من هو المثقَّف؟.. هل هو “شاهد ما شافش حاجة”؟

من هو المثقَّف؟ سؤالٌ بسيطٌ قد تبدو الإجابة عنه بسيطةً أيضًا، غير أنَّ الاختلاف حول معنى ومفهوم المثقف عميقٌ جدًّا بين المفكِّرين والأدباء وعلماء الاجتماع.. وحتى في المفهوم الشَّعبي! فهناك من يرى في المثقف ذلك الإنسان الذي بلغ مستويات متقدِّمة في التَّعليم، أو هو الإنسان الذي يمتلك حصيلة معرفيَّة كبيرةً من خلال القراءة، أو هو إنسانٌ اجتمعت فيه عناصر: المعرفة والوعي والموقف الإيجابي من قضايا وطنه وأمَّته.. أو هو الإنسان الذي يتجلَّى فيه مَكنوزُه المعرفي من خلال لِباسه وسلوكه وأخلاقيّاته واحترامه لقيمه المُجتمعيَّة والإنسانيَّة.

في عصر المُجتمع المعلوماتي، من الضروري إعادة “تعريف” المثقّف، ورسم ملامحه في مرآة العصر، ومحاولة ضبط دوره الاجتماعي ورسالته الإنسانيَّة.. وهل يتحمَّل مسؤوليات في معارك البناء النَّهضوي والتَّأسيس الحضاري والرقيّ بالأفكار في مواجهة كل أشكال الفكر الهدَّام الذي يتسلَّل في النفسيَّة المجتمعيَّة ويعمل على نشر اليأس والانهزاميَّة.. أم أنَّ “المثقف” صار مجرَّد “شاهد ما شافش حاجة”؟

بعيدًا عن التَّعريفات الأكاديميَّة لما يُسمَّى “المثقَّف”، توجَّهت جريدة “الأيَّام نيوز” إلى نُخبة من الكتَّاب العرب بهذه التَّساؤلات: من هو المثقَّف في نظركم؟ وما هو دوره في الحياة الاجتماعية والفكرية.. وما هي حدود مسؤوليته في الحفاظ على الهويَّة الوطنيَّة والتاريخية والقيم الأخلاقية والإنسانيَّة؟

في ستينيات القرن الماضي، نشر الفيلسوف الوجودي “جون بول سارتر” (1905-1980) مقالاً حول دور المثقف في المجتمع المعاصر، جاء فيه “إنَّ النّقد الذي يُوجّه دائمًا إلى المثقف هو أنَّه إنسانٌ يعارض وينتقد دائمًا، ويتدخَّل في أمور خارج ميدانه وتخصُّصه مُستغلاًّ شهرته وتأثير أعماله الثقافيَّة والعلميَّة”. وكأنَّ “سارتر” افترض بأنَّ المثقف هو شخصية لها ثقلها الاجتماعي وتأثيرها في مجرى الأفكار والعادات، إضافة إلى كونه شخصية حيويَّة “تفاعليَّة” مع مختلف القضايا والشؤون..

ويُضيف “سارتر” متحدِّثًا عن “المثقف القذر” الذي يخدم الغايات الاستعماريَّة، قال: “إنَّ العالِم عندما كان يعمل في الولايات المتحدة، كان يقوم بأعمال سياسية على الرَّغم منه، حينما كان يخدم أهداف الاستعمار، حيث كان مُعتَبرًا أنَّه مُنتظِمٌ في داخل تخصُّصه العلمي فحسب، ولكن بمجرَّد أن يشعر هذا العالِم بخطرٍ نتيجة أعماله، يصبح من المثقفين، أو كما كانوا يقولون أثناء (حرب الجزائر) عندنا في فرنسا: مثقف قذر”.

ثمَّ يحدِّثنا “سارتر” عن الفيلسوف الإنجليزي “برتراند راسل” (1872 – 1970)، الذي قاد “محكمة” شارك فيها علماءٌ من مختلف التخصُّصات لمحاكمة “الأعمال التي اقترفها الأميركيون في فيتنام.. ومعرفة ما إذا كانت الأعمال التي ارتكبها الجيش الأمريكي هناك جرائم حرب أم لا؟ وهذه المحكمة تتكوَّن من رجال هم علماءٌ في الفيزياء والرياضيات، وفلاسفة وقانونيّون ورجال تاريخ، ورؤساء دول سابقین.. وهم رجالٌ أسمِّيهم رجال معرفةٍ عملية وعلميَّة. ويُقال لهم عندما يريدون الحُكم على أعمال الجيش الأمريكي: لماذا تدسّون أنوفكم فيما لا يعنيكم؟ فهذا بعيدٌ عن اختصاصكم. والواقع أنَّ الذي يجمع هؤلاء الناس في هذه المحكمة ليس فقط وظائفهم، إنَّهم في الوقت الذي يريدون فيه أن يرفعوا عَلم المُثل العليا فهم يشكِّلون مجموعة من المثقفين لا من العلماء”.

لقد أوردنا رؤية “سارتر” حول المثقَّف للتَّأكيد بأنَّ “المثقف” الحقيقي هو من يكون له مواقف إيجابيَّة في الانتصار لقيم الإنسانيَّة والعدالة والحق في الحياة الكريمة لكل كائن فوق الأرض.. فأين أمثال الفيلسوف “راسل” ومن ساهموا معه في محاكمة أمريكا على جرائمها في فيتنام، في زمن الحرب الصهيونيّة الغربيَّة المُعلنة على غزة وفلسطين؟ لن نبحث عن الجواب، ولكن يُمكننا القول بأنَّ الجرائم الوحشية المُرتكبة على شعبنا الفلسطيني في غزَّة، هي إدانةٌ لكلٍّ المثقَّفين في العالم.. سواءٌ كان هؤلاء المثقفين فلاسفة أو مفكِّرين أو علماء في مختلف التَّخصُّصات!

المثقَّف.. مهَذَّبٌ شِعاره “معاملة الناس بالحُسنى”

بقلم: قدري حافظ طوفان (كاتب ومفكِّر فلسطيني)

قدري حافظ طوفان (1910 – 1971) كاتبٌ وسياسيٌّ فلسطينيٌّ من أعلام الفكر العربي في القرن العشرين. جاء في موقع “الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية”: “تميّز قدري طوقان بكونه مثقفًا ملتزمًا آمن بواجب المثقفين الفلسطينيين الاضطلاعَ بدور كبير في مجتمعهم، كي ينشِئوا “شبابًا مؤمنين عاملين على رفع مستوى البلاد، مثقفين تثقيفًا قوميًّا وطنيًّا، يعرفون كيف يخدمون الوطن”.. ساهم، في سنة 1945، في تأسيس (لجنة الثقافة العربية) في فلسطين، إلى جانب إسحق موسى الحسيني وآخرين، وفي تنظيم (معرض الكتاب العربي الفلسطيني الأول).. في القدس سنة 1946، الذي ضمَّ نحو 800 كتاب باللغة العربية وعشرات الكتب بلغات أجنبية”.

وهذه المقالة حول معنى المثقَّف، نشرها الكاتب “قدري حافظ طوفان” في الأول فيفري 1940 بالمجلة الشهريَّة الأدبيَّة “العرفان” التي كان يُصدرها “أحمد عارف الزين” في مدينة “صيدا” بلبنان.

يخطئ من يظن أنَّ المثقف هو من يحمل شهادةَ من إحدى الجامعات أو من قطع شوطًا في ميادين العلم والفن. ويخطئ من يظن أيضًا أنَّ المثقف هو من حاز على لقب علمي من إحدى الهيئات أو الجمعيات العلميَّة، إذ ليس ضروريًّا أن يكون المثقف من هؤلاء. ولكنه قد يكون منهم، كما أنَّه قد يكون من غيرهم من الذين لا يتمتَّعون برُتب الجامعات، ولا من الذين لديهم رفيع الدَّرجات.

