هنا بدأت الحكاية.. بسكرة السكّرة

حين تدلِّلُكَ “بِسْكَرَة” وتعلي مقامك وترفع قدرك، فإنها حتما ستكرم وفادتك بعرجون تمر، لم ولن يكون أبدا مثل بقية عراجين النخيل، فهي “دقلة نور”، أو كنز الواحات وسيدة التمور، والتي لم يكن لها شأن قَبْل ظهورها بــ”بسكرة”، إلا بالوصف الوضيع الذي صورتها عليه قواميس اللغة وألسنة العرب؛ فهو الدَّقَل وواحدَتُه دَقَلَةٌ، وفي الحديث الشريف؛ “هَذًّا كهذِّ الشِّعْرِ وَنَثرا كنثْرِ الدَّقَلِ”.. وهُوَ رَدِيء التمرِ ويابِسُهُ وَمَا ليس له اسمٌ خاص به، فَيُرى لِيُبْسِهِ ورداءَتِهِ لَا يَجْتَمِعُ رصًّا والتصاقا فيكون منثورا. تقول العرب؛ أَدْقَلَ النَّخلُ أي كان مِيقَارا، وهو نخل كثير الحملِ، وجمعهُ مَوَاقيرٌ.. من تَمْرِهُ الأحمر والأسودُ، وَجِرْمُ تمره – لَحْمُهُ – صَغِيرٌ وَنَوَاهُ ڪَبِيرٌ.. حتى قال الشاعر هاجيا؛

لو كُنْتُمُ تَمْراً لكنتم دَقَلا………

………أَو كنتُمُ ماءً لكنتم وَشَلا

إلى أن نزلت بأرض بسكرة، فصارت من أجود أنواع التمر على وجه البسيطة، إن لم تَصِر أفضلها على وجه الإطلاق – لولا عجوة المدينة تأدبا مع سيد الخلق الذي أثنى عليها ليس إلا -، ذلك أنّ “أصابع الضوء” كما يصفها بعضهم، ليست “دَقَلَةً” فاتنة المظهر والمذاق فحسب، وإنما هي قصص أسطورية وحكايات خرافية، تتلقفها الآذان بلهفة كلما استمعت إلى سردها المتداول بين أهل الأرض وسادة المكان.

تقول الأسطورة بأنّ اسم “دقلة” هو نفسه “دجلة” – بنْطَقَ الجيم على اللهجة المصرية -، وهو دجلة العراق منبت النخل والواحات، حيث أنّ رجلا في غابر الأزمان كان قد خرج من “بسكرة” ببلاد الجزائر – المغرب الأوسط – قاصدا بغداد طلبا للعلم، فلما بلغها كان منظر الواحات الوارفة أول ما شدّ بصره؛ لم يُطِل الإقامة في مدينة “المنصور” حتى تعلّق قلبه بنخيل بلاد الرافدين، وهام في تمرها حبا وهياما.. تقلّب في معاهدها ردحا من الزمان غير يسير، لثما للعلم واقتفاء لأثر العلماء، فلما فكّر في العودة إلى دياره، قرّر أخذ فسيلة نخل معه ليغرسها في واحته.. وفي رحلة العودة مرّ في طريقه بأرض الشام، فعرّج على دمشق طلبا للراحة والاستجمام، فحدث أن تيمته إحداهن وهو الذي ظلّ يردّد؛ من لم يتزوج شامية، فقد مات أعزب.. فعقد العزم على الزواج منها، والعودة بها وبالفسيلة إلى بلاد الزاب. فما كاد يبلغ الديار، حتى مرضت الزوجة وقد أرهقها السفر..

ومع أول فجر من عودته، لم يمهله القدر أكثر ليفجعه بأخذ زوجته، فانهار كمدا وبكى حرقة وجزع هلعا والناس يواسونه، ولسان حاله يردّد؛ جئتكم بفسيلة من دجلة العراق وبنور من دمشق الشام، فإذا دفنتم جثمان “نور” فأجعلوا دجلة على دمنتها.. وصار مع كل فجر يزور قبرها ويحضن تربتها ويبكي.. فكان كلما انهمرت دموعه ارتوت النبتة وأينعت.. وهكذا، إلى أن صارت الفسيلة نخلة، فأثمرت وأتمرت ولم يرى الناس أجمل ولا أطيب من تمرها قط.. فتعجبوا وانبهروا، وأطلقوا على التمر؛ “دجلة نور”.. ثم تسابقوا بعد ذلك في زرع فسائلها وإنماء جنسها، فكثر صنفها وتمدّد غرسها وغزر ثمرها.. إلى يوم الناس هذا.

وفي مقامة أخرى، أنّ “نورًا” فتاة بسكرية المنشأ والجمال، عشقت فعفت فكتمت فماتت، فنبتت على قبرها نواة دَقَلٍ، كانت قد ارتوت من روحها اليافعة الطاهرة العصماء، فصارت فسيلة فنخلة، فثمار تَمْرٍ لم يرى الناس مثلها أبدا، فقد بدت تمرات عراجينها المتدلية باكيةً، ودَمْعُ عَسَلٍ يقطر من وجناتها، كمدا وحزنا على روح “نور” العفيفة الراحلة، كأغرب ما رأت عين قط، وقد زادها جمالا وجلالا ذوقها الرائع الرفيع.. فكانت؛ “دقلة نور الباكية”.. ومع الأيام سقط الحزن والبكاء لفرحة الناس بمذاقها، ولم يتبق سوى؛ “دقلة نور” الزاهية.

من واحات طولقة والغروس.. ومن جنان برج بن عزوز وليشانة.. ومن رياض شتمة وفوغالة.. يسافر “الدَّقَلُ النوراني” ويرتحل، ليبلغ سحره سقف العالم شرقه وغربه، فيأسر قلوب الورى لذة وطيبة ومذاقا. ذلك أنذ “بسكرة النخيل” وحينما تلقي بجود خيراتها، فإنها مثل باسقات النخل رفعة وهمة وشأنا؛ تمنح مع كل تمرة دقل شيئا من قلبها حُبًّا وكرامة وإيثارا.. فإن كان لسائر البلدان حظّ من المروءة والندى، فإنّ “بِسْكَرَة” هي الحظّ وهي المروءة وهي النّدى.. وهي عين العزّ الغامر ومنبع الشرف العامر، حيث تُسْتَقَى المكارم وتُجْتبَى المناقب وتُعْتَصَرُ الفضائل شرابا زكيا.

هي بِسْكَرَة أرض “البداية والنهاية”، حيث ترجّل التاريخ يوما وتجلى ونزع نعليه وتمشى، توقيرا وتقديرا لهذا الأديم الذي شهد منبت الإنسان منذ ألوف السنين، فهنا “عين الناقة” وحفرياتها، وهنا “شتمة” وتنقيباتها، وهنا “القنطرة” وآثارها.. تتبعثر الشواهد وتنتصب الدلائل، فيتذكر الحاضر الشامخ عراقة الرّسم وقِدَم المكان.

إلى هنا، انتهى الرحيل يوما بسيدي “خالد بن سنان” نبي الله الذي خذله قومه من بني عبس، واستقر به المقام، إلى أن لقي ربه ثابتا موقنا غير مبدّل ولا مغيّر، على المحجة البيضاء، وقد شقّ لــ”بسكرة” من كريم بركاته وفيض سرائره ما جعل منها سيدة المدائن وتاج المواطن، تضرب إليها أكباد الإبل من كل فج بعيد، بحثا عن الهدى والغنى والمنى والعيش الرغيد، فتجبى إليها موائد الله تترى، من كل وادٍ سحيق.. وثلاثمائة من شهداء الفتح صحابة وأتباعا، ما وجدوا في غير ثرى “بسكرة” مرقدا ومستراحا، فكان أن قادهم سيدي “عقبة بن نافع الفهري” وخاض بهم آخر المعارك المقدّسة بأسا وشجاعة وإقداما، وصدى صوت “أبي المهاجر دينار” لا يزال يتردّد في الآفاق صادحا بالحق حجة وبالقرآن دليلا؛ “..ألا فإنّ هذه سبيل الله، وإنا على نهج الله، وأنا أغتنم الشهادة في سبيل الله..”.. استل سيفه وكسر غمده ومضى يشقّ صفوف العدى، إلى أن سقط تحت سنابك عاديات الله مقبل غير مدبّر.

كل هذا المجد الغامر وهذه البطولة العارمة، وبسكرة مسرحا لها، وقد أتى على ذكرها “ياقوت الحموي” في كتابه معجم البلدان، بقوله؛ بسكرة – بكسر الكاف والرّاء – بلدة بالمغرب من نواحي أرض الزّاب، بينها وبين قلعة بني حماد مرحلتان، فيها نخل وشجر وقسب جيد، وبينها وبين مدينة طبنة – قرب بريكة الحالية – مرحلة. ثم يصفها ثانية فيقول؛ بسكرة – بفتح أوله وكافه – مدينة مسوّرة ذات أسواق وحمّامات، وأهلها علماء على مذهب أهل المدينة، وبها جبل ملح يقطع منه كالصخر الجليل، وتعرف ببسكرة النخيل.

وقد قال فيها الفقيه القدوة “أحمد بن محمد المرّوذي” صاحب الإمام أحمد؛ من أتى بسكرة النخيل، فقد اغتذى في زيه الجميل. فإن عجزت بسكرة عن عدّ أصناف نخيلها، وتفصيل ألوان تمورها، فإنها في الوقت ذاته قد عجزت عن عدّ علمائها ورجال فكرها وشعرائها وأدبائها.. الذين يضيق المدى عن ذكر جمعهم الشريف، وإن كانت الإشارة إلى بعض الأقطاب مكرمة لا يؤتاها إلا ذو حظ وأدب؛ من سيدي “إبراهيم الأخضري الطولقي” منذ ما يقرب من ستة قرون خلت، إلى  سيدي سعادة الرحماني، فسيدي شمس الدين الطولقي.. إلى ساداتنا أهل الحل والعقد والنهج والطريقة؛ الشاذلي الطولقي القسنطيني، ومحمد بن عزوز البرجي، وعبد الرحمن بن القرون الليشاني، وسيدي زرزور القيرواني البسكري صاحب النظم الحكيم؛

تهتك الستر عن ذوي البغي والفند…..

……وحصحص الحق بعد الغي واللدد

وأيقن المشرك الداعي له ولدا………..

……………..بأنه الله لم يولد ولم يلد

لا موت يدركه لا شيء يشبهه…………

…………يبلي الآباد ولا يبلى على الأبد

ويح ابن آدم من عاص يخالفه………

…………ومن مصر على الآثام معتقد

وفي الخلود نعيم غير منصرم…………

……………..باق بقدرته، باق بلا أمد

إلى سيدي أبي عبد الملك الملشوني وابنه إسحاق.. إلى يوسف بن جبارة البسكري النيسابوري.. إلى أحمد بن قمود البسكري.. إلى الحسين بن يحيى البسكري المغربي.. إلى محمد بن الأزرق المقري البسكري.. إلى عبد الله البسكري المدني، القائل نظما وسحرا؛

دار الحبيب أحق أن تهواها……….

………..وتحن من طرب إلى ذكراها

وعلى الجفون متى همت بزورة…….

……..يا ابن الكرام عليك أن تغشاها

فلأنت أنت إذا حللت بطيبة………

……….وظللت ترتع في ظلال رباها

إلى محمد بن عمر بن عنقة البسكري.. إلى شمس الدين أبو جعفر البسكري.. إلى عبد الله بن إبراهيم البسكري.. إلى محمد بن أحمد البسكري المدني.. إلى أحمد اللياني البسكري.. إلى أحمد بن محمد البسكري المدني.. إلى أحمد البسكري الهندي.. إلى الحسين البسكري الفاسي.. إلى ناصر بن مزني البسكري المصري.. إلى أحمد الأخضري البسكري.. إلى أبي الفضل البسكري.. إلى عيسى بن سلامة البسكري.. إلى عبد الرحمن الأخضري البنطيوسي البسكري.. إلى شيخ الأزهر محمد الأخضر بن الحسين الطولقي..

إلى بقية أخرى من شرفاء الزاب الأكبر الذين صنعوا مجدا عظيما لهذه الأمة ثم رحلوا وغاروا في صمت مهيب.. من دون أن نغفل ذكر محمد العيد آل خليفة الشاعر العتيد، وأحمد رضا حوحو الكاتب العنيد، وشعباني المجاهد الشهيد.. إلى الزاهد المعتكف “عثمان لوصيف” محراب الأفكار ومهبط وحي الأشعار.. إلى نخبة من مثقفي الجيل الجديد.. تتهادى بسكرة وتفاخر الدّنَا علما وفكرا وأدبا وأشعارا، فلكأنها تزرع مع كل فسيل نخلٍ عالما جليلا.. فطوبى لعاصمة الزيبان بعلمائها، وطوبى لأهل العلم ببسكرة النخيل و”دقلة نورها”.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا