حين تتلاشى الحدود بين الواقعية والخيال العلمي.. هل تنبّأ مخرج فيلم “الحرب الأهلية” بعصر الزومبي الأمريكي؟

يبدو مشهد مثول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أمام محكمة مانهاتن الجنائية بنيويورك، الاثنين الماضي، في قضية تزوير مستندات، أقرب ما يكون إلى أحداث فيلم “الحرب الأهلية” للمخرج أليكس غارلاند.

هذا التشبيه استخدمه المحلّل السياسي روس دوثات في مقالة بصحيفة نيويورك تايمز، بعدما بدأت محاكمة ترامب بتهم تتعلّق بدفع أموال لممثلة أفلام إباحية “ستورمي دانيالز” لشراء سكوتها وعدم الإفصاح عن علاقته بها، في قضية قد تؤثّر على مسعاه للفوز بالرئاسة والعودة مرة أخرى إلى البيت الأبيض.

ويصوّر الفيلم – الذي يعدّ الأكبر من نوعه في الوقت الحالي الذي يُعرض في دور السينما بالولايات المتحدة – نسخة من أمريكا المعاصرة وهي تمزّقها الحرب الأهلية، حيث تخوض قوى انفصالية مختلفة حربا ضدّ رئيس مستبدّ ظلّ في سدة الحكم 3 ولايات رئاسية.

وأحرز الفيلم الذي يعرض منذ أيام ما يزيد على 25 مليون دولار في عطلة نهاية الأسبوع الأولى بعد بدء عرضه، ليحتل المرتبة الأولى، متجاوزًا فيلم “غودزيلا × كونغ: الإمبراطورية الجديدة” (Godzilla X Kong: The New Empire).

وتجاوزت مبيعات تذاكر فيلم “الحرب الأهلية” توقّعات بعض المحللين في شباك التذاكر قبل الإصدار بنسبة 30% تقريبًا، وحقّقت عروض “آي ماكس”(IMAX) ما يقرب من 50% من إجمالي إيرادات “الحرب الأهلية”.

ويقول دوثات – وهو كاتب عمود في الصحيفة الأمريكية – إنه من الواضح أنّ شخصية ذلك الرئيس تشبه ترامب، إلا أنّ الفيلم لا يخوض في أمور السياسة إلا “لماما”؛ بل يركّز جلّ اهتمامه على تصوير مشاهد متراكبة من الوحشية تتنقل بين المقابر الجماعية، وتعذيب السجناء، ومعارك بالأسلحة النارية، وإعدامات تعسفية بعد محاكمات مقتضبة، وتتخلّلها مناظر مألوفة لمراكز التسوّق ومغاسل السيارات وأعمدة البيت الأبيض.

ويرى عشاق فيلم “الحرب الأهلية” في تناوله الخفيف للسياسة أمرا مثيرا للإعجاب، إذ يحرّره ذلك من الاستغراق في الأفكار الأيديولوجية الراهنة، ويتيح للمشاهد فهم الرسالة المناهضة للحرب جيدا.

أما الأشخاص الذين لا يحبون الفيلم – إذ يعترف كاتب المقال بأنه واحد منهم – فيعتقدون أنه يقدّم تفسيرا ناقصا ينطوي على التهرّب من المسؤولية، وهو ما يجعل الحرب الأهلية وكأنها كارثة طبيعية أو نهاية العالم على يد “الموتى الأحياء” الذين اصطُلح على تسميتهم في أفلام الرعب بـ”الزومبي”، في حين أنها تمثّل في الواقع امتدادا للسياسة بوسائل مخيفة لكنها تبدو منطقية. ويرى المحلّل السياسي في مقاله أنّ هذا المنطق الرافض يصبح أضعف كلما بدا الطريق إلى حرب أهلية ثانية في الولايات المتحدة واضحا.

ولأنّ كثيرا من الناس هذه الأيام يؤمنون بذلك المنطق، فقد حدّد الكاتب قائمة قصيرة من الأسباب التي تجعلهم مخطئين. ومن بين تلك الأسباب أنّ الانقسامات الأيديولوجية الأمريكية لا تتبع ذلك النوع من الخطوط الجغرافية أو الإقليمية التي تصلح للحركات الانفصالية أو الصراع المسلّح.

أقل استقطابا

لقد أصبحت التحالفات السياسية الأمريكية – برأي الكاتب – أقلّ استقطابا على أساس عنصري وعرقي في الآونة الأخيرة، وليس أكثر من ذلك. كما أنّ الولايات المتحدة – وفق المقال – تتقدّم في السن وتزداد ثراء عاما بعد عام، وكلاهما عامل تثبيط قوي يقف حائلا أمام تحوّل التباينات السياسية إلى خلافات ذات طابع عسكري. وفوق ذلك، فإنّ الحرب الأهلية تتطلب أعدادا كبيرة من أناس متلهفين لخوض غمار حرب تعم القارة بأسرها من ذلك النوع الذي يصوّره الفيلم، حسبما ورد في مقال نيويورك تايمز.

تسبّب النجاح الكبير للفيلم الأمريكي “الحرب الأهلية” (Civil War) في حالة من الخوف والتشاؤم لدى نقاد وصناع السينما ونسبة كبيرة من المشاهدين، وذلك بسبب تناوله لحرب أهلية مستقبلية بين الأمريكيين، ومحاولات بعض الولايات الانفصال عن الاتحاد الأمريكي، وبينها تكساس وكاليفورنيا وفلوريدا.

وبين انتقاد للموضوع نفسه، وخوف من مصير يلوح في الأفق بسبب أجواء الاستقطاب السائدة منذ أحداث الكابيتول هيل واقتحام الكونغرس نهاية الفترة الرئاسية لدونالد ترامب، وانتخابات رئاسية يعيد طرفاها الكرة، لم يلتزم النقاد والجمهور بمشاهدة فيلم عادي ومناقشته، وإنما لجأ أغلبهم إما إلى الإنكار واعتبار الأحداث تدور في أي مكان في العالم، أو إلى عدم تصديق القصة من الأصل واعتبارها خيالية تماما.

ويعود الكاتب للحديث عن ترامب متسائلا ماذا لو حصل على ولاية رئاسية ثانية باعتبارها الشرارة التي قد تشعل حربا أهلية، ضاربا مثالا باقتحام أنصاره في السادس من جانفي 2021 مبنى الكابيتول هيل في محاولة لمنع الكونغرس من التصديق على فوز الرئيس الحالي جو بايدن في الانتخابات.

وتحدث عن الاحتجاج والعنف الذي حدث في صيف عام 2020، والمدن المشتعلة، والغاز المسيل للدموع خارج البيت الأبيض، وتساءل: “ألم يُظهر الأمريكيون شهية للصراع الداخلي إذن؟”.

وفي معرض إجابته عن تلك الأسئلة، يقول دوثات إنّ كل ما يتطلبه إغراق الولايات المتحدة في صراع مسلّح، هو انقسام البلاد إلى معسكرات متحاربة وليس مجرّد كتل مستقطبة من الناخبين. وأضاف بأنّ الدرس المستفاد من عام 2020 يكمن في حدوث نوع من التصدع والتمزق، والبحث عن بعض القوى الخارجية أو الداخلية التي تتمتع بنفوذ عالمي، كشرط مسبق لازم لنشوب حرب أهلية.

عطلة نهاية أسبوع مرعبة

وتدور أحداث “الحرب الأهلية” حول حرب أمريكية ثانية في الداخل الأمريكي، حيث تشهد البلاد انقساما، يؤدي إلى نشأة عدة فصائل، مثل الولايات الموالية والقوات الغربية وتحالف فلوريدا. وبينما تشنّ القوات الغربية هجومها على واشنطن العاصمة، يصمّم اثنان من المراسلين الصحفيين على شق طريقهما إلى العاصمة وإجراء مقابلة مع الرئيس قبل الرابع من جويلية.

وبعد وقوع تفجير انتحاري في مدينة نيويورك، يلتقط المراسلان (جويل ولي) رفيقي سفرهما: المراسل الأكبر سناً سامي، والمصورة الصحفية الشابة الطامحة جيسي التي تعشق عملها، ويخوض الأربعة رحلة وسط الدمار والرصاص والخراب لاستعراض ما فعلته الحرب بالبلاد.

اختار موزعو الفيلم توقيتا ساخنا ومناسبا تماما لعرض “الحرب الأهلية” إذ يتنقل المشاهد الأمريكي بين قنوات تلفزيونية تعرض مؤتمرات للمرشح الرئاسي والرئيس السابق ترامب، وأخرى تعرض لتصريحات الرئيس الحالي جو بايدن، وسط نسبب تأييد متقاربة أحيانا، واتهامات جنائية للطرفين، وتطرف مؤيديهم، فبدا الفيلم كما لو كان استكشافا للمستقبل في ظل الاستقطاب الحاد بين الطرفين.

وأكد ديفيد أ. غروس، الباحث السينمائي لجريدة “نيويورك تايمز” أنّ أحداث الأفلام التي تتعرض لأحداث مأساوية “تدور في عالم مستقبلي يبدو – على الشاشة – مختلفا تمامًا عن الحياة المعاصرة، ويستخدم صناعه الكثير من المؤثرات الخاصة والخيال العلمي لسرد قصصهم، لكن الفيلم يفعل العكس: يبدو الأمر كما هو الحال الآن”. ويضيف غروس أن هذا الخيار في سرد القصص “يحول هذا النوع من الأفلام إلى شيء معاصر وقابل للتطبيق. القصة ليست حزبية بشكل مباشر، لكنها تستفز المشاعر الحزبية، والجمهور متفاعل عاطفياً، وهذا أمر مثير للإعجاب”.

أمريكا أم لا؟

الناقد ايريك كين، أكد في مقال بمجلة “فوربس” على كابوسية الحالة بالنسبة له كمواطن أمريكي قائلا “هناك شيء مؤلم في العمل، ذلك أنه يقترب من منزلي، على الرغم من أنني لا أعتقد أننا على هذه الهاوية بعد. والشيء المخيف هو أننا قد لا نرى ذلك قادمًا. أن أمتنا سوف تسقط مثل قطع الدومينو، وسيكون قد فات الأوان”.

ويتراجع كين مرة أخرى، ليتبرأ من أحداث الفيلم قائلا “يمكن أن تكون هذه منطقة البلقان أو رواندا في التسعينيات. يمكن أن يكون في أي مكان. عندما وصل الصحفيون – الذين يقودون سيارة دفع رباعي تحمل كلمة “صحافة” (PRESS) مطبوعة بأحرف كبيرة وجريئة من جميع الجوانب – إلى محطة وقود، تفاوضوا للحصول على الوقود من خلال عرض الدولارات الكندية.. لقد انهار الدولار الأمريكي. 300 دولار ستشتري لك سندوتشا، لكنها لا تملأ خزان النفط في السيارة. الرجال الذين يتفاوضون معهم جميعهم مسلحون. تتجول “جيسي” في الجزء الخلفي من المحطة حيث يُعلق رجلان من معصميهما ويتعرضان للضرب”.

ويتابع كين “وفي مكان آخر، يواجهون قناصة يشاركون في تبادل لإطلاق النار مع شخص ما في مبنى مجاور. يسأل جويل على من يطلقون النار. يجيب أحد الجنود: لا أعرف. إنهم يردون بإطلاق النار لأنهم يتعرضون لإطلاق النار. نحن لا نعرف أبدًا من هو مطلق النار، أو الجانب الذي يقاتل من أجله هؤلاء الرجال.

وبعد أن يعبر روب ستيوارت، ناقد موقع” 411 مانيا” عن سعادته بخروج الفيلم عن إطار توقعاته، وبالتالي شعوره بالدهشة و”هو شيء جيد” يعود ليشير إلى المتاهة التي سقط فيها بعد مشاهدة العمل، إذ يقول “عندما رأيت لأول مرة الإعلانات التي تعلن أن القوات الغربية هي الجبهة الموحدة لحكومتي تكساس وكاليفورنيا، بدت الفرضية برمتها غير قابلة للتصديق لدرجة يصعب معها الخوض فيها. ثم سمعت أن الفيلم محايد سياسيًا، وتبددت آمالي في أن يكون الفيلم ذا صلة بالموضوع. في المناخ السياسي الحالي حيث كل شيء لاذع للغاية، لماذا تصنع فيلمًا عن حرب أهلية ثم تجعله غير سياسي؟ ما هي الفائدة، إذا لم يكن لديك شيء لتقوله؟”.

ويعود ستيوارت من المتاهة السياسية إلى الصناعة السينمائية للمخرج البريطاني الذي قدّم فيلما أو ضوءا أحمر ليحذّر الأمريكيين مما هو قادم، ويقول “النقطة المهمة هي العمل على الشخصيات الممتازة وإعداد زمن الحرب الذي لا يتعلق بالحرب نفسها، بل بما تفعله بالناس. إن إعداد الأمور كما فعل أليكس غارلاند سيكون كارثيًا إذا كان من المتوقع أن نهتم بالحرب الأهلية الفعلية. لكن كل ذلك مجرد خلفية لهذه الشخصيات المثيرة للاهتمام والجذابة للغاية وصناعة غارلاند السينمائية ذات المستوى البارع”.

حميد سعدون

حميد سعدون

اقرأ أيضا