وإذا رجعنا إلى قواميس اللغة، وجدنا أنَّ كلمة (ثقَفَ) أو (تثقَّف) تعني غير ما هو شائعٌ أو معروف عند أكثر الناس. ففي “المحيط” و”المختار “: ثقَفه – ثقفًا: غلبه في الحذق. ثقَف (الرُّمح) أي قوَّمَه، وثقَف (الولد) أي علَّمه وهذَّبه وثقَّفه ثقفًا أي أدركه وفهِمه بسرعة.

وجاء في “أساس البلاغة”: أدَّبه وثقَّفه – وهل تهذَّبتُ وتثقَّفتُ إلاَّ على يدك! وجاء في بيت شعرٍ لأحد الجاهليِّين: وتشهد لي عند الفَخار شجاعتي — وسيفي وتِرسي والمُثقَّفة المرن، والمثقَّفة هنا: الرِّماح المُقوَّمة غير المُعوَجَّة.

ويُفهَم من معاجم اللغة أنَّ المقصود من كلمة “التَّثقيف”: التَّهذيب، وإنَّ فُلانًا تثقَّف أي تهذَّب. وإنَّ مُثقَّفًا تعني مُهذَّبًا. وهو المعنى الصَّحيح الدَّقيق لكلمة “مُثقَّف”.

وقد أساء كثيرون فهمَ هذه الكلمة، وصاروا يطلقونها على طبقةٍ خاصَّةٍ من الناس من حمَلة الشَّهادات، وشاع استعمالها إلى درجةٍ أصبحت كلمة “مُثقَّف” مُرادفةً لحامل شهادة أو لخِرِّيج كليَّة أو لابن جامعة.

وتدخل في كلمة مثقَّف معاني التَّهذيب والاستقامة وعدم الاعوجاج والانحراف عن الصَّواب. وهذه كلُّها صفات سامية ومزايا نبيلة مَن وُجدت فيه فقد اقترب من (الرَّجل المثقَّف). فالمُهذَّب والمستقيم هو من سما بروحه فجعلها تحلِّق في أجواء الفضيلة، وطهَّر نفسه من أدران الرَّذيلة فارتفع بها عن مستوى الماديَّة البشعة. وإنَّ في هذا السموّ وذاك الارتفاع ما يبعده عن الأنانيَّة البغيضة. والمثقَّف هو مَن يحاول إدراك الأشياء التي تحيط به والوقوف على ما يجري حوله.

ولا يتأتَّى ذلك إلاَّ بالسَّعي لزيادة المعلومات وتوسيع أفق التَّفكير، والمثقَّف هو المستقيم السَّائر على طريق الحقِّ والصَّواب. ولن يعرف إنسانٌ هذا الطَّريق إلاَّ إذا أدرك بجلاءٍ أنَّه لم يُخلق عبثًا، بل ليقوم بأداء رسالاتٍ نحو خالقه ونفسه ووطنه. والمثقَّف هو صاحب الضَّمير اليقِظ الذي لا يرضى بهوانٍ يُراد به، ولا بظلمٍ ينصبُّ على بلاده.. وصاحب الضَّمير الفاهم الحقيقة ما يجري حوله، يُدرك أنَّ كرامته من كرامة وطنه، ومجده في خدمة أمَّته، وعزّه في النُّهوض بها في معارج القوة والعظمة.

وليست الصِّفاتُ التي تجعل من الإنسان مهذَّبًا ومستقيمًا تنحصر في طبقةٍ من الطَّبقات أو فئة من الناس، كما أنَّها ليست وقفًا على جماعةٍ دون جماعة، فقد تكون في مَن هو على جانب يسيرٍ من العلم، وقد تكون في الصَّانع أو العامل أو غيرهما.

فمَن سعى ليكون مهذَّبًا ومستقيمًا فهو الرَّجل المثقَّفُ حقًّا، ومن لم يعمل بما توحيه معاني التَّهذيب والاستقامة فقد ابتعد عن (الرّجل المثقَّف) وأصبح عالةً على اللَّقب الذي يحمله حتى ولو كان متضلِّعًا في العلوم والفنون، واقفًا على أسرارها ودقائقها..

إنَّ المثقَّف هو المثلُ العالي للإنسان، وما علينا إلاَّ أن نسعى لنكونه، ونوجِد الرَّغبة في النَّاشئة لنكونه أيضًا.

وخلاصة القول: أنَّ المثقَّف هو المهَذَّب المستقيم الذي يجعل ضميره رائده، وعقله قائده، ومعاملة الناس بالحسنى شِعاره.

الإنتلجنسيا في عصر مواقع التّواصل الاجتماعي.. التَّباعد الفكري

بقلم: إسراء نزال (ناشطة اجتماعية ومهندسة كيميائية فلسطينية من جنين)

يظنُّه البعض أنه ذلك الذي يرتدي قبعة تريبلي أو قبَّعة بائع الصُّحف (قبعة الخبَّاز) ومعطف كلاسيكي، ممسكًا كوبَ القهوة في يده اليسرى والجريدة في يده اليمنى، جالسًا في الرُّكن يُحادث نظراتَ الناس بصمته والابتسامة هاربة.. عابسًا في وجه المارَّة، كاتبًا ما يجول في خاطره على ورقة يجعلها صفراء بعد أن كانت بيضاء، لكي يوحي للمارَّة أنَّه قديمٌ ومختلف.

ذلك الأنموذج المُبتذل المزيَّف من المثقف القديم. لكن، أمام وسائل التَّواصل الاجتماعي والتي جعلت كل عابرٍ يظنُّ نفسَه هو الكائن وهو المؤثِّر والمثقف.. أصبح للمثقف المزيَّف مظهرًا آخر رديء أشدَّ ابتذالاً من الأنموذج القديم، كل ما يحتاجه هو الهاتف و”كاميرا” وإضاءة ومونتاج محترف، ومحتواه الذي لا يمدُّ لحاجة المجتمع بصلةٍ، بل من خلال تفاهةٍ قد تخدّر الوعي، وتخدّر أكثر برؤية عددٍ كبير جدًّا من المُتابعين الذي يهلّلون ويطبِّلون لذلك الذي أمام الكاميرا!

لذا، وأمام عجلة تطوُّر التكنولوجيا السَّريعة والتحدِّيات العميقة التي تواجه المجتمعات خاصة أمام وسائل الخطف الاجتماعي، وضياع المفاهيم الأساسية البنَّاءة للمجتمع كمصطلح: مثقف، متعلِّم، متنوِّر.. وغيرها من المصطلحات التي كانت مُتداخلة سابقًا، وأصبحت منفصلة لاحقًا، أصبح ملِحًّا الآن إنقاذ مفهوم ومصطلح “مثقف” من مستنقع “المُستثقفين” المضطربين. السؤال الآن: رغم وجود أسماء فذَّة عديدة من المفكِّرين والكتّاب والفلاسفة وعلماء اجتماع.. لماذا لكلٍّ منهم تعريفه الخاص للمثقف؟

بدايةً، وقبل الإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نُبحر قليلاً في مفهوم الثقافة والتي منها اكتسب الإنسان صفة المثقف، فمن المؤكد أنَّ تعريف المثقف يسكن في الثقافة لكن استخراجه يحتاج إلى شجاعة، فمن المحتمل أنَّ المفاهيم التي سمعناها هنا وهناك قد تندثر، لو سألنا الثقافة نفسها: “من هو المثقف”؟

الثقافة، كما المثقف، لديها تعريفات عديدة يختلف عمقها من زمن إلى آخر، لكن تخيَّل لو سألت مزارعًا في القرون القديمة عندما كانت الزراعة تشكِّل مهنةً لأكثر من ثمانين بالمائة من البشر ولا يوجد تواصل مع الأقوام الأخرى.. تخيل لو سألت هذا المزارع عن ماهيَّة الثقافة! لن يخبرنا بكل تأكيدٍ أيَّ تعريف قد تعلَّمناه أو عن الإنجازات الإنسانية والتكنولوجيا والتقدُّم الأدبي والمعرفي، بل سيحصر تعريفه بحسب حاجته وحاجة محيطه! فمن المُحتمل أن يقول بأنَّ الثقافة تتعلق بمدى معرفة المرء بالزراعة وكيف يتعامل الانسان مع التربة، وأنَّ المثقف هو ذلك الذي يعلم بالزراعة أكثر من غيره! وأمَّا الكائن البشري في العصر الحجري ستكون إجابته أيضًا في سِياق رؤية المزارع، لكن ليس حول الزراعة، بل حول حاجة بشريٍّ في عصر حجريٍّ، ومع التطوُّر الإنساني والتقدُّم المعرفي والتَّراكم الأدبي، أصبح للثقافة مفهومًا أعمق يتناسب مع وعي معرِّفه، ومدى اتصاله بمحيطه. ماذا أقصد بذلك؟

يعرِّف “تشومسكي” المثقف بأنَّه هو مَن حمَل الحقيقة في وجه القوة، وعرَّفها “فوير” بأنَّه ذلك الشخص الذي تمتدُّ أفكاره إلى نطاق أبعد من مهنته ويهتمُّ بالقضايا والمشكلات الحقيقيَّة، و”جون بول سارتر” يقول أنَّ المثقف هو ذلك الذي يتدخَّل فيما لا يعنيه ويمتلك القدرة على الجهر بالحقيقة، في حين يقول “نجيب محفوظ” أنَّ قارئ الحَرف هو المتعلِّم، وقارئ الكُتب هو المثقف، لكن “محمد حسين هيكل” يصف المثقف أنَّه بطبيعته لا يملك جوابًا نهائيًّا لسؤال ولا يتصوُّر مثل هذا الجواب النهائي.

تباينٌ واضح في تعريفات عقولٍ من نُخبة العالم، عاكسة تلك التَّعريفات الطريقةَ التي يرى بها المعرِّف عالمَه وبالتالي الطريقة التي يحلِّل بها ذهنه ما رآه، ملخِّصًا حقيقة وعي ذلك المعرِّف! أي أنَّ كلَّ تعريف هو انعكاس لوعي ذلك المعرّف تناسبًا مع خبراته وقدراته وآلية تفاعل ذهنه مع المجتمع، ممَّا يستدعي الوقوف طويلاً أمام تناسب أيّ تعريف مع حاجة مجتمعنا بالدرجة الأولى.

وأمَّا الثقافة فيعرِّفها “كروبي” و”كلاكهون”، وهو تعريف يحظى بموافقة علماء الاجتماع في الوقت الحاضر، لأنَّه يعتبر صيغة تأليفية مقبولة، فالثقافة – عندهما – تتألَّف من أنماط مُستترة أو ظاهرة للسُّلوك المُكتسَب والمَنقول عن طريق الرُّموز، فضلاً عن الإنجازات المتميِّزة للجماعات الإنسانية. ويتضمَّن ذلك الأشياءَ المصنوعة. ويتكوَّن جوهر الثقافة من أفكار تقليديَّة وكافّة القِيَم المتَّصلة بها. أمَّا الأنساق الثقافيَّة، تُعتبر نَتاج السُّلوك من ناحية، وتمثِّل الشّروط الضروريَّة له من ناحية أخرى. إن كان هذا التعريف هو المُتَّفق عليه حاليًا من قبل علماء الاجتماع، فكيف هو المثقف والذي صفته مُشتقَّة من الفعل: ثَقُفَ، وهو الفعل نفسه المُشتقَّة منه كلمة ثقافة؟

لا بدَّ من وجود رابط ما بين المثقف والثقافة كي لا ننخدع بأحد ما قد قرأ كتابًا وقرَّر أخذنا إلى الهاوية!

لنعد إلى التَّعريف المُتَّفق عليه، إن كانت الثقافة تجمع بين الإنجازات الإنسانية والأنماط والأشياء المصنوعة والأفكار والتي جميعها تعتبر نتاج سلوك جماعة ما، كيف لنا أن نظنَّ أنَّ كل مُتعلِّم أو حامل شهادة.. ما هو مثقف!

والجدير بالذِّكر أنَّه قديمًا، عندما كان التَّعليم ليس في متناول الجميع بل القليل، كان يُعتبر المتعلِّم مثقفًا، وأمَّا اليوم فقد اتَّجه الكثير من الكُتّاب ومعرِّفي المثقف بأنَّه لا يُشترط حتى أن يكون متعلِّمًا نظرًا لتطوُّر حاجة المجتمع الوعيِيِّ والذِّهني والذي لا يأبه بالكمِّ المعرفيِّ لدى المرء إن لم يتم تطبيق تلك المعرفة وتحويلها إلى مُنتَج مُساهم في خدمة المجتمع!

حسنًا، من المُمكن جدًّا أن تقول أنَّني قد حصرت تعريف من هو المثقف؟ من خلال تحليل تعريفٍ واحد للثقافة وإن كان مُتَّفق عليه، إلاَّ أنَّنا يجدر بنا ألاَّ ننسى أنَّ الثقافة هي جزءٌ من هوية الإنسان، وهي الهمُّ الأول لأيِّ احتلالٍ لاقتلاع الشعب من الوجود، ممَّا يستلزم تذكُّر الهويَّة والوجود عند صياغة تعريفٍ للمثقف.

وعليه، لا يمكن لنا أن نصف القارئ والمخترعَ والعبقري بأنَّه مثقفٌ إن لم يكن على التصاق بمجتمعه كي يحقق له حفاظًا على هويته ووجوده، فالمثقف هو ممثِّل لثقافة مجتمعه، أو على الأقل يلتقي المثقف والثقافة عند جذر لغوي هو ذاته “ثَقُف” ممَّا يتطلَّب احترامًا لشعبٍ ومجتمعٍ ثقافتُه هي جزء من هويته، وذلك ما يستدعي صياغة مفهومٍ للمثقف يحاكي حاجة وهوية ووعي ومتطلَّبات المجتمع.

بناءً على ذلك، المثقف هو ذلك الذي تمكَّن من تمثيل ثقافة جماعة ما من حيث الإلمام المعرفي الكافي بكل ماضي وحاضر الأمَّة، من حيث الإنجازات الإنسانية والسلوك والنمط الفكري لدى شعب ما، وآلية التَّحصيل والتطبيق المعرفي وجوهر السُّلوك الإنساني ما بين أفراد الجماعة، ومن ثم القدرة على تحليل وتطوير ما ذكرتُ للوصول إلى طريقةٍ تحافظ على ماضي الأمة ومن ثم تطوير حاضرها من خلال حل مشكلاتها والتحديات التي تواجه أفراد هذه الجماعة.. وأخيرًا، القدرة على تقليص الفجوة أو السلبيَّات أو التَّناقضات التي قد تتواجد بين الأفراد، لتحقيق وحدةٍ واحدة تجتمع على ثقافة واحدة، ثمَّ قدرة هذا المثقف على التَّفاعل مع الثقافات المختلفة، مُحقّقًا انسجامًا دون ذوبان.

باحثٌ عن الحقيقة.. في المعراج الثقافي!

بقلم: سامي مهنا (شاعر وكاتب فلسطيني، الرّئيس السّابق للاتحاد العامّ للكتّاب العرب الفلسطينيين 48)

هناك اشكاليّات عديدة في تعريف مصطلح المثقّف، وخاصّة في زمننا الرّاهن الّذي يتوفّر فيه كمٌّ هائل من المعلومات، من خلال عمليّة بحث بسيطة، وفي الوقت الّذي تنفجر فيه ثورة الذّكاء الاصطناعي، الّتي تشارك الإنسان ليس فقط في المعلومات وإنّما في الإبداع نفسه.

وقد أُصطلح منذ زمن بعيد على أنّ الثّقافة ليست المعرفة المعلوماتيّة وحسب، وتبقى المعرفة بمثابة القماش الخام الذي يُنسج لتشكيل الوعي والإدراك والتّحليل والتّقييم والاستشراف والإبداع.. الذي يقف في أعلى درجة في سلّم الثقافة، فالمثقّف بتعريفه الأعلى هو منتج الثّقافة، واستهلاك الثّقافة درجة في هذا الهرم.

وتكمن الثّقافة الحقيقيّة في البحث الموضوعي عن الحقائق، المتحرّر من قيود الموروث عاطفيًّا، إذ أنّه لا يمكن أن يدخل تحت تعريف المثقّف، أيّ متّبع عاطفيّ يتعامل مع التّراث والحاضر والإرث الثّقافي والتّاريخي وحتّى العقائديّ، من خلال تعصّبٍ وانتماءٍ أعمى، وعاطفةٍ، لا تترك له المجال للبحث الموضوعي المحايد. إذًا، فإنّ الثقافة في هذا السّياق هي ثورةٌ وتمرّد، وهاجس تغيير، وخروج عن الفكر السّائد، من منطلق التقييّم والإصلاح وليس من منطلق الرّفض المطلق والتّدمير.

فبقدر انفصال المثّقف عن الفكر السّائد والتّراث والتّاريخ، يُنتج اتصالاً، نقديًّا يحكمه الوعي والاستفادة والإفادة، ويتجّه في طريق التّغيير للأفضل، فليس هناك أيّ فكر أو حالة إنسانيّة غير قابلة للتّغيير والعلوّ في سلّم المصافات، ويبدأ هذا التّغيير بالفكر النّقدي الذي يحرّك المياه الرّاكدة في الوعي العامّ.

ومن شروط الثّقافة أيضًا الاتصالُ العضويّ بالهمّ العامّ، الذي لا يهمل الدّوائر الضّيّقة، كالحالة الاجتماعية أو السّياسيّة أو الوطنيّة والقومية التي تشكّل هويّة المثقّف، شرط ألاّ تصبح هذه الاهتمامات قفصًا يحول دون انطلاق المثّقف إلى فضائه الأعلى، أي الهمّ والفكر الإنسانيّ والكونيّ العالميّ. فالمثقّف الحقيقيّ الذي يعيش فقط في الحالات العامّة، يحوّل ثقافته إلى رفاهيّة، والمثّقف الّذي لا يأبه سوى للدّوائر الأضيق، يتخلّى عن شرطه الإنسانيّ، لذلك عليه أن يوازن بين اهتماماته وإنتاجه الثّقافي.

والإنتاج الثّقافي هو كلّ ما يُنتج من فلسفةٍ وفكر وأدب وشعر، ومقال، ودراسةٍ وبحث، ونقد، وتحليل، وإعداد وتوثيق، ويشمل بالطَّبع الفنونَ جميعها.

لذلك فمن الضّروري أن تكون المعرفة المتنوّعة جزءًا من مكوّنات ذهنيّة المثّقف. فلا يستطيع الصّاعد إلى المعراج الثّقافيّ، أن يكون محدود المعرفة المندرجة في مجالات محدّدة، بل عليه أن يغرف من مجالات عديدة ومتنوّعة، تنويعًا على تخصّصه المعرفيّ، كي يشكّل إمكانيَّة الوعي المنتج للثّقافة الحقيقيَّة.

ومن شروط المثقّف، التحلّي بالشّجاعة الفكرية، وجرأة الطّرح، لذلك فإنّ (المثقفّين) المتقيّدين بالاعتبارات الاجتماعية والسّياسيّة والعقائديّة، لا يقدّمون شيئًا حقيقيًّا، سوى ما يخدم اعتباراتهم ومصالحهم الخاصّة.

وتكمن المشكلة والأزمة الكبرى في المجتمعات العربيّة، بشكل خاصّ، أنّ العامّة بشكل عام، لم تصل بعد إلى أوّل درجة في سلّم الثّقافة، أي استهلاك المعرفة، ولذلك نرى أنّ العالم العربيّ برمتّه يقع سريعًا في فخِّ المؤامرات الّتي تُرسم له، ويساهم العرب أنفسهم في تنفيذ هذه المؤامرات من منطلقات الجهل وانعدام الوعي، وعلى ضوء هذه الحالة اشتعلت نيران الفتن الطّائفية والدينيّة والسّياسية والإقليميَّة، لتفتّت دولاً برمتها، كالعراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرهم.

والأزمة الأخرى في الثقافة العربية، الرّفض الذي يواجهه المثّقف الباحث عن الحقيقة، إمّا من منطلق التعصّب الدّينيّ والمذهبيّ أو السّياسيّ الضيّق. ومساهمة المؤسسات الدينيّة والسّياسيّة في ترسيخ الفكر السّائد لخدمة وجودها ورأس مالها ونفوذها وسيطرتها.

ومن أزمات الثّقافة العربيّة، تواطؤ الإعلام، وركاكة بعضه، ممّا ساهم في إفساد الذّوق العامّ، وساهم في تسطيح الوعي وتجريفه.

ولكنّ القراءات التّاريخيَّة تُبقي أمامنا أمل التّغيير، ونستبشر ببداياته التي نلاحظ.. البروقَ الأولى في سمائها المحمّلة بمطر القادم الأفضل.

مَجد العالِم في كراريسِه..

بقلم: جمال فخري الجشي (شاعر من فلسطين)

يقول الزَّمَخشري (٥٣٨ هـ.) في كتابه “نوابغ الكلم”: “مَجدُ التَّاجر في كِيْسِه، ومَجد العالِم في كَراريسِهِ”.

لا نعرف على وجه الدِّقة متى بدأت صفة “مُثقَّف”، تُطلق على أصحاب الفِكر والمُبدعين والمُتمكِّنين من الآداب والعُلوم والفُنون، فالصّفات مثل مُثقَّف ومُفكِّر ومُبدع وغيرها لم نعرفها إلاّ في الدِّراسات الحديثة التي تناولت فكر وحياة أهل العلم والأدب والفنون على مدى العصور المختلفة، ولعلَّ استعمالها في اللغة العربية قد انتشر نوعًا ما نتيجة المُثاقفة والتَّرجمة عن اللغة الإنجليزيَّة.

لو بحثنا عن أصل الكلمة في اللغة العربية نجد أن الجَذر اللُّغوي لكلمة مُثقَّف هي ثَقَفَ الرُّمح؛ أي صار حاذقًا وخَفيفًا، وكانوا قديمًا يقولون: الرجل الثَقِفُ من كان راميًا ماهرًا بيدٍ خَفيفة وعينٍ حاذِقة، لا يخيب إذا رمى ويُصيب، ويقول “ابن مَنظور” في معجم “لسان العرب”: “ثَقُفَ الرجلُ ثَقافةً أي صار حاذِقًا خفيفًا وماهِرا”.

والمُثَقَّف كما ورَد في بعض معاجم اللغة العربية: اسم مفعول من ثقَّفَ، وثَقَّف الوَلدَ أي هذّبه وعلَّمه، فهو مثقّفٌ وهي مثقّفةٌ، ويُقال رَجلٌ مُثَقَّفٌ أي ذو ثقافة، مُتَعَلِّمٌ، ومَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْمَعَارِفِ، والنُّخبةُ المُثقَّفةُ هي نُخْبَةٌ مِنْ أَهْلِ الفِكْرِ وَالثَّقَافَةِ، والتّثْقيف الذّاتيّ هو اعتماد المَرء على نَفسهِ في اكتساب ثقافَته خِلافَ من يتثقّف على أساتِذَة أو في مَدرسة، أمَّا الثًّقافة: فهي العلومُ والمعارفُ والفنون التي يُطلب الحذق فيها.

من خلال ما تقدَّم، فلا بدَّ لنا من معرفة المُثقَّف الحقيقي وتمييزه عن غيره ممَّن يدَّعون الثقافة والمعرفة، فالشخص المثقف هو الّذي تلقّى قدرًا من التَّعليم، وهناك من يربط ثقافة الشخص بالأفكار، أي أنَّ المُثقَّف هو الشخص القادر على التَّعامل مع الأفكار التي أنتجها الأدباء والفلاسفة والمؤرخون القدامى وغيرهم، وعلى إنتاج الأفكار الجديدة.

ويُطلق المثقف غالبًا على شخص لديه وعيٌ ومسؤولية اجتماعية، وتفكير نقدي لحالة مجتمعه، وطرح حلول للمسائل من خلال حصيلته الثقافية الواسعة في شتى الآداب والفنون والمعرفة، أي هو الذي يبذل الجهد لتطوير المُجتمع من حوله من خلال قراءة التاريخ والدين والعادات والتقاليد، والتبصُّر في حال الأمَّة، وهو الإنسان المتواضع السَّاعي إلى الناس بلا تردُّد، ويحمل رسالة سامية، ويمتاز بمرونة رأيه، وتقبُّله للنَّقد، وباستعداده لتلقِّي الأفكار الجديدة والتأمُّل فيها، ولا يبخل بعلمه ومعلوماته على غيره من أفراد المجتمع، ومناصرًا للحق والحقيقة مُنافحًا عنهما.

ولكي نفهم دور المثقفين في المُجتمع، علينا أن نفهم ما يَفعلونه، وليس ما يَزعمون أو يعتقدون أنَّهم يفعلونه.

يقول الدكتور “نديم البيطار” – مفكِّر لبناني (1924 – 2014) – واصفًا وضعيَّة المثقف الحقيقي: “الميزة الأساسية التي تميّز المثقف الحقيقي، ليست الشهادات الجامعية العليا، ليست الدكتوراه، وليست حتى عدد الكتب التي يكون قد قرأها، بل هي استيعابه وتمثّله، وليس فقط إدراكه للعقل العلمي، الذي يعني في أبسط معانيه استخدام العقل لاتِّخاذ قرارٍ بشأن كيفيَّة التصرُّف، وقدرته بالتالي على ممارسته في المشاكل التي يدرسها ويعالجها، وفي الحوار أو النِّقاش الذي يدخل فيه. إنَّها القدرة على الموضوعيَّة العلميّة والعقلانيّة العلميّة والعقل النقدي في استيعاب المعرفة، لهذا كان من السَّهل على المتعلِّم أو المثقف بأن يكون نصف مثقف على أن يكون مثقفًا حقيقيًّا، لأنَّ النصف الآخر لا يتوفّر عن طريق القراءة، أو الشَّهادات الجامعيَّة أو المعرفة فقط، بل بإدراك طبيعة المعرفة الحقيقيَّة”.

ختامًا، لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ المفاهيم الثقافية قد اختلطت في عصرنا الحالي، خاصة بعد انتشار “السوشيال ميديا” ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، حيث ظهرت إلى السَّطح شخصياتٌ ساذجة من الفنانين والأدباء والعلماء وغيرهم ممَّن يحملون الأفكار والمعتقدات الخاطئة ويلتقطون كلامهم وأفكارهم من هنا وهناك دون تمحيص وتدقيق، ويعملون على نقلها إلى الجمهور من خلال تقديمهم على المواقع الإعلامية المختلفة على أنَّهم من النُّخبة الثقافيَّة والمؤثِّرة في المجتمع، لذا على المتلقي أن يكون حذرًا في متابعة مثل هذه النُّخبة أو التأثُّر بأفكار أصحابها، وعليه التأكُّد من صحة أقوالهم قبل تصديقها.

المثقَّف.. كلمة في ظاهرها الاتّفاق وفي باطنها الاختلاف

بقلم: صقر البعيني (كاتب ومُمثِّل من لبنان)

تُعتبرُ لغتنا العربية من أهم اللغات العالميّة مكانةً واستخدامًا لما تحويهِ من المعاني الغنيّة، وكذلك من عدد الكلمات فيها. فهنالك العديد من المصطلحات في هذه اللغة نعتقدُ بأنَّ الكثيرين يعرفونها، لأنّها باعتقادهم بديهيّة، ولكننا نُفاجأ بأنَّ معظم تلك المصطلحات فُهِمت بطريقةٍ خاطئة، ونستطيعُ أن نعرف ذلك من خلال تصرّفات الأشخاص الذين يدّعون بأنّهم يعرفونها، وأكثر، ويقولون بأنّهم هم أربابها.

لعلَّ أهمّ هذه المصطلحات هو مصطلح “مثقّف”. هذا المصطلح البسيط في تفسيره والعميق جدًّا في معناه، فعلى من نُطلقُ هذا المصطلح؟ بمعنى آخر: مَن هو المثقف؟

التَّعريف الشائع للثقافة هو أنّها “مجموعة من المعارف المكتسبة بمرور الوقت”. هذا التَّعريف يحمل في طيّاته الكثير من العمق، ولِكَي نُطلق صفة مثقّف على أيّ شخص يجب أن يكون محصِّلاً مجموعة معارف مكتسبة، أي يجب ألاّ يعتمد فقط على ما تلقَّاه من علومٍ خلال حياته، لا بل على كمٍّ من معارف يكتسبها من مجتمعه وعلاقاته الاجتماعيّة.

فللمجتمع الصغير، أي العائلة، تأثيرٌ كبير في جعل الشخص مثقّفًا، من خلال التربية السليمة على حبّ المعرفة وأن يكون الشخص متواضعًا كي يكتسب المعرفةَ أكثر فأكثر، لأنّه وكما يقول المثل الشعبي اللبنانيّ “الأرض الواطية تشرب ماءها وماء غيرها”. يأتي بعد المجتمع الصغير، المجتمع الكبير الذي له الدَّور الرئيس في صقل الشخص ثقافيًّا، من كافة النواحي الاجتماعيّة، الدينيّة، السياسيّة والعلميّة.

لكن وللأسف الشديد فإنَّ مفهوم “الشخص المثقف” أصبح شائعًا بأنَّ الشخص المتعلِّم هو الذي يكون مثقفًا، فنجدُ بأنَّ بعض حاملي الشهادات العليا يتكبّرون على غير المتعلِّمين أو الذين يحملون شهادات علميّة متوسِّطة، ويعتبرون أنفسهم العارفين بكل شاردة وواردة غير آبهين لثقافة غيرهم التي تتخطّى مستواهم العلمي. فالثقافة في الدرجة الأولى هي معرفة التصرّف في المجتمعات، مجاراة الصغير قبل الكبير في أفكاره، وقبول الرأي الآخر أو محاولة تغيير موقف ذلك الآخر في حال كانت فكرته غير صائبة، والثقافة هي معرفة الشيء وليس الادِّعاء بمعرفة كلِّ شيء.

ناهيكم عن الأشخاص الذين يتبوَّؤون مناصب عالية سواء كانت عسكريّة أو سياسيّة أو علميّة، ويبدؤون بالتَّنظير والتكلّم أمام الحضور، سواء في احتفالات عامة أو خاصة، وكأنّهم أهل الثقافة فقط.

فالكثيرون يخلطون بين التعلُّم والثقافة، فالعِلمُ مهمٌّ جدًّا في توسيع آفاق وقدرات الشخص المتعلِّم، ولكن هذا ليس بشرطٍ بديهيّ كي نقول بأنَّ كل متعلِّم هو مثقَّف.

كذلك نحن لا يُمكن أن نغفل عن كبارنا الذين يُعتبرون مدرسة في الثقافة، ليس لدرجة عِلمهم، ولكن بسبب خبرتهم في الحياة، إذ نجدهم أخبر منّا في كثيرٍ من الأحيان في أمور كثيرة نكون نحن المتعلّمين غافلين عنها، أو ربّما نتصرّف بطريقة تنمُّ عن قلّة الخبرة في الحياة.

سأعطي مثالًا، لعدم علاقة العِلم بالثقافة، فعلى صعيد الإعلام، نجدُ بأنَّ الكثير من الإعلاميّات والإعلاميّين لديهم درجة عالية من العِلم، ولكن ليس لديهم الثقافة الكافية. على سبيل المثال، عندما كانت هنالك دورة رياضيّة في لعبة كرة القدم، وهي دورة عربيّة محصورة فقط في الدول العربية، فيقوم مقدّم أحد البرامج الرياضيّة بتقديم حفل الافتتاح وتسلّم مهمة استقبال مدرّبي الفرق الرياضيّة المشاركة، ولدى استقباله مدرّب الفريق الموريتاني، سأله عن موريتانيا وكيف هي مشاركة في دورة عربية، فأجابه المدرّب بأنّ موريتانيا دولة عربية، وأضاف المقدّم بغباءٍ واضح مستغربًا كيف يكون المدرب من موريتانيا ويتكلّم اللغة العربية! أيجوز أن يكون مقدِّم الحفل أو برنامج بهذه الحماقة؟! أين إدارة المحطَّة التي لم تعاقب ذلك المقدِّم على فِعلته؟

أو كذلكَ مقدّمة برنامج “ثقافي” على محطةٍ عربية مرموقة إذ تقول بأنَّ هنالكَ صوتاً غنائيّاً صيفيًّا وآخر شتويّاً! أيُعقل هذا؟! كيف قبلت إدارة المحطة بتلك المقدّمة، ألم يُخضعوها لامتحانٍ ثقافي؟ وهنالك العديد من الأمثلة على أنّنا لا يُمكننا أن نلقِّب أحد الأشخاص بالمثقّف إلاَّ إذا كان فِعلًا يستحق هذا اللقب.

فمهما وصل الإنسان إلى درجة عالية من العِلم وليس لديه خبرة في الحياة، لا يُمكن أن نُطلق عليه لقب مثقّف.

المثقَّف العربي.. في ثقافات متدفِّقة من الإنترنت!

بقلم: علي القيسي (كاتب من الأردن)

للثقافة تعريفاتٌ كثيرة وفيها آراء عديدة، والمثقف هو الشخص الذي ينهل من العلوم الحياتيَّة والإنسانيَّة الكثير الكثير والتجارب الشخصية أيضًا.. ثقافةً للمثقف ومنها يتعلَّم ويُعلِّم ويتجاوز عن الأخطاء السابقة..

فالثقافة هي كل شيءٍ نتعلَّمه كل يوم نقرأه ونكتبه، وكلَّما قرأنا كثيرًا تعلَّمنا وتثقَّفنا وصرنا أفضل. وأجمل ما في الثقافة أن تنعكس على تصرُّفاتنا وسلوكيَّاتنا وتهذِّب نفوسنا.. لا يجوز للمثقف أن يتكلم بالثقافة ويتصرف مع الناس بأسلوب الجهل والتخلُّف وسوء الخُلق.

أشاهدُ بعض المثقفين والكتَّاب والشعراء، عندنا في “الأردن”، يتصرَّفون عكس ما هم عليه من صفات وألقاب الكاتب الكبير والشاعر الكبير، والمثقف المتميِّز، حيث تجد معاملتهم مع الآخرين سيِّئة وغير سليمة. تجد ألفاظهم بذيئة وسلوكهم مشين، ومنهم من ينتمي إلى فلسلفات غربيَّة علمانية، متأثِّرين بفلاسفة ملحدين يشكِّكون في الأخلاق والفضائل والأديان!

بقي القول أنَّ الثقافة تعني التوسُّع والتعمُّق في علوم الحياة الأدبية والفكرية والسياسية والاجتماعية والجغرافية والتاريخية والتراثية والدينية..  وكل شيءٍ يخدم الإنسانية، ولا يعني الإبحار في هذه العلوم وإنَّما الإلمام وقراءة ما تيسَّر من هذه العلوم.

وأفضل أنواع الثقافة انسجامها مع المعاملة والسلوك وعمل الخير والارتقاء عن صغائر الأمور وتوافهها، واستخدام العقل والمنطق، وهي تعني أيضًا المعرفة، فالشعوب المثقَّفة هي الشعوب الأكثر فهمًا للحياة، ومواجهة العراقيل وتذليل الصِّعاب.

إنَّ الجواب عن سؤال: من هو المثقف؟ يأخذ الكثير من المساحة والردّ والوقت، فهناك أكثر من جواب، وكلُّ جواب يأخذ أشكالاً مختلفة من الأفكار والآراء.. الثقافة حياة وسلوك ومعرفة ووعي وتعامل. فلا تقتصر الثقافة على المعرفة، أو على بثِّ الكلمات الأجنبيَّة في سِياق الحديث باللغة العربية.. هناك فضاءات للمعنى، وهناك مفردات ينبغي أن تكون مطابقة في الشكل والمعنى، ليس كل ثقافة تُعتبر “ثقافة”، وليس كل معرفة تكون مفيدة وصالحة لمجتمعنا العربي والإسلامي. فمثلاً، ثمَّة الثورة التكنولوجيّة والرقميّة، هذه الثورة اجتاحت مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وبسرعة أصبحنا “عبيدًا” لهذه الثورة الرقميَّة والتي جاءت من العالم الغربي.. وهذه الثورة الرقمية والإلكترونية ووسائل التواصل والفيسبوك والفروع الممتدَّة من عوالم الإنترنت.. هذه المنظومة سلاح ذو حدَّين، منها النَّافع ومنها الفاسد، ولا ينكر أحدٌ مدى خطورة هذه الثقافات على الناس وخاصة الأجيال، والتحكُّم في هذه الثقافة صعب جدًّا، مهما بلغ التَّشفير والحجر من ذكاءٍ وحرص، لأنَّ العالم صار مفتوحًا على بعضه بعضًا، والفضاء الأزرق متاحٌ لكل من يملك هاتفًا خلويًّا.. فالصغير والكبير بات لديه هاتف مستقلٌّ، ويستطيع مشاهدة كل شيء تقع عينه عليه، وهذا الأمر يحيِّد دور الأهل ومراقبتهم المشروعة على أولادهم..

وفي المقابل هناك منافع كثيرة للبحث عن المعلومات، والنت هو عبارة عن بنك كبير للمعلومات في كل مجالات الحياة، تاريخيًّا وحضاريًّا وتراثيًّا.. معلومات اقتصادية وعلميَّة ودينيَّة وجغرافيَّة.. كل ما يخطر وما لا يخطر على البال موجود في بنك المعلومات “النت”، وهذا يعود على الشخص ومدى اهتمامه وأخلاقه في اختيار ما يناسبه من العلم والمعرفة والثقافة..

لا شكَّ، هناك ثقافة واسعة في وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن في المقابل هناك تفاهة وإسفاف.. هناك أشخاص مهمَّتهم القرصنةَ والإزعاج وسوء النيَّة، والابتزاز والسرقة الماديَّة والأدبية، وهذا معلوم ولا شك فيه، فالدول تقوم بحماية المواطنين من خلال قوانين وأنظمة تحمي الناس من هؤلاء الخارجين عن القوانين والأخلاق وتلاحقهم ثم تعاقبهم..

ولعلَّ الحديث عن موضوع الثقافة يطرح الكثير من الأسئلة، فنحن نعيش في عالم متغيِّر ويتطوَّر كل فترة، ونحن نواكب هذا العالم لأنَّنا جزء منه، ولا يمكن أن نعيش في عُزلة، وهذا يُعتبر تحدِّيًا لنا في الشرق، فالعربي الشرقي له عادات وتقاليد ثابتة، وله ثقافات اكتسبها وتربَّى عليها من تراثه وبيئته العربية، ومن التراث الديني الإسلامي والقرآن الكريم والرسالة المحمدية السنيَّة، فنحن العرب نتعرَّض إلى هجمات غربيَّة وتبشيريَّة منذ عدة قرون، وخاصة في هذا القرن الحادي والعشرين..

فعلينا الوعي والحذر من الثقافات السلبيَّة التي تدعو إلى تغيير عاداتنا وتقاليدنا والابتعاد عن ديننا الحنيف، وخصوصًا تربية الأبناء والبنات.. وما يشاهده الأطفال من فيديوهات وصور وكلام لا يناسب أعمارهم.. هناك أزمة أخلاق في المجتمعات العربية من جرَّاء وسائل التواصل، خاصة الإناث في الظُّهور والأضواء والإثارة في المظهر وتقاليد نجمات السينما والتلفزيون والممثِّلات والمشاهير، وهذا خروج عن القيم والأخلاق العربية والأسر المحافظة..

وأخيرًا أرجو للجميع السلامة والخير والفلاح، في تحديد معاني الثقافة والمعرفة فكريًّا وسلوكيًّا، والله من وراء القصد..

مصطلحٌ زئبقيٌّ..

بقلم: سامر المعاني (كاتب من الأردن)

تطوَّر مفهوم المثقف عبر العصور بصورته الجمعيَّة والفرديّة وعلى المجموعات والأفراد، وبات هذا المصطلح زئبقيًّا لا يحمل تعريفًا أو معايير ثابتة يعود تقييمها على السلوك والفكر والتعليم والمخرجات التي تنعكس على المجتمع والفرد، وتصبح مرآة له، تنطلق من الدين والعادات والتَّقاليد وشكل البيئة المكانيَّة، والتَّأقلم مع المتغيِّرات العصريَّة.

برأيي، أجد أنَّ المثقف واسع المعرفة والاطّلاع، ليس فقط هو من يشِّكل مجتمعًا وإنسانًا مثقفًا قادرًا، على أن يكون مؤثِّرًا وناصحًا ومرشدًا.. ولا حتى العالم والمكتشف والمعلِّم، لأنَّ وسائل التواصل والتَّأثير تغيَّرت وتنوَّعت في كل مجالات الحياة.. وقد أصبح كلُّ فردٍ على اطلاع ودراية بكل الأحداث والأفكار والمعتقدات وبأسهل وأقصر الطرق، حيث غزارة المعلومات وتنوُّع الأساليب في الطَّرح والتَّلقين والتَّأثير وعليه.. فإنَّ المثقف يجب أن يتَّسم بصفات قادرة أن تجعله فردًا مقبولاً مرنًا على دراية ومعرفة كافية بالأحداث ووسائل القوة في بناء فكر ناضج يمتلك الحجة والحكمة معًا، ويراعي كيفيَّة تطبيق الواقع وما يحتاجه الفرد والمجتمع لتحقيق الأهداف.. وقوام بيئة تحمل قيمها الدينيَّة والفكريَّة دون الإقصاء والتبعيَّة، في ظل سيطرة العالم المادي وقوة السلاح وقوة الإعلام.

إنَّ الفرد الذي يقف عند القراءة الجادَّة والتَّحليل واكتساب المعرفة والعلوم.. يجب أن يكون قادرًا في الوقت المعاصر على التَّعامل مع التكنولوجيا، وما يحيط به من مؤثِّرات، ليكون قادرًا على التَّأثير، وقويًّا بالطَّرح، ومتماشيًا مع الواقع، ومنعكسًا على سلوكه العملي.

من هنا يكون مصطلح “المثقف” مصطلحًا واسعًا فهو من يحترم ويقدِّر ثوابته الدينية والحضارية، والمُلمُّ بما يدور من حوله ومستوعبًا التطوُّرَ والتَّغييرات المجتمعيَّة والكونيَّة، عارفًا وعالمًا وملمًّا، ويستدرك الأخطار والمؤامرات، ويجيد التَّأثير والتَّنوير وحتى طرق التغيير التي تعيق حركة التطوُّر والنهوض بالمجتمعات من فتنٍ وشِلَلية وضعف إرادة وتبعية وطائفية..  ضمن تحدِّيات كبيرة جدًّا بلغة المال والقوة والإعلام المُوجَّه.

لا بدَّ للمثقف أن يعيد دوره كمؤسِّسٍ وبانٍ للمجتمع والحضارات الإنسانية بعد تهميش وغياب دوره حين سيطر رأس المال على جميع مفاصل الحياة ومراكز صنع القرار.. وبدلاً من أن يكون المثقف والعالِم هو المرجعيَّة ورأس المَشورة والمفكِّر في التَّعامل مع الأحداث.. وباني الأفراد والمجتمعات، أصبح محارِبًا ومهمَّشًا، وسيطر أصحاب رؤوس الأموال – رغم أهميتهم – على كل مفاصل الحياة، لتجد أنَّ المثقف غير قادر على وصول صوته ومحاولة غمسه بروتين الحياة والفقر ليكون النُّقطة الأضعف وغير المؤثِّر.

ومن الجانب الإيجابي، لربما التكنولوجيا تساوي بين الجميع، ويجد المثقف الواعي طُرقًا متعدِّدةً.. ليصل فكره وحَرفه إلى شريحة كبيرة..  يبعث الإيجابية وينهض بالأخرين.

تحريض المثقف!

بقلم: رافع بندر (شاعر من العراق)

الخوض في مفهوم المثقف يحتاج إلى مجملِ اعتباراتٍ إنسانيّة تصبُّ في فهم الواقع الاجتماعي الذي ينظر إليه المثقف بعينِ مبدعٍ لا بأنفِ رقيب.. بوصفه القارئ النَّهم والعقل المُفعم بالحيويَّة والذي يشكِّل حلقة الوصل بين ما يحمل من مفاهيم اعتباريَّة وإنسانيَّة وما يحيط به من مساحات الحزن التي تهيمن على مجتمعه… غالبًا ما يكون مجتمعًا مضطربًا. شرائح متنوعة متمسكة بمبادئ تؤمن بها حدَّ التَّقديس وتتصرف بسلوكيات تتقاطع مع ما يطمح له العارف بمكنونات الحياة …

ويتمحور دور المثقف في إصلاح الاعوجاج النَّاتج عن هذه المجتمعات والتي تسبِّب غالبًا إحراجات تصل إلى حدِّ العزلة الاجتماعية، ورغم كل هذه الإرهاصات..

إلاَّ أنَّه – وأقصد المثقف – يقوم بتحرُّكات من شأنها إحداث حراكٍ بين مجموعة من الناس الذين يحيطون به، إلى أن تتوسَّع هذه المجموعة لتصل بعد ذلك إلى حزمة من الأشخاص يتأثَّرون بمبادئ وأفكار جديدة يحثُّها أسلوبه المعرفي الذي يستشرف المستقبل وما يحمل من توقعات تكاد تكون خطرة يُشعِر بها أبناء جلدته. هذا الدّور الحقيقي الذي يُناط به. فلا يجوز للمثقف أن يمرَّ على جثَّة ضحايا التعسُّف الاجتماعي وهو واضعٌ يديه في جيبه وكأنَّه شخص خارج نطاق هذا الكون الذي يحيط به.. نائيًّا بنفسه عن كل ما تقع عليه عينه من ظلم.

فكيف للشَّاعر أو الرِّوائي أو أستاذ الجامعة الذي يكتب عن الأزهار والنِّساء العاريات والهدايا بكل رومانسيّة.. أن يتناسى بأنَّه غاطسٌ في وحلٍ من دماء شعبه.. كيف يكون مثقفًا!  كيف لمثل هذه النَّماذج من الأدعياء أن نطلق عليها صفة “مثقف”؟

ويسرد لنا التأريخ نماذج رائعة من أدباء ومفكِّرين وضعوا أرواحهم رهن فوهات البنادق، وسحقتهم دبَّابات الفكر المتطرِّف، وهم يبتسمون ساخرين من هذا الألم المفجع.. “سقراط” العظيم أُعدِم بسائل التيزاب، نصحه طُلاَّبه بتقديم العفو، إلاَّ أنَّه رفض ذلك.. أُعدِم بسبب آرائه التي اقضت الناس. “غاليليو” الذي حكمت علية المحكمة بالإعدام بسبب اكتشافاته التي تتقاطع مع الكنيسة.. “الحسن ابن الهيثم” تمَّ سجنه في “القاهرة” بسبب إضاعة وقت الخليفة… و”ابن رشد” الذي أمر الحاكم بإحراق جميع كتبه ثم سجنه.. “ابن المقفع” حُكم عليه بالإعدام بسبب آرائه التي تخدم أبناء جلدته.

أسوق هذه النَّماذج طيِّبة الذِّكر، لأنَّهم كانوا سببًا في كشف عقول الناس قبل عيونهم، كانوا شمسًا في ظلمات القحط الذِّهني.. نحن إذ نوقد هذا الشُّعور، إنَّما نحرِّض الأدباءَ والمفكِّرين والفلاسفة لخوض غمار التحرُّر، والغوص في جراح بلدانهم قبل التأمُّل في مفاهيم العولمة التي جعلتنا مهزومين بلا شعور إنساني!

كيف تكون مُثقَّفًا؟

بقلم: باسم الصروان (شاعر وروائي من الأردن)

بدون تقدمة ولندخل في صلب الموضوع: من هو المثقف؟ ومن خلال السَّرد والتَّحليل سوف يتمَّ تعريف “المثقف”. إذًا ماذا نعني بالمثقف؟ هل هو المتعلِّم الحامل لشهادة علميّة؟ هل هو الأكاديميّ؟ هل هو رجل السلطة؟ أم الموظف عالي الرُّتبة؟ هل هو رجل الأعمال؟ أم هو الأديب أو الشاعر أو الفنان أو المسرحيّ؟

عندما نقف عند الحقيقة العلميَّة لهذه المفاهيم موضوع الأسئلة سوف نجد أنفسنا أمام حقيقة كبيرة، وعندما نقوم بالتَّفريق بين المثقف والمتعلِّم، وبناءً عليه فالمتعلِّم قد يكون مثقفًا وقد لا يكون مثقفًا. والمثقف إمَّا أن يكون متعلِّمًا أو غير متعلِّم، والشيء نفسه نقوله بالنسبة لحاملي الشهادات العلمية مهما كانت درجتها، وإلى رجال السلطة أيضًا، ورجال الأعمال.. ونعتبر أنَّ كل ذلك قد يخدم الثقافة من وجهة نظر معيَّنة إذا كان كل هؤلاء مثقفون فعلاً. وكون الإنسان من عامة الناس من الكادحين لا يمنع أن يكون مثقفًا إن كان يملك مُنتجًا ثقافيًّا.

وعليه، ينبغي على المثقف أن يحمل الصفات التالية:

1 – أن يكون على معرفة بالقيم الإيجابيَّة والسلبيَّة في المجتمع محليًّا، وإقليميًّا، وعالميًّا، حتى يستطيع المساهمة في تقويم المجتمع وتطوير الرؤيا في مختلف مناحي الحياة.

2-  أن يكون متتبِّعًا للحركة الثقافيّة المحليّة والإقليميّة والدوليّة من أجل إغناء فكره الثقافي حتى تزداد حجَّته وتكون معزَّزة، مع الأخذ بعين الاعتبار العادات والتقاليد والأعراف واستيعاب مضامين الدين في مجتمعه.

3 – الاستفادة من التَّجارب الثقافية في حياة الشعوب الأخرى والعلاقات الإنسانية.

وعليه، فالمثقف “وبهذا المفهوم الذي عرضناه” إذا لم يكن على معرفة تامة بالقيم الإيجابية والسلبية معًا، ومتتبِّعًا للحركة الثقافية على المستويين الخاص والعام، ومتشبِّعًا بالقيم الناتجة عن استيعاب المواثيق الدولية المتعلِّقة بالحقوق العامة منها والخاصة، ومستفيدًا من تجارب الشعوب الثقافية المختلفة، لا يكون قادرًا وحتمًا على المساهمة الفاعلة في محاربة القيم الثقافية السلبيَّة، وفي العمل على بناء منظومة القيم الثقافية الإيجابيّة.. أي أنَّه لا يستطيع بناء وعي ثقافيّ متقدّم ومتطوِّر، يخدم عملية التقدُّم الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والسياسيّ والفكريّ، والثقافيّ في الاتجاه الذي يخدم حركة التاريخ الحضاريّ والإنسانيّ معًا.

خلاصة الفكرة، كيف لشخصٍ غير مثقفٍ أن يصبح مثقفًا؟ خيرُ وسيلة لجعلك مثقفًا هي أن تقرأ في كلِّ مجالٍ، ومن الجيِّد أن تبدأ قراءتك بالرِّوايات، ثم تتَّجه إلى عالم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم السياسة ومقارنة الأديان وعالم الشعر والأدب، أو أي مجالٍ آخر تحبُّه سواءً في الرياضة أو الفن التشكيليّ أو المسرح، المهم أن تقرأ.

بعد ذلك يأتي دور التفكُّر والتأمُّل والمناقشة، فهذا يمكنه أن يرفع من مستوى قدراتك العقلية وزيادة ثقافتك. كما أنَّ ممارستك الألعابَ الرياضيِّة، مثل الشطرنج، يمكنها أن توسِّع مداركك وتزيد من ذكائك وقدرتك على تحليل الأمور والنَّظر إليها من زوايا مختلفة.

ثم أحِط نفسك بالنَّاجحين من حولك، فإذا تعذَّر عليك ذلك، واقعيًّا يمكنك التَّفاعل والتَّواصل من خلال اليوتيوب مثلاً، تابع قنوات المثقفين وتواصل معهم، تابع البرامج الثقافية عبر القنوات الفضائية، وغيرها.. قراءة السِّيَر الذاتيَّة لكبار الكتَّاب والعلماء والعظماء وسِيَر الأنبياء والرُّسل.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا