من أوراق المؤرّخ “عبد الرحمن الجيلالي”.. الشيخ “عبد الحليم بن سماية” فارس العلم والدين والمواقف (الجزء الثاني)

رغم ما حصّله الشيخ “عبد الحليم بن سماية” من علوم في الجزائر وتونس، فقد اشتغل أوّل الأمر في مجال التِّجارة “فاكترى دكّانًا لبيع التّبغ في حي باب الواد تجاه جامع علي بتشين”، وقد يبدو غريبًا أنَّ عالِمًا مُتبحِّرًا في علوم الدين بلغ في الورع والتّقوى إلى حدّ تسميته “عالِم الأتقياء وتقيُّ العلماء”، يشتغل في تجارة التّبغ.. غير أنّ هذه المعلومة تكشف لنا عن شيوع تجارة التّبغ في الجزائر آنذاك، كما تكشف عن الوسطيّة الدينية للمُجتمع الجزائري، فلم يكن يعاني من الغلوّ والتّزمّت في الدين ولا في ممارسة الحياة..

ثم توجّه الشيخ “عبد الحليم بن سماية” إلى مجال التّدريس والتّعليم، فحظي بمكانة مرموقة في مجتمعه، لطريقة تدرسيه وغزارة علمه وتمكّنه من علوم كثيرة منها الفلسفة التي كان شغوفًا بها.. ولعلّ هذه الثروة العلميّة والمعرفيّة والثقافيّة هي التي جعلت الشيخ الإمام “محمد عبده” يُعجب به، عندما زار الجزائر سنة 1903، وأقام في بيت الشيخ “عبد الحليم”، وقد استمرّت المراسلات بينهما إلى وفاة الإمام.

نواصل إبحارنا في مقال شيخنا الجليل المؤرّخ “عبد الرحمن الجيلالي”، الذي نشره بمجلة “الأصالة” الجزائرية” في مارس 1973، وأضاء فيه “جوانب من كفاح الشيخ عبد الحليم بن سماية السياسي والثقافي”..

من جامع بالرقيسة إلى علم الإسطرلاب

ازدان بيت الشيخ “علي بن سمایة” بمولوده عبد الحليم سنة (1283 هـ ـ 1866)، فاعتنى والده بتربيته تربيةً أساسها الدين والأخلاق، وحينما أنس منه الاقتدار على مزاولة تعلّم القراءة والكتابة أخذه إلى كُتَّاب بحي القصبة يُعرف بجامع بالرقيسة – أو ابن رقيصة – وكان شيخ الكتّاب وإمام الجامع إذّاك هو الشيخ المبارك الميمون “حسن بوشاشية”، وعليه تخرَّج “عبد الحليم” في حفظ القرآن الكريم، كما تخرّج على يده أغلب علماء الجزائر وحملة القرآن بها يومئذ.

وفي الوقت نفسه، كان والده يعمل على تلقينه مبادئ العلوم وتوجيهه، فنشأ ابنه “عبد الحليم” على حبّ الفضائل والتّناغي بالعلم والعمل، وكان يصحبه معه إلى مجلس درسه بالجامع، فأخذ الغلامُ العربيةَ والفقه والتّوحيد عن والده، ولازم مشائخ وقته وعلماء بلده مثل: الشيخ علي بن الحاج موسى، الشيخ محمد القزادري، الشيخ علي ابن الحفاف، الشيخ ابن ظاهر الوتري المدني، الشيخ قدور باصوم، الشيخ طاهر قيطوس، وحضر دروس الشيخ محمد سعيد ابن زكري.. فأخذ عن هؤلاء فنونًا من العلم في اللغة وآدابها وعلوم الشريعة وفنونها، كما أنَّه تلقّى الحساب والفرائض عن صهره الشيخ علي بن حمودة، وعلم الرّبع المجيب في الفلك والتوقيت ومواقف العضد كلاهما عن شيخنا أبي القاسم الحفناوي صاحب كتاب “تعريف الخلف برجال السلف”، وأخذ علم الإسطرلاب عن الأستاذ عارف بك.

الرحلة إلى تونس لدراسة الفلسفة

وتشوّق الشيخ إلى معرفة علم الحكمة والفلسفة على طريقة قدماء الفلاسفة من مشّائين وإشراقيّين، ولا سيما فيما يتّصل من بحوثهم في الإلهيات، فتعلَّقت همَّته بدرس الفلسفة اليونانية، وانصرف ذهنه إلى طلب ما يسمّونه بـ “المقولات العشر” المنسوبة إلى أرسطو الذي حصر مباحثه في هذه المطالب العشرة، على خلاف ما مشى عليه المتكِّلمون من عدّها ثلاثة فحسب، والباقي عندهم أمر اعتباري فقط كما هو مقرّر في مضّانه من كتب الحكمة والفلسفة القديمة، فتعاطى “عبد الحليم” لمطالعة كتب هذا الفن، ودفعه حماسه العلمي إلى البحث عن أستاذ ماهر يلقّنه هذا العلم، فأشير عليه بالاتصال بعالم جليل هو صديق حميم لوالده منذ أيام الطلب، ذلك هو الشيخ “محمد بن عيسى الجزائري” وهو يومئذ بتونس مهاجرًا. فشدَّ إليه رحله ونزل عليه ضيفًا مُحبّبًا مكرَّمًا وتلميذًا مدلّلًا، لا سيما وقد جمعت بينهما المناسب، فأكرمه الأستاذ “ابن عيسى” وأنزله من نفسه منزل الابن. فلازم “عبد الحليم” منزله مكبًّا على الدّرس والتّحصيل ولم يغادر المكان متفسّحًا أو متجوّلًا في رحاب المدينة حتى يتعرَّف إلى معالمها الشامخة وآثارها الرفيعة وأسواقها الغنية الثرية أو يسمح على الأقل بنظرة إلى جمالها الفتّان، كل ذلك لم يحرك منه ساكنًا، حتى انتهى من إتقان فنّه المطلوب والمرغوب فيه، فعاد إلى وطنه دون أن يعرف عن تونس شيئا!

سلوا عنها من رآها!

ولمَّا حلَّ بالجزائر، سأله أصدقاؤه ورفاقه أن يصف لهم تونس؟ فقال لهم: سلوا عنها من رآها! وهذا نهاية الحبّ والشّغف والتّفاني في التعلق بالمبدأ، بل هي التضحية نفسها بكل حلو ولذيذ وبكل متعة في سبيل العلم. وكان ممَّن أخذ عنهم من كبار العلماء أيضّا علّامة القطرين الشيخ “محمد المكي بن عزوز” حينما كان هذا الأستاذ يتردّد على الجزائر بحكم أنّه جزائري الأصل وله فيها رحم وخؤولة، فكثيرًا ما كان يرحل من تونس إلى الجزائر ليزور خاله الشيخ “أبا القاسم الحفناوي”، ويتّصل ببني عمه وقرابته في برج بسكرة وبوسعادة، فكان “عبد الحليم” ينتهز هذه الفرص ليجتمع بــه فيستفيد منه، فهؤلاء هم أساتذة شيخنا الذين استقى منهم معلوماته وكلُّهم كان إمامًا وحجّة في فنّه، فما بالك بمن يتخرّج عن مثل هؤلاء؟

احتراف التجارة قبل وظيفة التَّدريس

وما بلغ السنة الحادية والعشرين من عمره حتى كان قد بنى بكريمة من كرائم الأسر الجزائرية العريقة وهي كريمة السيد “محمد بن مصطفى غياطو” قاضي المالكيّة بالعاصمة، واسمها “عائشة”، فأنجبت له ولدين: سعد الدين ومصطفى، وثلاث بنات.

واحترف الشيخ مهنة التجارة، فاكترى دكّانًا لبيع التّبغ في حي “باب الواد” تجاه جامع “علي بتشين”، فكان يَعول أهله ويرتزق منه ومن ثمن كراء منزلٍ له كان يدرّ عليه أربعين فرنكًا مشاهرة. ولم يلتفت للوظيفة حتى دُعي إليها، فتولّى خطّة التدريس بالمدرسة الرسمية، وذلك في يوم 4 ديسمبر 1896 وعمره يومئذ لا يتجاوز ثلاثين سنة، فكان فيها أوّل من أقرأ كتاب “دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة” للجرجاني، و”الاقتصاد في الاعتقاد” للغزالي، و”تلخيص المفتاح” لجلال الدين القزويني، و”البصائر النصيرية فى المنطق” لابن سهلان، و”المفصّل في النّحو” للزمخشري، وغيرها من الكتب المعتبرة عند أهل الخبرة والعلم ، فكان بذلك رحمه الله أول من أدخل نظام إصلاح التعليم العالي بالجزائر، كما أنّه كان أول من اهتمّ بتدريس “رسالة التوحيد” للإمام “محمد عبده”، وختمها في ظرف سبعة أشهر .

أيّام مع الإمام “محمد عبده” في الجزائر

ولمّا زار “محمد عبده” الجزائر صيف سنة (1903 – جمادي الأولى 1321هجرية) كان شيخنا أول من أسرع إلى اقتباله وملازمته ليلاً ونهارًا فلم يفارقه طيلة أيام إقامته بالعاصمة حتى غادرها الإمام إلى تونس، ومدحه بقصيدة بعثها إليه في “القاهرة”، نشر بعضها في مجلة “المنار” المصرية في عددها الصادر يوم 1 ذي القعدة 1321 هـ الموافق 3 فيفري 1904، وقدّم صاحب المجلة الأستاذ “محمد رشيد رضا” بقوله: قصيدة عالِم جزائري، بل أشهر علماء الجزائر، مدح بها الأستاذ الإمام، وأرسلها إليه في القاهرة من عهد قريب. فسرَّنا منه أنّها آية من آيات صلة علماء الإسلام بعضهم بعض فى الأقطار المتباعدة، وشعور أهل المغرب العربي منهم بما يشعر به أهل المشرق من قدر الأستاذ الإمام، وإنّنا نقتطف منها هذه الأبيات، وأودّ منها عشرين بيتًا وهي تفوق في عددها الخمسين، واليك أيّها القارئ مقطوعة منها. قال يخاطب الأستاذ الإمام:

فأنت لنا شمس تنير على المدى — أتى نورها من غير أن نتطلّعا

أدير بذكراك الذي منك قد مضى — فاشرب كأسًا بالصفاء مشعشعا

يذكر فيك المجد والعلم والتُّقى — فانظر من علياك عرشًا مرقّعا

وتلوي إلى تلك المجالس فكرتي — فتترك قلبي بالخيال مُمتَّعا

محافل كان العلم فيها مُجالسي — أسامر بدرًا بالجلال تقنَّعا

فاسمع فصلاً من حكيم وحكمة — إذا ما بدت خرَّت ذُرى الزّور رُكّعا

فما بال أقوام هدى الله عقلهم — يُمارون فيه والسّحاب تقشَّعا

وأثنى صاحب “المنار” على صاحب القصيدة في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام، حينما ساق الحديث عن زيارة الإمام للجزائر فقال: وقد نال مراده، فاجتمع بخِيار العلماء والعقلاء الذين يقدِّرون الإصلاح قدرَه، ومن خِيارهم في الجزائر الشيخ محمد بن الخوجة صاحب المصنّفات، والأستاذ الشيخ عبد الحليم بن سماية.. وقد رأى هذان الفاضلان وغيرهما مغتبطين بالمنار ولا سيما دروس العقائد التي ينشرها تحت عنوان “أمالي دينية”.. وقالوا له إننا نعدّه مدد الحياة لنا، فإذا انقطع انقطعت الحياة عنا. وهذه صورة شمسية التقطت هنا بالجزائر للشّيخين عبد الحليم ومحمد عبده وهما جالسان على أريكة واحدة جنبًا إلى جنب، ممَّا يدلُّ على كامل الصفاء والود وتأكيد العلاقة الأخويّة بينهما، وخلفهما أقرباء الشيخ ابن سماية وولد الحاج مصطفى الأكحل. (لم نجد الصورة في الكتاب المذكور، ولا في مجلة المنار).

رسالة الإمام “محمد عبده” إلى شيخنا “ابن سماية”

ولمَّا غادر الشيخ “محمد عبده” الجزائر وحلَّ بـ “صقلية”، نزل “بلرم”، ومنها خاطب الشيخ “عبد الحليم بن سماية” برسالة مؤرَّخة في 30 جمادي الأخيرة سنة 1321 هجرية، وبها نعلم مقدار منزلة الشيخ العلميّة كما يراها الأستاذ الإمام الشيخ “محمد عبده”، جاء فيها: حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الحليم بن سماية.. لا يزال يؤنسني مثالٌ من علمك وفضلك، ويعجبني رفيق رقيق من كمالك ونبلك، وما كان ذلك ليفارقني بعد أن صار بضعة منّي، ولو كشفت لك من نفسك ما كُشف لي منها، لعلمت مقدار ما أتاك الله من نعمة العقل والأدب، ولعرفتَ أنَّك ستكون إمام قومك تهديهم إن شاء الله سبلَ الرَّشاد وتبصِّرهم بما يوفِّر عليهم الحظَّين: حظّ المعاش وحظّ المعاد، هذا هو أملي الذي أسأل الله تحقيقه، فخُذ من الوسائل ما يبلغك بفضل الله غايةَ ما يرمي إليه استعدادك”.

إضاءات على الهامش..

أورد الشيخ “عبد الرحمان الجيلالي” على هامش مقاله إضاءة حول الشيخ “محمد بن عيسى”، فقال: هو من أكابر بلغاء الكتاب، وعلماء اللغة ومشاهير المترسِّلين، ولد بالجزائر سنة (1243 هـ – 1828). وكان فيمن أخذ عنهم العلم بها العلامة الشيخ “حميدة العمالي”، هاجر إلى تونس سنة 1272 هجرية، وهناك انقطع للعلم معلِّمًا ومتعلِّمًا. وتولَّى رئاسة الكتابة العامة بالوزارة الكبرى سنة 1276 هـجرية، وترقّى إلى خطّة الإنشاء سنة 1302 هـجرية. وعُرض عليه منصب رتبة حاكم مجلس الجنايات فأبى وامتنع مُؤثِرًا خدمة العلم والأدب. كان ذا أخلاق كريمة مع عفّة ونزاهة وزهد، وله تآليف لطيفة ظريفة، منها الرسالة الموسومة بـ “الثريّا لمن كان بعجائب القرآن حفيّا”، مطبوعة بتونس 1307 هـجرية، وأخرى أسماها “الماس في احتباك يُعجِز الجِنّة والناس” وهي مطبوعة أيضًا بتونس سنة 1306 هـجرية، وقصيدته “الوسيلة في مدح أهل الفضيلة” طُبعت بتونس سنة 1306 هـجرية، وكانت وفاته بالمهجر سنة 1310 هجرية.

كما أورد الشيخ “الجيلالي” ملاحظةً حول زيارة الإمام “محمد عبده” إلى الجزائر، فقال: رأيت بعض من كتَب عن زيارة الأستاذ الإمام إلى الجزائر وعن الدرس الذي ألقاه بها، فى تفسير سورة: والعصر، فقال عن الدرس أنّه ألقِيَ في “الجامع الجديد”، والصَّواب أنَّ الدَّرس كان في “جامع الحاج مصطفى الأكحل” – الحر – الكائن والقائم إلى اليوم بحي “الحامة” – بيلكور – بالقرب من ضريح الولي الشيخ “سيدي محمد بن عبد الرحمن الأزهري”.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا