مع الشيخ العلاَّمة “أحمد حمَّاني”.. الحساب الهجري على أساس الرؤية العلميَّة (الجزء الثاني)

المرجعية الدينيَّة الوطنيَّة الجزائرية كانت وما زالت وستبقى صمَّام الأمان، تواجه وتقف في وجه التيَّارات الدينيَّة والفكريَّة الدخيلة عن أصالتنا وموروثنا الإسلامي والمجتمعي، لا سيما في هذا العصر الذي مكَّن فيه التطوُّر التكنولوجي لتلك التيَّارات أن تنفذ إلى فكر ووجدان الإنسان والمجتمع.. وهو ما يُشكِّل تهديدًا آنيًّا أو مستقبليًّا للوحدة الروحيَّة على الخصوص..

وإذ نعيد نشر مقال شيخنا الجليل “أحمد حمَّاني” (1915 – 1996) وهو من أبرز علماء الجزائر وأعلامها، بل هو من أهمّ كبار علماء المالكيَّة في العصر الحديث.. ونقف حول رأيه في قضية أثارت الكثير من الجدل والخلاف، وهو رأيه في الحساب الهجري على أساس الرؤية العلميَّة، وقضيَّة الاضطراب في إثبات دخول الشهور القمريَّة.. فلكي نؤكِّد على عمق المعرفة والاطِّلاع لعلمائنا وسعة علمهم وتبحُّرهم في العلوم الإسلاميَّة عبر العصور، وسداد رأيهم الذي يستند إلى فهمٍ ووعيٍّ واستشراف.. وأيضًا، للتأكيد على واجب التَّمسك بمرجعياتنا الدينيَّة الوطنيَّة وتعزيز ثقتنا في مشايخنا الأجلاَّء من أجل “ترسيخ قيم العقل والتَّسامح والاجتهاد وروح التجديد وقيم السلم والحوار والانفتاح على الغير ونبذ التعصب”.. في إطار موروثها الحضاري، وأصالتها الضَّاربة في عمل التَّاريخ الإسلامي.

وفيما يلي نواصل مع مقال شيخنا الجليل “أحمد حماني” الذي نشرته مجلة “الأصالة الجزائرية” في شهر جانفي 1973، من باب الوفاء لمرجعياتنا الدينيَّة الوطنيَّة وأصالتها واقتدارها في تحمُّل مسؤولياتها ومواجهة ومعالجة القضايا الفقهيَّة التي كانت تعترض الجزائر خاصة والأمة العربيّة والإسلاميَّة عامَّة.. فمثل هذه القضايا كانت وما تزال منفذًا يتسلَّل منه الفكر الديني الوافد إلى أعماق نفسيَّتنا المجتمعية..

الإمام ابن دقيق العيد

صرَّح بجواز العمل بالحساب الفلكي علماءٌ أعلامٌ أمثال: الزَّركشي، وابن السبكي، ولكن أصرحهم قولاً، وأبينهم حجَّةً هو “ابن دقيق العيد” فهذا الإمام من أعظم علماء الحديث والسُّنة والفقه الشافعي، خدم الإسلام خدمات جليلة، قال في شرح “عمدة الأحكام”، بنقل الأستاذ “علال الفاسي”: “والذي أقول به أنَّ الحساب لا يجوز أن يُعتمد عليه في الصَّوم بمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجِّمون من تقدُّم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو يومين، فإنَّ ذلك إحداثٌ لسببٍ لم يشرِّعه الله تعالى.. وأمَّا إذا دلَّ الحساب على أنَّ الهلال قد طلع من الأفق على وجهٍ يُرى لولا وجود المانع كالغيم مثلاً فهذا يقتضي الوجوب، لوجوب السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية بمشروطة في اللزوم لأنَّ الاتِّفاق على أنَّ المحبوس.. إذا عُلم بالحساب بإكمال العدَّة أو بالاجتهاد بأمارات وجَب عليه الصوم وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه”. (الجواب الصحيح – ص 30).

فهذا تصريحٌ واضح بيَّن أنَّ حقيقة الرؤية غير مشروطة في اللُّزوم. وأنَّ الصِّيام واجبُ لوجوب السَّبب الشَّرعي وهو وجود الهلال الممكن رؤيته في الأحوال العادية.. وهذا الفهم الصَّحيح للنُّصوص الشَّرعية والتَّأويل البيِّن الصريح للأحاديث الصحيحة، فَهِمه وصرَّح به أمثال “ابن دقيق العيد” في المتقدِّمين، و”محمد رشيد رضا” و”علال الفاسي” في المتأخِّرين، وأذاعوا ما علموه بغاية البيان.

وبما أنَّ مذهب هؤلاء الثلاثة – في الحقيقة – مذهبٌ واحد، فإنَّنا نذكرُهم مُتتابعين وإن اختلفت أزمانهم. وقد تقدَّم كلام الأول، وهاكم مَذهب الآخرين:

الشيخ محمد رشيد رضا

رفض الشيخ “رشيد رضا” في بحثه الفرقَ بين إثبات أوَّل الرمضانات، والشُّهور بالأهلَّة ورؤيتها، وبين إثبات أوقات الصَّلوات برؤية علامات الفجر والزَّوال، والظِّل والقامة، والغروب للشمس والشَّفق، وجعل غرض الشَّارع في كلِّها معرفتَها وحصول العلم بها لا التعبُّد برؤيتها. وما ذكره صلى الله عليه وسلَّم من نوط إثبات الشَّهر برؤية الهلال أو إكمال العدَّة، علَّله بكون الأمَّة كانت أمِّية في عهده.

ومن مقاصد شريعته إخراجها من الأمِّية لا إبقاؤها فيها، “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” (الجمعة: 2)، وفي معناه دعوة إبراهيم عليه السلام في سورة البقرة “رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (129)،  ويؤخذ من هذا أنَّ لعلم الكتابة والحكمة حِكمًا غير حكم الأمِّية.

ومن مقاصد الشريعة اتِّفاقُ الأمَّة في عبادتها ما أمكن الاتّفاق وسيلةً ومقصدًا، ولا سبيل إلى هذا الاتِّفاق إلاَّ بالعمل بالحساب والمراصد عند ثبوت إفادتها للعلم القطعي بهذه الأوقات التي جرى بها العمل في جميع بلاد الحضارة الإسلامية في الصلاة، و”لو” مع المحافظة على الاستهلال ورؤية الهلال في حال عدم المانع من رؤيته، للجمع بين ظاهر النصَّ والمُراد منه، والصلاة أعمُّ وأعظم من الصَّوم.

فمذهبه صريحٌ في الاعتماد على الحساب واستعماله، وأنَّه المُراد من النصّ. وقد بيَّن كيفيَّة إثبات الشَّهر بالحساب بما يوضح كلام “ابن دقيق العيد”، فقال في كيفيَّة إثبات الشهر بالحساب:

“يثبتون (الحاسبون) وقتَ ولادة الهلال، أي مفارقته للشمس في آخر الشهر بالسَّاعات والدَّقائق، ومنه يُعلم إمكان رؤيته لمُعتدلي البصر أو عدم إمكانها، فإذا كان من الدقَّة بحيث لا يُرى، لا يُثبتون الشهرَ بولادته، وإذا كان بحيث يُرى قطعًا عند انتفاء المانع من غيمٍ أو نحو ذلك، يثبتون الشَّهر. ويُقال: إنَّ الشَّهر ثبت برؤية الهلال حقيقةً أو حُكمًا، فلا يكون إثبات وجوب الصوم بقول الفلكيِّين الحاسبين، بل يوجد الهلال وإنَّما يبيِّنون للناس متى يُرى”.

وكلام الشيخ “محمد رشيد” بيانٌ لكلام “ابن دقيق العيد”، وكلٌّ منهما يرفض أن يعتمد على المنجِّمين القائلين بتقديم الشَّهر بالحساب على الشهر بالرؤية. ولكنه يقبل قولَ الحاسبين والمنجِّمين المفيد للقطع بأنَّ الهلال موجود يتخلَّف مغيبه عن مغيب الشمس، تمكن رؤيته في الأحوال العادية لذوي الأبصار العادية، أو أنَّه يغيب قبلها أو معها أو بعدها بقليل بحيث لا تمكن رؤيته. وفي الحالة الأولى يثبت الشهر، وفي الحالة الثانية لا يثبت.

الشيخ علال الفاسي

وقد ألَّف العلاَّمة الجليل الأستاذ “علال الفاسي” في مسألة طُرق الإثباتات الشرعيَّة للأهلَّة والنظريَّات المختلفة لعلماء المذاهب الإسلامية رسالةً جليلة، أو كتَب فتوى تشرح رأي الشَّريعة الإسلامية وما ينبغي أن يكون العمل بمقتضاه، وعنوانها “الجواب الصَّحيح والنُّصح الخالص عن نازلة فاس وما يتعلَّق بمبدأ الشُّهور الإسلامية العربية”. وقد طُبعت هذه الرسالة التي تمَّ تأليفها في رمضان 1385 هـ. برهن السيد “الفاسي” على علم غزير، وفهمٍ دقيق ورأيٍ صائب، وشجاعة يتحلَّى بها الرَّاسخون. ولمَّا وصل الأستاذ “الفاسي” إلى الجواب عن السؤال: هل يُعمل بالحساب؟ قال:

إنَّ المَشهور في كلٍّ مَذهبٍ هو القول بعدم العمل بالحساب في الصوم والإفطار وغيرهما من المواسم والأعياد، والسَّبب في انتشار القول بذلك أمور:

1- فهمُ الحديث أنَّ المقصود به المنع مطلقًا من الحساب، وإنَّ الرؤية هي الأمارة الشرعيَّة الواحدة حتى لو تبدَّلت الأحوالُ.

2- التخوُّف من الوقوع فيما وقع فيه البابليُّون وقدماء الأمم الذين خالطوا التَّنجيم، والخلط بين عبادة النُّجوم والسِّحر بها، وبين استعمال الحساب والرَّصد لفائدة المعرفة، وتدقيق السِّنين والحساب.

3- كون الأغلبيَّة السَّاحقة في العصور الأولى، بل جميع الأمم فيما قبل العصر العبَّاسي كانت بعيدة عن إتقان الفلكيَّات حتى تستفيد منها، وقد تطوَّرت الأحوال وبقي معظم علمائنا على القول بما قال به الأولون إلاَّ فئة يسيرة ممَّن أعملوا رأيهم من العلماء في كل عصر، ومن بينهم العلاَّمة “ابن دقيق العيد”.. ومن بينهم الشيخ الأكبر “محيي الدين بن عربي الحاتمي”..

ثم ذكَر الأستاذ “الفاسي” بعض القائلين بالحساب: مطرف، والشافعي في إحدى المنقولات عنه، ومحمد بن مقاتل الرازي، وبعض المالكيَّة، وابن طاووس من الإمامية وجماعة منهم، والعاملي، وابن الحديد، وابن أبي الحديد، ومن المتأخِّرين: الشيخ أحمد شاكر، والشيخ أحمد بن الصديق الغماري من المغاربة.. والظَّاهر أنَّه لم يطَّلع على بحث الشيخ “رشيد رضا”.

ثم بيَّن الأستاذ “الفاسي” رأيه الخاص فقال: والذي أعتقده أنَّ الحديث – أنَّا أمَّة أمِّية لا تقرأ ولا تحسب – خرَج مخرج الكلام المُعلَّل، وهو أنَّ العرب، بل الذين كانوا في عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) من أممِ العالم لم يكونوا على درجة من العلم، يجعل نتائج حساباتهم قطعيَّة، بل كانت مقدِّمات الحساب الفلكي لإثبات الشهر قبل الإسلام وإلى حياة النبي (ص) ظنيَّة غير مُتقنة الإنتاج كما تدلُّ على ذلك بقايا نصوص الفلكيين القديمة.

أمَّا اليوم، فقد تطوَّرت حال معرفة المسلمين للفلك، ومنذ العصر العبَّاسي وعلماؤنا يتعاطون هذا الفن. وانضمَّت إليه الدِّراسات العصرية، فلم يعد من المُمكن القول بأنَّ النتائج الحسابيَّة ظنيَّة بل هي قطعية بقدر ما تكون. الرياضيات قطعيَّة. وعليه، فما دام الحُكم قد خرج مُعلَّلاً، وما دامت العِلّة قد انتفَت، أي أنَّنا لم نعد أمَّة أمِّية بل أصبحنا نقرأ ونحسب، فقد أرشدنا الحديث إلى العمل بالحساب طبقًا للقاعدة الأصولية التي تقول: العلّة تدور مع المَعلول وجودًا وعدمًا. ولا عبرة بادِّعاء أنَّ الحُكم يبقى مستمرًّا حتى بعد تغيير الأحوال، لأنَّه لا دليل عليه. وأيضًا فإنّه (ص) قال في حديث: “فإن غمَّ عليكم فاقدروا له”، وقد فسَّره الشُّراح بمعنى خذوا له التقدير الحسابي، وقال عليه السلام في الرواية الأخرى: “فأكملوا العدَّة ثلاثين”، فجمع (ص) بين حالِ من يعرف الحساب وحال من لا يعرف. فالأمَّة في حال قصورها العلمي تعتمد الرؤيةَ المحضة تسهيلاً على الناس، فإذا كانوا قد تعلَّموا وأصبح في مقدور المتخصِّصين منهم أن يهيِّئوا لهم وسائل التقدير الحسابي، فعليهم أن يعملوا بالحساب في الصوم كما عملوا به في الصلاة تحقيقًا لقوله تعالى: “وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ” (يس: 39)، “هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ” (يونس: 5).

نعم يجب أن نحقِّق المناط طبقًا لما فعله العلاَّمة “ابن دقيق العيد”، فنقول: إنَّ الحساب الذي نعتمده هو الذي يدلُّ على أنَّ الهلال قد طلع من الأفق على وجهٍ يُرى لولا وجود المانع مثلاً، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السَّبب الشرعي، ولا تُعتبر حقيقة الرؤية مشروطة.

أمَّا الحساب بمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجِّمون من تقدُّم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو يومين، فهذا ما لا أقول به لأنَّه إحداثٌ لسببٍ شرعي لم يشرِّعه الله، فأنا مُتّفق تمامًا مع رأى الأمام “ابن دقيق العيد” رحمه الله.

وهذا الذي اتَّفق عليه رأي هؤلاء العلماء الثلاثة هو الذي أخذت به لجنة الفتوى واعتمدته وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية (الجزائريَّة) في قرارها.

أثناء القرن الماضي

وقد يظن أنَّ القول بالحساب الفلكي في إثبات الصوم والإفطار والعمل به فعلاً – لا قولاً فقط – من مبتكرات هذا العصر. ولكن الصحيح أنَّ في علماء المسلمين من كان يعتقده ويعمل به، ويعلنه ولا يُسرِّه، ويقلد فيه من خواصِّه وأصحابه ولا ينكر عليه.

ولقد روى لنا الشيخ “عليش” حادثةَ عالِمٍ شافعي معاصر في سؤال ورد عليه أدرجه في كتابه “فتح العلي المالك، في الفتوى على مذهب الإمام مالك”، وأجاب عنه، ونصُّ السؤال:

“ما قولكم فيما وقع من بعض الشافعية، مشهورًا بالعلم والدِّيانة، من اعتماده في ثبوت رمضان وشوّال على حسابه سَير القمر وعدم اعتباره لرؤية الهلال بالبصر، واتَّفق له مرارًا صومه قبل عموم النَّاس بيومٍ وفطره قبلهم كذلك. ويُظهر ذلك لخواصِّه وأحبابه ويقلِّدونه فيه، وربَّما تعدَّى الأمر لغيرهم فقلَّده أيضًا، وكاد أن يتَّسع هذا الخرق وأهل العلم ساكتون عليه”.

والذي يُلفت النظر ما جاء من وصفه بالعلم والدِّيانة، ومن اعتماده على الحساب وعدم اعتباره الرؤية الهلال، وإنَّه يقلِّد من أحبابه وخواصِّه، وإنَّ أهل العلم ساكتون عنه.

أمَّا الشيخ “عليش” – وهو مالكي غير شافعي – فلم يسكت عنه، بل أثار السؤالُ أعصابَه فاتَّهمه بهدم الدين، وبالجهل المركَّب، وعدم الديانة واختلال العدالة، ودناءة الهمّة، وعدم المروءة. وما كان يُنتظر من الشيخ “عليش” غير ذلك. فقد كفَّر بما هو أهون من هذا، كفَّر “محمد بن على السنوسي”، ورفع العصا على الشيخ “محمد عبده”.. ولكن هذه الوثيقة التي لا يتطرَّق الشكُّ إلى صحَّتها تثبتُ إصرار بعض أهل العلم من الشافعيَّة على القول بالحساب والعمل به لا في خاصة أنفسهم، ولكن لهم ولغيرهم، وكان زملاؤهم ومعاصروهم يرون ذلك منهم ولا ينكِرونه.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا