ضمن مجموع (رقم 194، المكتبة الوطنية – تونس). أمّا النسخة الأخرى فهي مكتوبة بخطٍّ تونسي جيّد، ولعلّه خطّ الشيخ “محمد بيرم الرابع”، وتكاد تخلو من الأخطاء، وليس في النّسختين أيّة إشارة إلى تاريخ نسخها أو كتبها.

غير أنّ في النصّ ما يدلّ على أنّ “ابن العنابي” قد كتب أجوبته قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر، ذلك أنَّه ذكر في جوابه على السؤال الثاني، قوله في نهايته: “وعلى هذا كان العلماء الورعون من حنفيّة بلادنا دار الجهاد والعلم، الجزائر حرسها الله تعالى”، وعبارة دار الجهاد، كانت تستعمل للجزائر في العهد العثماني وليس في العهد الفرنسي.

ولكن تاريخ الإجابة يبقى، مع ذلك، غير مُحدَّد. أمّا مكانها فهو أيضًا غير مذكور، ولكن يغلب على الظن أنّه كتبها خارج الجزائر، بدليل العبارة السابقة، لأنّ “ابن العنابي” لو كان في الجزائر لما قال عبارة “وعلى ذلك، حنفيّة بلادنا”، لأنّها عبارة يستعملها العلماء عادة عندما يكونون خارج بلادهم.

الفتح القيُّومي بجواب أسئلة الرُّومي

وممّا يُلاحظ أنّنا لا نعرف بالضبط من توجّه بهذه الأسئلة إلى “ابن العنابي”، غير أنَّ هناك ما يدلُّ على أنَّ السائل كان شخصًا روميًّا أو من بلاد الروم. فعنوان نسخة الشيخ “محمد بيرم” هو “الفتح القيُّومي بجواب أسئلة الرُّومي”. كذلك ورد في ثلاثة أماكن على الأقل من النص إشارةٌ إلى بلاد الرُّوم. ففي مقدّمة الأسئلة هذه العبارة “وهل إذا مات الميّت وطلع شخص من الجن في صورة ذلك الميّت وغيره، ويجامع زوجته، يجوز حرق ذلك الميّت كما في بعض بلاد الرّوم أولاً..”.

وفى الجواب عن هذا السؤال، أشار “ابن العنابي” إلى هذه البلاد “بلاد الرّوم” بقوله: “على ما ذكَر السّائل وغيره ممّن جال في تلك البلاد”، وقد جاء في نهاية الأجوبة “فلا يبعد أن يكون ما أصاب بعض أهل البلاد الروميّة من واقعة السؤال..”. وهكذا يتّضح أنّ السّائل من بلاد الرّوم، وأنّ هناك بعض الأمور التي كانت تجري في هذه البلاد دون غيرها، فاستحقّت استفتاء “ابن العنابي” عليها.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا