المشروع الغربي لكل العصور.. هدْمُ اللغة العربية وتشْوِيه الإسلام (الجزء الأول)

هل اللغة العربية هي “أم اللغات” والأصل الذي تولّدتْ منه كل لغة عرفها البشر؟ سؤالٌ شغلَ أنصار العربية وأعداءها على السوّاء، وسعى كل طرف إلى البحث عن الأدلّة والبراهين التي تؤكّد أو تنفي الجواب. غير أنَّ طرفًا ثالثًا سعى، منذ قرون، إلى هدم العربية حتى لا تكون ضمن اللغات المَعنية بذلك السؤال، ومن “مناهج” الهدْم أنَّهم أوجدوا صراعًا بين العامية والفُصحى لإعلاء شأن الأولى و”تحقير” شأن الثانية. وأشاعوا المقولات الهدّامة التي تزعم بأنّ العربيةَ لغةٌ صعبةٌ ولا يُمكنها أن تكون لغة العلوم، وعملوا على “تشويه” القرآن الكريم بإنجاز ترجمات مُشبَعةٍ بالتَّحريف والتزييف، وذلك في إطار مشروع “متكامل” لهدْم اللغة وتغريب الإنسان العربي عنها، وتغريب القرآن عن المُسلمين.

أنصارُ “أمّ اللغات” بلا نصير

مجهودات أنصار اللغة العربية في البرهان على أنها “أمّ اللغات” كانت وما زالت مجهودات ضعيفة وخجولة وتنطلق من مبادرات فردية في أغلبها، أو أعمال جماعية يَعُوزها الدّعم والتمويل، وترتكز على خصائص العربية ومُميّزاتها ومقارنتها بغيرها من اللغات، وتستعين بأعمال الغربيين في اكتشافاتهم الأثرية وبحوثهم اللغوية لتصوغ برهانها، مثلما فعل الدكتور “مصطفى محمود”، في كتابه “عالم الأسرار”، حيث استند إلى دراسة لباحثة في “علم اللغويات” خلاصته أن “اللغة العربية كانت الأصل والمنبع، وأن جميع اللغات كانت قنوات وروافد منها”، وقد توصّلت الباحثة إلى نتيجتها من مقارنة تعداد الجذور اللغوية للعربية، التي تُقدّر بحوالي ستّة عشر جذرًا، مع الجذور في لغات أخرى. وهناك دراسات مُعاصرة في هذا الاتجاه ترتكِّز على “أصوات الحرف” التي تنبئُ بعمر اللغة وإمكانية موتها، وقيل بأنَّ كل لغات العالم تحمل دلائل موتها في أصوات حروفها إلاّ اللغة العربية فلا اعوجاج فيها وهي خالية من أيّ دليل على احتمال موتها.

أيُّ علاقة للقارئ بلغته؟

أمَّا أعداء اللغة العربية فهم كثيرون وتتنوّع مشاربهم ومقاصدهم، ومنهم الأجانب الذين يتغذّى عداؤهم من خلفيات تاريخية أو مشاعر الكراهية لكل ما هو عربي، ومنهم العرب الذين ربطوا بين اللغة العربية وتردّي الواقع العلمي والمعرفي وحتى الحياتي، أو الذين انساقوا وراء دعوات غربية لهدم العربية ثم إعادة بنائها لتُوائم عصر التكنولوجيا الذي يتطلب الاقتصاد في الوقت والجهد ولغة الكلام والكتابة أيضا. ومن المُجدي أن يتساءل القارئُ عن علاقته باللغة العربية، ومدى احترامه لأبسط قواعدها في الكتابة على شبكات التواصل الاجتماعي مثلا؟

الثالوث الهدّام.. التنصير والاستشراق والاستعمار

أشرنا إلى طرف ثالث يسعى منذ قرون إلى هدم اللغة العربية ونعني به الثالوث الهدّام: التّنصير الغربي، والمُستشرقين، والاستعمار. وفي هذا الأمر لا تختلف بلادٌ عربية عن أخرى، وكما نشطت حركة “هدم اللغة” في الجزائر على امتداد زمن الاستعمار الفرنسي، فقد نشطت أيضًا في بلدان عربية أخرى، لا سيما في مصر، باعتبارها أكبر بلد عربي من حيث تعداد سكّانها والمركز العربي الأكبر لحركة الصحافة والتأليف والنشر والصناعة السينمائية. وقد ربط هذا الطرف الثالث بين اللغة العربية والقرآن الكريم، فسعى إلى “تشويه القرآن” فيما تجلَّى أنه كان مشروعًا غربيا متكاملا لكل القوى الاستعمارية والغربية عموما. وفي هذا السياق نذكر مقولة “اللورد كرومر” في كتابه “مصر الحديثة”: “لن يفلح الشرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطى به القرآن”، وقال أيضا: “إن القرآن هو المسؤول عن تأخّر مصر في مضمار الحضارة الحديثة”، وهذه المقولة قريبةٌ من مقولة “لاكوست” في الجزائر: “وماذا أفعل إذا كان القرآن أقوى من فرنسا”.

لاكوست: القرآن أقوى من فرنسا

مناسبة تلك المقولة أن فرنسا أقامت احتفالا كبيرا، سنة 1930، تُشهد فيه العالم على “جنازة الإسلام” في الجزائر وتَحوُّل شعبها من انتمائه العربي الإسلامي إلى الانتماء الفرنسي، بعد مرور مائة عام من الاحتلال. وكانت فرنسا قد أسْندتْ إلى “لاكوست” مهمّة تغريب عشر فتيات جزائريات وتربيتهن وتعليمهن في المدارس الفرنسية واجتثاثهن من جذورهن وأصالتهن. ولم يُقصّر “لاكوست” في مهمته على مدى 11 عاما، ويوم الاحتفال كان الحاضرون، من ممثلي بعض الدول والإعلاميين والشخصيات العالمية، ينتظرون معرفةَ ومشاهدة الدليل على “جنازة الإسلام” وفَرْنَسَة الجزائر، فدخلت الفتياتُ الجزائرياتُ إلى الحفل وهنّ بالزيّ الإسلامي المتوافق مع الأصالة الجزائرية، فبُهِت الحاضرون وتوجّهوا إلى “لاكوست” بسؤال مفاده: “أين نتيجة تغريب الفتيات لسنوات، وماذا فعلت فرنسا خلال مائة عام في الجزائر؟”، فكان ردّه: “وماذا أفعل إذا كان القرآن أقوى من فرنسا”.

بداياتُ مُحاولة “تشويه” القرآن الكريم

لسنا في حاجة إلى التّدليل بأنَّ القرآن الكريم هو منتهى البلاغة والبيان والجمالية في العربية، وقد وُلدت كل العلوم اللغوية لخدمته أوّلاً ولم يكن لها وُجودٌ قبله، والمشاريع التنصيرية الاستشراقية الاستعمارية لـ “تشويه” القرآن، كانت تُدرك هذه الحقيقة، لذلك كان من بين توجّهاتها أن تهدم اللغة العربية انطلاقا من القرآن الكريم. غير أنه كان لها مقاصد وأهداف أخرى من حملات التشويه اختلفت من عصر إلى آخر. وأُولَى بدايات “التشويه” كانت مع ترجمة للقرآن ظهرت في إسبانيا سنة 1130 بأمر وتوجيه من رئيس رهبان دير “كلوني بطرس” وذلك للإعلان عن التوبة “وتكفيرًا حربيًا عن الغضب الإلهي الذي تمثل في انتشار الإسلام وتوسعه”، وأيضا من أجل تحقيق هدفين “أولهما: تصحيح نصرانية المستعربين بالأندلس وتهذيبها من الفساد الذي اكتسبته من جرّاء التقائها بالإسلام – حسب زعمهم. وثانيهما: معرفة هذا الدين لتيْسير إمكان مواجهته ونفْيه، وإقامة سد منيع بينه وبين إفساد النصرانية من جديد”، وفق ما رأى الباحث “محمد حمادي الفقير التمسماني” في دراسته حول “تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قِبل المستشرقين”.

ترجماتٌ ألمانيةٌ للقرآن الكريم

تتابعت ترجمات المُستشرقين لمعاني القرآن الكريم عبر القرون، بشكل مباشر من اللغة العربية إلى لغة أخرى، أو عبر وسيطٍ لغوي مثل الاستعانة ببعض المترجمين العرب. ومن أهم المدارس الاستشراقية التي عَنِيَت بالقرآن والدراسات القرآنية، المدرسة الاستشراقية الألمانية، فقد نشر الراهب “سولومون شفايغر”، سنة 1616، ترجمة في ثلاث مجلّدات تحت عنوان “القرآن المُحمّدي”. وفي عام 1770 نشر “فريدرش ماغر لاين” ترجمةً بعنوان “الإنجيل التركي”، وفي السنة نفسها نشر “فريدريش ألبرهاد” ترجمة بعنوان “قانون المُسلمين”. ويُمثّل كتاب “تاريخ القرآن” للمُستشرق “تيودور نولدكه” الانطلاقةَ الأوروبية لدراسة القرآن الكريم، وقد كان الكتابُ أطروحةً لنيل شهادة الدكتوراه حول “تركيب سُوَر القرآن الكريم”، نشره صاحبه سنة 1860 ونال به جائزة أكاديمية الآداب في باريس. وقد تميزت كل تلك الترجمات بالضعف والتحريف والتزييف وغياب الفهم الصحيح لألفاظ اللغة العربية، بالإضافة إلى سيطرة بعض الاعتقادات الشعبية على المُستشرقين مثل أن “الإسلامُ فرقةٌ مسيحيةٌ منشقةٌ”.

“جاك بيرك”… الترجمة الحَرْفيَّة

أخطرُ ترجمات القرآن الكريم هي تلك التي ارتبطت بالقوى الاستعمارية الإنجليزية والفرنسية، فقد كانت جزءًا من مشروع تشويه القرآن وهدم اللغة، وقام بها مُستشرقون بريطانيون وفرنسيون على الخصوص. وأخطر ما في تلك الترجمات أنها لم تكتف بالتحريف والتزييف بل صاحبتها حملاتٌ تدعو إلى ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللهجات العاميَّة، بالإضافة إلى الترجمة الحَرْفية للكلمات كما فعل المُستشرق الفرنسي “جاك بيرك” (1910 – 1995) الذي ألّف كتابه “القرآن، محاولة ترجمة” وكتاب “إعادة قراءة القرآن”، بالإضافة إلى كُتُب أخرى حول الإسلام. وقد اتصفت ترجمة “بيرك” بنقل آيات وإغفال أخرى، وتحريف المعاني والدلالات، والترجمة الحرفية للكثير من الكلمات ومثال ذلك ترجمته لكلمة “الأميّ”، التي وردت في الآية 157 من سورة “الأعراف”، بمعناها الفرنسي الذي يقابل معنى الأمّ أو الوالدة. ونُشير إلى أنَّ هيئة إسلامية في دولة عربية مشرقية أجازت ترجمة “بيرك” وسمحتْ بتداولها رغم الانتقادات التي وُجّهت إلى تلك الترجمة.

الصهيونية وراء مشاريع الهدم والتّشويه

لم يكتف المُستشرقون بمشاريع توشيه القرآن الكريم بل عَمدوا إلى تشويه السنة النَّبوية ومصادر التشريع الإسلامي، ومن أهم ما أنجزوه، في هذا الاتجاه، نذكر “دائرة المعارف الإسلامية التي تمّ إشباعها بكتابات تطعن في الأحاديث النبوية وفي بعض الصحابة أيضا. ومن المُجدي الإشارة إلى أن الصهيونية رافقت الاستشراق منذ بداياته، وخاصة فيما يتعلّق بترجمات معاني القرآن الكريم والطعن في السنة النبوية والصحابة، وذلك من خلال الادعاءات والافتراءات حول الإسلام والتشكيك في أصوله، وتركيز الجهود على “محاولة إثبات أن الرسول الكريم لم يأت بشيء جديد، بل سرق كل شيء من اليهود والنصارى”، وهذا ما نَذَر المستشرقون اليهود أنفسهم لعمله، من أمثال: “غولتسيهر”، “باول كراوس”، “غرونباوم”، “برناد لويس”، “يوسف فان إس”، الذين اشتهروا بحقدهم العميق وعدائهم الشديد للإسلام واللغة العربية.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا