قراءةٌ في “ظلِّ النعناع” للأديبة اللبنانية إخلاص فرنسيس.. “حبَّةُ مَطَرٍ”.. غارقةٌ في ذاتِها

“حَبَّةُ مطرٍ” نصٌّ قَصَصِيٌّ تَصيَّدَتْه الكاتبةُ اللبنانية “جنى قبيسي” من “ظلِّ النعناع” وهي مجموعة قصص قصيرةٍ للأديبة اللبنانية المَهْجَرِيَّة “إخلاص فرنسيس”، وراحتْ ترْصدُ ما فيه من تفاعلاتٍ في كيمياء الرّوح والفكر والوجدان… في محاولةٍ للإمساكِ بِسِرٍّ ما، لعلّه سِرُّ الحياة ذاتها، أليستْ الحياةُ والوجودُ على كوكب الأرضِ مرهونٌ بتلك الحَبَّةِ… حَبَّةَ المطر!

من يُوقِظُ الإنسانيةَ من سُباتِها العميق

بالروح الأنثوية الحالمة، تنْقلُنا الأديبة “إخلاص فرنسيس” إلى عالمها الذي صنعته وصاغَتْه من مجموعة تأمُّلات من نسْج خيالها، جاعلةً العاطفة بارزة فيها، إذ سمحتْ للرومانسية أن تقْتاد أفكارَها مخاطبةً ذاتها والكون والآخر. تحاول الكاتبة برومنسيتها الطاغية الغارقة في مثاليَّتها أن تبحث عن معناها الروحي الضائع في الماديَّات والمحسوسات، والحرية مُبتغاها، تلك الحرية التي لا تتحققُ إلّا بالحُبِّ، حتى تجد الأديبةُ ذاتَها الشاعريَّة المنطلقة إلى اللاَّمحدود، ذلك المكان المجهول والمُعتم من الروح الإنسانية، لتَستنْهِضَها وتؤجِّجَ عنصر العاطفة، مُؤكدةً أن إنسانية الإنسان بحاجة إلى من يوقظها من سباتها العميق.

تجاوزت الكاتبة “الأنا” لتصل بتخيُّلاتها إلى جوهر كل امرأة تحفرُ عميقًا في وجودها حتى تؤكد قيمتها في مجتمع يحاول تهميشها، بل بإمكاننا القول إنَّ النَّصَ يَطالُ كل إنسان يعيشُ صراعاتِ وأزماتِ العصْر الحديث، لأنَّ مُهمَّة تحريك الجوهر الإنساني يقَعُ على كل فرْدٍ رجل كان أم امرأة، وإن كانت النَّزعة الأنثوية غالبة في النص.

إبْحارٌ في “حبّة مطرٍ”

الأديبةُ رومانسيةٌ بطبْعِها، والرومانسية تتَّضِح من خلال عنصريْ العاطفة – الخيال، وهذا ما ينطبق على نص “حبَّة مطر” إذ نلاحظ سيطرةَ جَوٍّ من الكآبة والحزن على معالم النص، وهما من سِمات الشخصية الرومانسية الشاهدة على ما تعانيه البشرية من أحداث ومشاكل، أمام إحساسها بعجزها وضعفها عن مواجهة هذه الأزمات، لذا تتحَّكم بها حالةٌ من الرعب والقلق وعدم الرضى، وهذه المعاناة على حد تعبير الدكتور “جميل نصيف التكريتي” في كتابه (المذاهب الأدبية) “شاهدة على نُبل البطل الرومانتيكي، ذلك أنَّ النفسَ الكريمة والسَّامية وحدَها هي القادرةُ على الإحساس بالمعاناة وهي ترى الشر في العالم” (ص214). لكن المُفارقة هنا أنَّ الأديبةَ لم تسمح لِلَمْحة الحزن أن تُقيد حلمَها في التغيير وبناء مجتمع يناسب تطلعاتها، مجتمع حر من قيوده، “حين أصير حبة مطر لن يردعني شيء”. فهي كما باقي الرومانسيين مُتمسكةٌ بالحرية، مُتمردةٌ على واقعها، فامتزج الحزن بالقوة، و”حبَّة المطر” رمزٌ للبراءة والرقة اللتيْن تتخذانهما الأديبة سلاحًا لمحاربة الشر والأنانية، إيمانًا منها أنَّ القلبَ الخَيِّر بإمكانه أن يغيّر، وهذا من مظاهر سُموِّ النفس التي يحملها الرومانسيون، فهم يكابدون ويتحملون في سبيل تحقيق ما يصبون إليه من سلام وعدالة “حين أصير حبَّة مطر سوف أتحد مع نايات الرعيان في الحقول، نصوغ الفرح والحياة”. و”محمد غنيمي هلال” يُعبِّر عن هذه الفكرة في كتابه (الرومانتيكية) بقوله “الرومانتيكي لم يكن عادة بالمرح ولا المتفائل، وإنما كان فريسةَ ألمٍ مرير بسبب الجفْوة بينه وبين مجتمع لا يُقدِّر ما فيه من نبل الأحاسيس، ونتيجة انهيار آماله الواسعة، وتَعذُّرِ ظَفرِه بالمثال المنشود. ولذا كان الحزن طابع الرومانتيكيين، وهو حزن يدلُّ على رهف الشعور إلى درجة لا تستقر نفوسهم فيها على قرار، بل تظلُّ نهْبَ اضطرابٍ دائمٍ إذْ يشعرون جميعًا أنه لن تتاح لهم سعادة في هذا العالم” (ص50).

الإنسان خَيِّرٌ بِفِطرتِه

إلى جانب عاطفة الحزن، نلْمحُ عاطفة الحب، وهو من أسمى العواطف التي يؤمن بها الرومانتيكيون، ويدعون إليها بل يرونها فضيلةً أعلى من كل الفضائل، ويرون أن خلاصَ الإنسانية من تعاستها كامِنٌ في الحبِّ، ولا يقصدون الحبَّ فقط بين الرجل والمرأة، إنَّما الحب بين الإنسان وأخيه الإنسان، ذلك الحب المقرون بالضمير، والذي يُرجِع الإنسانَ إلى طبيعته الخَيِّرة، فالإنسان خيِّرٌ بفطرته عند الرومانسيين، والشر دَخِيلٌ عليه، لذلك لا بدَّ من الإحساس بالحب تجاه الناس والطبيعة حتى يُعاد إليه الاستقرار النفسي، والأديبةُ مُؤمنةٌ بالحب كذلك، وهذا الحب يجعلها قريبة من مختلف طبقات مجتمعها، من الحَزَانى والمَكْروبين، تمسحُ حزنهم بلمسة حنان، وتمنحهم من فيْض عاطفتها ما يؤنسهم في عالم تتأكَّله الوحشةُ والظلم “حين أصير حبة مطر، سأزور الأكواخ في السهول، أحمل إليها الأنس والأزهار، أنشف دمع الشيوخ، وأهدهد نعاسهم ببخور الأحلام، أحمل تأوُّه العواصف وأنين الشجر، وألتَفُّ حول المواقد أخْبِرُ الأطفالَ عن طفولتي، وأساطير من مرُّوا هنا، أنقذهم من عوْسج البشر، أضمُّهم إلى صدر النور، وأكون نهارًا جميلًا، حين أصير حبة”. فتحول بذلك الحب إلى فلسفة ومعتقد ومنهج حياة تسير عليه الأديبةُ وتنشده لغيرها.

انقلابٌ على الرُّومانسيّين

والحب أيضًا يمنحُ قوةً إلى الطبيعة، فالطبيعة تحتلُّ مرتبةٌ عاليةً عند أتباع الاتجاه الرومانسي، ذلك أنهم يُفضِّلون الاختلاءَ بأنفسهم واعتزال الناس؛ لأنَّ المجتمعات مريضةٌ، ومتْعبةٌ، وعبءٌ على مشاعرهم الرقيقة، “فقد اكتشف الرومانسيون ما في الطبيعة من الجمال والعَظَمة” (عبد الرزاق الأصفر، المذاهب الأدبية لدى الغرب، ص63)، من هنا لجأ الرومانسيون إلى الهروب من واقعهم الصعب الذي لا يفهمهم ولا يتقبَّلهم إلى الطبيعة البسيطة، وذلك بسبب ما يتمتَّعون به من رهف الإحساس ورقَّته، ويرون في الطبيعة أمانهم، إلا أنَّ الأديبةَ قلبتْ مفهوم الطبيعة عند الرومانسيين إذ حولت الطبيعة من مكان هروبٍ إلى مكان تغْييرٍ، وربطتْ بين عناصر الطبيعة وبين الحرية والتمرد والتغيير على عكس الرومانسيين الذين اتخذوا من الطبيعة مخبأهم ليُعبِّروا عن ضُعفهم واستسلامهم “… أخلع عني صيْفي، وأكون ربيع الأرض، أستيقظُ مع صغار العصافير، أتَموَّجُ مع الجداول، أملؤها بالأغاني، وأستنشقُ عطر النسيم، أتدحرج على الصخور السمراء، وأتبادل معها القبلات”.

تَمرُّدٌ بِلُغَة الماءِ

الملاحظ في هذا النص أنَّ التَّمردَ يتْبع مسارًا هادئًا عذْبًا بعيدًا من العنف والتفرُّد بالقوة، فأسلوب التعبير عنه رقيق ومُرهف وسَلِس في إشارة إلى فكرة مُبطَّنة للأديبة وهي أن إرجاع الناس إلى فطرتها وتكاملها لا يتطلب حالة صراع، بغالب ومغلوب، أو قوي وضعيف، بل بفتح قلوب الناس لبعضهم البعض، ونشر ثقافة المحبة والتَّقبُّل والتخلِّي عن الأنانية والانشغال بالذات على حساب الغير، “حين أصيرُ حبَّة مطر، أنهمر على الرؤوس، سأسافر نحو الشرق، أسرق قُبْلة من العشاق، لأشْهدَ ولادةَ الحُبِّ من بين الشفاه، وأطفئ مجاعةَ القلوب إلى الشمس، أخلعُ عني صيفي، وأكون ربيع الأرض”.

الخيالُ تعويضٌ نفسيٌّ ورُوحيٌّ

أما الخيال، فهو وسيلة تعويض نفسي وروحي عند الرومانسيين، نتيجة الحرمان الذي يشعرون به في مجتمعهم النَّابِذ لعاطفتهم، وفي كتاب (الرومانسية – بحث في المصطلح وتاريخه ومذاهبه الفكرية) تقول الكاتبة “نغم عاصم عثمان”: “لقد كان خيال الرومانسي طموحًا جَمُوحًا يتطلَّب مثالًا له أينما وجده في غير زمانه ومكانه ولكنه لا يسْتَوْحيه إلاَّ من ذات نفسه، إذ فيها الشرارات الأولى التي تهديه الطريق وترسمه له. ولا يُتاح له فهْم ما تجيش به عواطفه وآماله إلا بالصور والأخْيِلة التي يضيفها على الحقائق. ولم تكن تلك الصور والأخيلة عند الرومانسيين إلا مظهرًا لظمأهم في تعرُّفِهم إلى مُثُلهم من خلال ما يَجيش في نفوسهم من عواطف ومشاعر، وقد دفع ذلك كثيرًا منهم إلى محاولة التَّعرف إلى ذات أنفسهم بالغوص في أعماق النفس وما توحي به الصُّوَر الشِّعرية من صُوَر لا شعورية تتجلى في النوم والأحلام” (ص67 و66). من هنا فإن المبدع الرومانسي قادرٌ على توظيف مُخيِّلته في المعطيات الواقعية، ليتاح له فهم مشاعره واضطراباته العاطفية والشعورية. والأديبة في نص “حبة مطر”، اعتمدتْ بشكل واضح على عنصر الخيال، وبنَتْ مادَّتها الأدبية من تصوُّرات استمدَّتها من الماديات وأضافت إليه لمْسةً ساحرة من مخيلتها، وقد ظهر ذلك من خلال اعتمادها على التعابير المجازية والصور البيانية ومن ذلك قولها “أتفقُّد أنَايَ في مكان ما، ربما على ورقة سنْديانٍ في الغابة الخضراء التي احترقَ تُرابُها، تشربُني بنَهَم، تتلقَّفُني لأصير منها وهي مني دمعة خضراء…”.

الاتِّحاد بالطبيعة والكوْن

هذا الخيال فسَحَ المجالَ أمام الأديبة للاتحاد بالكون والطبيعة، وكأنَّها ذاتٌ مُشظَّاةٌ تجْمع شتاتَها من عناصر الفضاء والأرض، رافضة انسلاخ الإنسان عن الطبيعة لأنَّه منها ورجوعه إليها. والملاحظ أنَّ الأديبةَ اختارتْ من عناصر الطبيعة كلَّ ما يحمل روحَ الجمالِ والرَّاحة والسكينة من: غابة خضراء، شحارير، ربيع، نايات الرِّعْيان، ضفاف الجبل.. ومن خلال هذه الطاقة الجماليَّة الإيجابية المنبثقة من هذه العناصر رسمتْ الأديبةُ صورةً عن العالم الذي تطمح إليه بعيدًا من فوضى النفس البشرية والعشوائية المقيتة إلى عالم مُنظَّمٍ نقيٍّ جميلٍ يُعيد إلى الطبيعة دورَها في تثبيت دعائم الإنسانية الراقية المحبة.

بساطةٌ وعُمْقٌ وجماليَّةٌ

وفي النهاية فإنَّ نص “حبة مطر” بأسلوبه البسيط العميق استطاع أنْ يَمسَّ شِغافَ الروح بلمسات لطيفة تُحرِّك مَدارِكَ العقلِ والخيال، ويزرع في النفس أبعادًا جماليَّة فنيَّة بامتياز، فقد تمكنت الأديبةُ من التعبير عن هذا الكَمِّ من العواطف بعيدًا من التكلُّف والتَّصنُّع، وجاءتْ لغتُها واضحةً في معناها، مَتينةً في تماسُكها، شديدةَ العُمق، مليئةً بحسٍّ إنسانيٍّ مرهف، احتلَّتْ ذاتيَّتُها المركز، وهذا ما تدعو إليه المدرسة الأدبية الرومانسية، حيث “أصبح الفرد محور الأدب لا الإنسان الكلي، وتضخَّمت النرجسية ونما أدب البوْح والاعتراف” (عبد الرزاق الأصفر، المذاهب الأدبية لدى الغرب، ص61).

جنى قبيسي - كاتبة لبنانية

جنى قبيسي - كاتبة لبنانية

اقرأ أيضا