شخصية علميّة موسوعيّة في عصر الخرافات.. عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري (الجزء الأول)

عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري من أعلام الجزائر في القرن الثامن عشر، ويُعتبر من رُوّاد أدب الرحلة من خلال كتابه “لسان المقال، في النبأ عن الحسب والنسب والآل”. اعتبره الدكتور “لوسيان ليكليرك” بأنَّه “آخر ممثِّل للطبّ العربي”، ذلك أنَّ له مُؤلَّفات في مختلف العلوم لا سيما الطب والصَّيدلة.

قبل أن يُصدر المؤرخ الدكتور “أبو القاسم سعد الله” تحقيقه لكتاب “لسان المقال”، ألقى محاضرة حول مخطوطة هذا الكتاب في المؤتمر الأول لتاريخ المغرب العربي وحضارته الذي انعقد بتونس بين 24 – 29 ديسمبر 1974، ثم نشر المُحاضرة في مجلة “المجمع العلمي العربي” في شهر أفريل 1975، ثم أعاد نشرها في مجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر نوفمبر 1976. وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر نص المحاضرة، ليتعرّق القارئ على هذه الشخصية الموسوعيّة والعلميّة في “عصر سادت فيه الشعوذة وضعف استخدام العقل” كما قال الدكتور “غبريال كولان”.

مخطوط “لسان المقال”..

من المخطوطات النّادرة عن الجزائر خلال القرن الثاني عشر الهجري والثامن عشر الميلادي رحلة “ابن حمادوش” الجزائري المسمّاة “لسان المقال، في النبأ عن الحسب والنسب والآل”. وقد رأيت من المناسب أن أقدِّم عنها وعن مؤلِّفها خلاصة لهذا المؤتمر الذي خُصّص لتاريخ المغرب العربي وحضارته. وأقول “خلاصة”، لأنَّني في الواقع قد أنجزت دراسة مطوّلة عن حياة “ابن حمادوش” ورحلته وأعماله الأخرى..

اكتشاف كتاب “كشف الرموز”

والظّاهر أنّ أول من اكتشف “ابن حمادوش” هو الدكتور “لوسيان ليكليرك” الذي ترجم له كتابه “كشف الرموز” إلى الفرنسية. (طُبع كتاب “كشف الرموز” في باريس سنة 1874، وهو غير كامل. وبعد اكتشاف الرحلة، يظهر القسم الرابع من كتاب “الجوهر المكنون في بحر القانون” الذي ألّفه ابن حمادوش. والمُراد بالقانون هو كتاب القانون لابن سينا. وقد طُبع “كشف الرموز” ناقصًا بالعربية أيضًا عدّة طبعات على يد “رودسي قدور”، أوّلها بالجزائر سنة 1903. وقد أشرف على هذه الطبعة السيد عبد الرزاق الأشرف).

كتاب “تعديل المزاج”

كما أشار في نهاية التَّرجمة إلى كتاب آخر لابن حمادوش وهو “تعديل المزاج”، ولكن الدكتور “ليكليرك” لم يطّلع على رحلة ابن حمادوش التي نحن بصدد التّعريف بها، ولذلك كان حديثه عن حياة المؤلف مختصرًا مبنيًّا على الظن لا على اليقين. (تعديل المزاج: هو كُتيّب في كرّاسة أو نحوها، وصفه الدكتور ليكليرك وصفًا قصيرًا في آخر ترجمته لكتاب “كشف الرموز”. والظاهر أنّ ابن حمادوش قد ألّفه وهو في مدينة “رشيد” بمصر، لأنَّ الكتاب يحمل هذه الإشارة: وكان ذلك سنة 1161 هجرية الموافق 1748 ميلادية).

مشاهير مسلمي مدينة الجزائر

وفي سنة 1886 ذكر المؤلف الإسباني “قونزاليز” في كتابه “مشاهير مسلمي مدينة الجزائر” حوالي ثلاثة أسطر عن “ابن حمادوش”، ضمَّنها تاريخ ميلاده الصحيح؛ وهو تاريخ لم يهتد إليه “ليكليرك” ولم يرد إلاَّ في “لسان المقال”، ممَّا جعلنا نرجح أن “قونزاليز” قد اطلّع على الرحلة. (كتاب “مشاهير مسلمي مدينة الجزائر” هو عبارة عن رسالة صغيرة فيها النصّ العربي مع ترجمته بالفرنسية. وقد قدّمه له بالعربية مفتي الحنفية بالجزائر عندئذ الشيخ أحمد بوقندورة).

“ابن حمادوش”.. سيرة حياة مجهولة

أمّا الدكتور “غبريال كولان” فقد اعتمد في كتابه على “ليكليرك”، ولم يأت بجديد عن حياة المؤلِّف. وعندما أصدر “أبو القاسم الحفناوي” كتابه “تعريف الخلف برجال السلف”، أورد كلام “قونزاليز” عن حياة ابن حمادوش دون ذكر اسمه، مشيرًا إليه فقط باسم “مؤلف أوروباوي”. وهكذا يتَّضح أن حياة “ابن حمادوش” ظلَّت مجهولة، لأنّ جزءًا كبيرًا من ترجمته الشخصية يوجد في رحلته التي لم يطّلع عليها – حسبما نعتقد – سوى السيد قونزاليز. أمَّا المتأخّرون فقد اعتمدوا على هذا، مثل السيد “نور الدين عبد القادر”، أو نقلوا عن الرحلة مباشرة دون ترجمة لمؤلِّفها مثل السيد “محمد داود (“.

ولِد عبد الرزاق بن محمد بن حمادوش سنة (1107 هجرية الموافق 1695 ميلادية) في مدينة الجزائر على الأرجح، ومن ثمة نسبته إليها “الجزائري”. وكانت أسرته من طبقة الحرفيّين التي كانت تمارس التجارة ولا تهتم بالسياسة والرياسة إلاّ قليلاً. وكانت حرفة أسرته هي الدّباغة حسبما فهمنا من رحلته، لأنَّه ذكر والده وعمّه في بعض العقود موصوفين بكلمة “الدبَّاغ”. وعند زواجه الأول، صاهر “ابن حمادوش” عمَّه الذي زوَّجه ابنته البكر وأسكنه في داره. أمّا في زواجه الثاني، فقد تزوج ثيِّبًا هي ابنة أمين الصفَّارين (النحَّاسين). وكان لابن حمادوش ولدان على الأقل من زوجه الثانية، مات أحدهما صغيرًا. ولا ندري ما إذا كان له أطفال من زواجه الأول. ولم يكن ابن حمادوش سعيدًا مع زوجه الثانية ولا أسرته الباقية كأمّه وأخته، لانشغاله بالكتب والعلم من جهة ولفقره من جهة أخرى. ولا ندري إلى الآن متى ولا أين توفي ابن حمادوش! لكن بعض المراجع تشير ظنيًّا إلى أنه قد تجاوز التّسعين سنة.

أحداثٌ عاصرها ابن حمادوش..

عاصر ابن حمادوش أحداثًا وتطوُّرات سياسية واجتماعية وثقافية، فقد دوَّن في رحلته أنَّه عاصر عهد الباشوات الذين استبدّوا بالحكم في الجزائر عن السلطان العثماني، وكان ما يزال طفلًا عندما استعاد الجزائريون مدينة وهران من يد الإسبان، ولكنه كان واعيًا لاحتلال إسبانيا لها من جديد.

وذكر في رحلته بعض الثورات الداخلية.. وتحدَّث عن توقيع الصُّلح بين الجزائر والدنمارك، كما سجَّل فيها حادثة فرار ابن أحمد الريفي المغربي ومحمد باي التونسي إلى الجزائر في وقت واحد، واجتماعهما مع داي الجزائر عندئذ، إبراهيم باشا. أمَّا في المغرب فقد شاهد عيانًا ثورة أحمد الريفي، حاكم إقليم تطوان، على السلطان مولاي عبد الله، وروى أحداثها بشيء من التفصيل والتأثر، ووصف آثار هذه الثورة على الحياة المغربية سياسيًّا واقتصاديًّا.

ولا شك أنّ “ابن حمادوش” قد عاصر أحداثًا أخرى في تونس ومصر وبلدان الشرق الأخرى التي زارها أو أقام فيها أثناء حجّه وأسفاره، ولكنه على كلّ حال لم يذكرها في الجزء الذي بين أيدينا من الرحلة.

كما عاصر ابن حمادوش تطوُّرات اجتماعية وثقافية لا شك أنّها أثَّرت على مجرى حياته. فحديثه عن عقود الزواج في وقته (وهي عقود كانت تختلف مهورها من طبقة إلى أخرى)، ومعاناته في البحث عن موارد للرِّزق.. واحتماؤه بالشرف والعلم بدل الجاه والسياسة والمال، وكثرة تعرضه للأسعار في أسواق الجزائر.. كلها تعكس الجوّ الاجتماعي والاقتصادي الذي كان يعيشه. وممّا لا ريب فيه أنّ أسفاره الأخرى قد أمدَّته بتجارب أخرى في هذا الميدان، ولكننا على كل حال لا نملك الآن دليلا عليها.

ثقافة موسوعيّة من الشرق والغرب

وتثقيف ابن حمادوش على شيوخ بلاده وعلماء.. المشرق، كما قرأ عددًا كبيرًا من الكتب في مختلف العلوم والفنون. ولئن كنّا لا نجد أثرًا لشيوخه الأوّلين لفقدان الجزء الأول من رحلته في الوقت الحاضر، فإنّنا نعرف من الجزء الثاني منها أنَّه قرأ في الجزائر على الشيخ “محمد بن ميمون”، كما عاصر فيها علماء وأدباء ما تزال أسماؤهم وبعض أعمالهم تشهد لهم بالحذق والمكانة في مجتمع عصرهم، أمثال أحمد بن عمار صاحب (نحلة اللبيب)، والمفتي الشاعر “ابن علي”، و”عبد الرحمن الشارف”، و”أحمد الزرّوق البوني”، وعدد آخر من المفتين وأصحاب الجاه مثل: محمد بن حسين، والحاج محيي الدين الزروق، وعبد الرحمن المرتضى، ومحمد المسيني.. ومن قرأ عليهم ابن حمادوش في تونس فلم يذكر، فيما بين أيدينا من وثائق، سوى الشيخ “محمد زيتونة” الذي يسمّيه “شيخنا”، والشيخ “محمد الشافعي” الذي التقى به في الجزائر يوم جاء هاربًا من حاشية “محمد باي”.

آخر مُمثِّل للطب العربي

ورغم أن “ابن حمادوش” قد درس على طريقة عصره، فإنَّ اهتمامه كان منصبًّا خاصة على الكتب العلمية. ولذلك نجده قد درس: ابن سينا، إقليدس، القلصادي، الأنطاكي، ابن البيطار، وغيرهم من المسلمين واليونان. وكان لا يقرأ نظريًّا، بل يحاول أن يطبّق ما قرأه ويؤلِّف فيه، ويُجري التجارب الشخصية عليه. وهكذا وجدناه يُجري تجارب على النَّباتات ويركّب المعاجين الطبية، ويختبر موازين المياه، ويرسم الرّخامة الظليَّة، ويضع دائرة لبيان اتّجاه الرياح، وغير ذلك من التجارب التي لم تكن محلّ اهتمامٍ من عصره عامة، وعلماء بلاده خاصة. وقد لخَّص اهتمامه عندما قال في رحلته إنَّه أصبح عشّابًا وصيدليًّا وطبيبًا في بعض الأمراض. (التّجارب المشار إليها مُفصّلة في الرحلة. ولعل هذا الاهتمام بالتجارب العلمية، والطب خاصة، هو الذي جعل الدكتور ليكليرك ينعته بآخر ممثل للطب العربي، كما جاء في كتابه “تاريخ الطب العربي” (ج 2، باريس، 1879). وقد اعتبره الدكتور “كولان”: صاحب عقلية بعيدة عن الخرافات في عصر سادت فيه الشعوذة وضعف استخدام العقل).

مُؤلّفات غلب عليها الطّابع العلمي

وهذا الاهتمام هو الذي جعل مُؤلّفات “ابن حمادوش” يغلب عليها الطابع العلمي أكثر من الطابع الفقهي أو الأدبي الذي شاع لدى علماء عصره.

ولنذكر الآن بعض مُؤلَّفاته في هذا الميدان:

  • تأليف على الروزنامة
  • تأليف في الأعشاب (لعله هو كشف الرموز المطبوع).
  • تأليف في علم الفلك (ذكر فيه سبعة تواريخ تعلّمها جميعًا).
  • تأليف في الإسطرلاب والرُّبع المُقنطر
  • تأليف في القوس لرصد الشمس
  • تأليف عن الرُّخامة الظليّة بالحساب
  • تأليف في صورة الكرة الأرضية
  • تأليف في علم البلوط (معرفة الطرق البحرية).
  • الجوهر المكنون (في الطب).
  • بغية الأديب من علم التكعيب (واسمه أيضًا فتح المجيب في علم التكعيب).
  • تأليف في علم البونبة (القنبلة)
  • تعديل المزاج بسبب قوانين العلاج
  • تأليف في الطاعون

(هذه الكتب مذكورة كلّها في الرحلة، ما عدا الثالث عشر والرابع عشر. وقد ذكر عناوين بعضها، ولكنه أهمل عناوين الباقي مشيرًا إلى موضوعه فقط، فيقول مثلاً بعد ذكر الفرع العلمي المقصود “ولي تأليف فيه”).

مؤلَّفاتٌ أخرى في النّحو والشّعر والمقامة..

ولابن حمادوش تآليف أخرى في المنطق مثل “الدُّرر على المختصر” الذي تحدّث فيه على مختصر الشيخ “محمد بن يوسف السنوسي”، وهو الكتاب الذي وافقه عليه وأطراه الشيخ “أحمد بن عمار الجزائري”، وفي النحو مثل كتاب “السانح” وهو شرح على “ألفية ابن مالك”، وفي الأدب “ديوان” شعر، قال إنَّه بناه على الغزل والنسيب ولمراثي ومدح الرسول صلى الله عليه وسلَّم.

كما ترك ابن حمادوش بعض المقامات الأدبية. وهو في أشعاره وأدبه لا يرقى إلى مصاف أدباء بلاده المعاصرين له مثل: ابن ميمون، ابن عمار، ابن علي. وقد أشرنا إلى أنَّ الجزء الذي سنتحدث عنه من الرحلة هو الجزء الثاني، ومعنى هذا أنَّ له جزءًا أولاً لهذه الرحلة التي قد يكون لها جزء ثالث أو أكثر. ونحن لا نشك في أنَّ تآليف “ابن حمادوش” أغلبها ضائع، وأنَّ معظمها صغير الحجم، بالإضافة إلى أنها في جملتها كتب علمية. وليس معنى هذا أنه لم يؤلّف في الفقه ونحوه، ولكن غلب عليه الاتجاه الأول كما لاحظنا.

في بلاد العرب والعجم

وقد تجول ابن حمادوش في العالم الإسلامي من تطوان إلى الحجاز. وإذا كنَّا نعرف من الرحلة بعض التفاصيل عن تجواله في المغرب، فإنَّنا لا نعرف عن تجواله في الأقطار الأخرى سوى إشارات طفيفة. فقد جاء في رحلته أنَّه كان بتونس حاجًّا عام 1130 هـ – 1718… وجد بعض الباحثين أنَّ ابن حمادوش كان في مدينة “رشيد” بمصر سنة 1161 هجرية – 1748 ميلادية، وأخبر هو في رحلته أيضًا أنه زار بلاد العرب والعجم والترك بدون تحديد. وممَّا وصل إلينا من آثاره رحلتُه التي نحن بصدد التعريف بها.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا