هل يعتزل القُرَّاء ورقَ الكتاب المطبوع ويعتنقون ضوء الكتاب الرّقمي؟

ابتدأت قصَّة الكتاب مع بداية التَّاريخ عندما عرف الإنسان الكتابة.. وفي كلِّ مرّة كان فيها الإنسان يُجدِّد أدوات الكتابة والوسائط التي يكتب عليها، كان يُحدِث ثورةً في الأفكار وظهور العلوم وانتشارها بين الشُّعوب والأمم.. من الكتابة على ألواح الطين، ثم أوراق البُردي، إلى اكتشاف الورق الذي أحدث أعظم ثورة في التَّاريخ البشري، كان الكتابُ هو عنوان الحضارات الإنسانيَّة.

وقد وصلنا اليوم إلى شكلٍ جديدٍ من حوامل المعرفة والمعلومات، وهو شكل الكتاب الإلكتروني أو الرَّقمي أو الضوئي، فصار انتشار المعرفة والمعلومات أسرع بآلاف المرَّات ممّا كان عليه في عصر الورق، غير أنَّ الكتاب الروقي ظلَّ يحتفظ بمكانته “المقدَّسة” التي استأثر بها عبر قرون طويلةٍ من الزَّمن. وثارت الأسئلة حول مصير الكتاب الورقي في العادات القرائيَّة للمُجتمعات.. هل يستطيع أن يُحافظ على مكانته “المقدَّسة” أم سيكون مرحلة يطويها الزَّمن مثلما طوى مرحلة ألواح الطين وأوراق البُردي؟

كان العرب، في عصرهم الذهبي، يتفاخرون بالمكتبات التي يؤسِّسها الميسورون ويضعونها في خدمة عامّة القرّاء، فقد كان تأسيس مكتبةٍ وإعمار رصيدها بالكتب من أجلِّ الأعمال وأكثر نُبلاً وسموًّا.. وإلى وقت قريبٍ، كان الناس يتفاخرون بمكتبات البيوت وما تضمّه من عناوين وكُتب فاخرة ومجلَّدة وعاديَّة.. بينما لا يُمكن لمن يمتلك مئات آلاف الكتب على جهازه الإلكتروني أن يفاخر بأنًه يمتلك مكتبةً!

وإذا توجَّهنا إلى عالم المؤلِّفين والنَّاشرين اليوم، ففي الغالب، يطبع الكاتبُ ألفَ نسخة من كتابه ورقيًّا، وهو يتوجَّه إلى مجتمعات قرائيَّة عربيَّة تتجاوز مئات الملايين.. فلو تمَّ توزيع كتابه كاملاً، وتمَّ تداول كل نسخة من كتابه بين عشرة قرَّاء، فإنَّ أقصى عددٍ يصل إليه الكتابُ هو عشرة آلاف قارئ.. بينما لو أصدر كتابه رقميًّا، فيمكن وصوله إلى عشرات الآلاف من القرَّاء، لا سيما وأنَّه صار هناك منصَّات لبيع الكتاب الرَّقمي والتَّرويج له..

وقد توجَّهت جريدة “الأيام نيوز”، في هذه السِّياق، إلى نُخبة من الكُتَّاب العرب بهذه التساؤلات: ما هو موقفكم من الكتاب الرَّقمي؟ ولماذا يستمرُّ الانجذاب إلى طباعة الكتاب ورقيًّا رغم انحصار توزيعه وضيق أفق قرائيَّته وقلة مردوده المادي.. وبالضرورة “ضعف” تأثيره؟ وكانت هذه الإجابات التي تطرَّقت إلى جوانب عديدةٍ، منها الجوانب النَّفسية والصحيَّة في المفاضلة بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني.. والقارىء معنيٌّ أيضًا بإبداء رأيه في هذا الموضوع، فهو العنصر الذي يتوجَّه إليه الكِتاب في النهاية.

بين المطبوع والرقميّ.. تكاملٌ لا صراع!

بقلم: صقر البعيني – إعلامي وكاتب وممثل لبناني

برزَت في الآونة الأخيرة، وتحديدًا منذ سنواتٍ خلت، جدليّة هي برأيي عقيمة، ولكن وللأسف الشديد أصبحت هذه الجدليّة ساريةً بين أوساط المجتمع بشكلٍ عام والمثقفين بشكلٍ خاص.

صقر البعيني
صقر البعيني (كاتب ومُمثِّل من لبنان)

فمنذ انتشار الإنترنت، والذي أصبح أهم من خبزنا اليومي، وأصبحت الناس تهتم بقراءة الأخبار والمواضيع كافة عبر الإنترنت، وذلك لاعتبارات كثيرة، أذكر منها سهولة الوصول إلى الخبر دون عناءٍ جسديّ أو كلفةٍ مادية.. وأصبح الموظفون وهم في مكاتبهم يتابعون الأخبار عبر صفحات الإنترنت، كذلك كبار السن أو المتقاعدون وربّات البيوت صار سهلًا عليهم أن يقرؤوا معظم اهتماماتهم من جرائد ومجلات حتى الاطلاع على طبخات جديدة، وهم في منازلهم دون عناء شراء الجرائد أو المجلات أو… الكتب.

كان هذا في بداية عصر الإنترنت، والكلُّ يعرف بأنّ “كل جديد إلو رهجة” (أي بريق ساطع)، ولكن مع الوقت أصبحت تظهرُ تداعيات القراءة عبر الإنترنت من تعبٍ في النّظر، إضافة إلى التأثير السلبيّ على دماغ الإنسان، كما أثبتت الدراسات التي تناولت هذا الموضوع، فأثبتت ضرر القراءة عبر الإنترنت. صحيحٌ أنَّ القراءة خفّت على الإنترنت، ولكن بقي بعض الناس مهتمًّا بها نظرًا للأسباب التي ذكرتُها سابقًا، وكذلك نظرًا لتوفّر القراءة المجانيّة.

عادت الجدليّة إلى الظهور بعد ضمور طباعة الكتب، فالذين يحبّون القراءة لا زالوا أوفياء لحبّهم الذي “عشعشَ” في وجدانهم وأصبحوا متشبّثين أكثر للدفاعِ عن حبِّهم للقراءة الورقيّة، وكذلكَ وضع الكتَّاب الذين يعشقون فن الكتابة بكافّة أنواعه، وكلٌّ ضمن اختصاصه. فالرّاوي والقاص والصحافي وغيرهم من الكتَّاب لا يجدون متعةً في حياتهم سوى في الكتابة، فهي مُتنفّسهم الوحيد، وفي أوقاتٍ كثيرة هي مصدر رِزقهم.

وشهدتُ مرةً صراعًا حضاريًا بين صاحب دار نشر وزميلٍ له في المهنة في دار نشر أخرى. الأول يؤمنُ إيمانًا لا لُبس فيه في الطباعة الورقيّة، والثاني غيّر نمط الطباعة في داره من ورقيّة إلى رقميّة، وكنت الشاهد على هذا الصراع الثقافي. فالأول يعتبرُ بأنَّ عملية إلغاء الطباعة الورقيّة هي حربٌ على الثقافة وخاصةً الثقافة العربيّة، واعتبر بأنَّ الغرب من يروِّج لإيقافها والاكتفاء بالطباعة الرقميّة، وهذا لِجعلِ الثقافة العربيّة تندثرُ مع الوقت لاعتقادهم بأن ليس كل العرب يتقبّلون التطوّر ويحاربونه وبالتالي يخفُّ انتشار الثقافة العربيّة؛ أمّا الشخص الثاني فقد اعتبر أنَّ الطباعة الورقيّة صارت مكلفةً جدًا. وهذا بالتالي ينعكسُ على ارتفاع أسعار الكُتب والابتعاد عن شرائها، كذلك فقد أضاف بأنَّ الناس لم يعد لها النّهم ذاته للقراءة الورقيّة، وهو لهذا السبب ألغى الطباعة الورقيّة في دار النشر الخاصة به. وبما أنّني كنت الشاهد على الصراع الثقافي بين التيارين المتناقضين بالمبدأ والمتّحدين بالمضمون، فالمبدأ هو اعتماد الطباعة الورقيّة أو الرقميّة، والخلاصة هي نشر الثقافة بأي طريقةٍ كانت.

فأنا كنت في زيارةٍ إلى صاحبِ دار النشر الأول كي أسلِّمهُ نُسخًا من روايتي “بقبشة”، فكان رأيي مغايرًا لرأي صاحب الدار الثانية. وتمنّيتُ عدم القول أسوةً بما يُقال في الغناء والموسيقى: “الجمهور عايز كدا” لأنّني من المدافعين عن الكتب والطباعة الورقيّة، ولأنّني من عشّاق القراءة، وأخبرتُ صاحب الدار الثانية بأنَّ الغرب الذي يتغنّى بتطوّره كان قد أصدر كتابًا عن مذكّرات الأمير ويليام البريطاني وقد بيع منه حوالي المليون نُسخة، فقلت له: حبّذا لو أنّنا نستشهدُ بتطوّر الغرب بالأمور الإيجابيّة حفاظًا على ثقافتنا العربيّة، وأضفتُ بأنّني مع اعتماد الأسلوبين: الطباعة الورقية والطباعة الرقميّة، وذلكَ فقط لأنّ لي أصدقاء خارج وطني لبنان، وأريد أن يصل فكري وكتابتي لهم، لذلك اعتمدتُ إضافةً إلى الطباعة الورقيّة الطباعة الرقميّة، لانّه يتعذّرُ عليَّ ماديًا إيصال كُتبي للخارج، وانتهى النقاشُ أو الصراع الثقافيّ في الموضوع بأن انتصرنا أنا وصاحب الدار الأول مقرّرين المحافظة على الطباعة الورقيّة، وأن تكون الطباعة الرقميّة مكمّلة لها.

ولا أخفيكم أيها القرّاء الأعزاء، أنّني وبعد طباعة روايتي “بقبشة” قد خفتُ من عدم القدرة على تسويقها بين المكتبات لأنّني تأثرتُ بمقولة أن “لا أحد يحبِّذ الطباعة الورقيّة”، لكنّني فوجِئتُ بالكمّ الهائل من الدعم المعنوي والمادي أيضًا، ما أثلجَ صدري، فالدّاعمون شكروني على هذه الخطوة الجريئة التي قمتُ بها في وقتٍ نعاني في بلدنا من الغلاء الفاحش للكثير من السلع وخاصةً الطباعيّة منها، وهذا الدّعم شجّعني على الكتابة والكتابة والكتابة..

فبنظري أنَّ الصراع بين الطباعة الورقيّة والرقميّة هو صراعٌ عقيم لا جدوى منه، فالنوعان من الطباعة يجب أن يكونا مكمِّلين لبعضهما البعض، ولا يُمكنُ لأيّ نوع أن يُلغي النوع الآخر لا بل يمكنه أن يكون مكمِّلًا له.

لكل شكل من الكتب.. مُريدوه!

بقلم: طلعت قديح – شاعر وناقد فلسطيني من غزَّة

الحديث عن الكتاب المطبوع والكتاب الرقمي ليس حديثًا عن علاقة بين مُنتَج ومنتج آخر، وإلاَّ لكانت هذه النظرة سطحية بل وتصل إلى حدّ السّذاجة.. وهذا يأخذنا إلى النّظر في المكوّن الأساسي، لنرى أنّ هذا الأمر يدخل ضمن الصراع الدائر بين الأصالة من جهة والحداثة من جهة أخرى.

طلعت قديح
طلعت قديح (شاعر وناقد فلسطيني من غزَّة)

فالكتاب الورقي لديه تاريخ امتدّ منذ قرون طوال، كانت بذرته الأولى أو “الأم الفكرة” هي صناعة الورق، بدءًا من استخدامها في المراسلات حتى دخوله في ميدان صناعة الكتاب الورقي.

ولذا نرى أنَّ الكتاب الورقي يأخذ ملمحًا تأصيليًّا للفكرة، وهذا ما حافظ عليه من الاندثار على الرغم من إيجاد منافس له “الكتاب الرقمي” أو الكتاب الإلكتروني.

وللوهلة الأولى يتجه التفكير إلى أنَّ هناك صراعًا كبيرًا بين الأصالة وما أستحدث من خلال التقدّم العلمي، وهذا الأمر صحيح في غالبيته، إذ إنَّ إحالة بعض مُنتجات الأصالة للتّقاعد بعد استنفادها في خدمة البشرية؛ غبن لجهود الكثير ممَّن منحوا الوقت والجهد ضمن المشروع الحضاري الإنساني.

وباتّجاه آخر؛ تقف الجهود الحثيثة من خلال المبتكرات الإنسانية، لخدمة الإنسان لتقليل الجهد والوقت، للدّفع لآلية أنَّ الإنسان الحديث يجب ألاّ يضيع وقته في الزمن المتسارع، فقيمة المنتَج تكمن في التخفيف من العبء الاقتصادي أولاً، ومحاولة تنشيط العمل بتقليل التكاليف واستثمار الوقت لمجالات أخرى.

وما بين هذا وذاك؛ يصطفّ المستخدمون لكلا النَّمطين، فالكتاب المطبوع رفيق لمستخدمه؛ أوليس هو المقصود بالقول (وخير جليس في الزمان كتاب) والجليس هنا تعني الصُّحبة، وهذا يعطينا دلالة على أنَّ الكتاب المطبوع له رونق خاص، يبدأ من ولادة العلاقة بينه وبين القارئ لحظة رؤيته، وتقليب صفحاته، ومن ثم الاقتناء، وكم مرت حوادث تدلُّ أهمية وقيمة الكتاب، فهناك من يتكبّد عناء التّنقيب عن كتاب مهمٍّ يلزمه، فيسأل عنه، ويلاقي المشقّة في سبيل الوصول إليه، حتى أنّ هناك من يجتاز بلادًا كي يحصل على كتاب شغف به.

ناهيك على أنَّ الكتاب المطبوع يمتاز بسرعة الممارسة بين القارئ والكتاب، ولا ننسى أنَّ هناك آفاقًا رحبة في التعامل مع الكتاب المطبوع من خلق نوع من الألفة الخاصة، وهذا نلمسه في عمل مكتبة للكتب، وقد تبلغ التكلفة مبلغًا ليس بقليل، هذا الأمر لا يمكن أن يكون إلاَّ حينما يتملك الاهتمام بشكل يعرف من خلال قيمة الكتب.

ولا يمكن أن نغفل على أنَّ هناك الكثير من الكتب المطبوعة يتأخّر إصدارها الرقمي لأسباب ما، وهذا قد يؤدي إلى تأخُّر الباحثين والمتخصصين لأغراضهم البحثيّة، وما إلى ذلك من استخدامات الكتاب.

وفي هذا السِّياق، لا نذهب إلى إغفال استحواذ الكتاب الرقمي على كمٍّ هائل من المستخدمين، ومنهم مُحبّي الاستخدام المطبوع، ذلك أنَّ الكتاب الرقمي يمكن أن يكون مُعينًا على عرض فكرة الكتاب في حال عدم التمكُّن من الحصول على الكتاب مطبوعًا.

وغير ذلك؛ فإنَّ هناك من لا يقدر على تكلفة باهظة لبعض الكتب والتي قد تتاح بشكل مجاني عبر المواقع الإلكترونية، ومن الملاحظ أنَّ هذه المواقع بدأت عرضها للكتب الرقميّة بالمجّان، ثم فرضت رسومًا على استخدام الخدمة الرقميّة، حتى بات الأمر تجاريًّا، مما جعل من هذه الظاهرة سوقًا رائجة موازية لقنوات بيع الكتاب المطبوع بشكل مرخّص ورسمي عبر دُور النّشر المختلفة، وقد يبرَّر هذا الأمر بابتعاد المستخدمين مكانًا عن مكان دُور النّشر، ممّا يكلف دور النشر والقارئ تكاليف كبيرة.

ويبقى أنَّ لكل نمطٍ مستخدمون، لكن لا يمكن الاستغناء عن أيّ نمط لما ذكرنا سابقًا.. وسيظلُّ الكتاب المطبوع، مع تقدّم التكنولوجيا، له حضوره القوي واللاّزم عبر الأزمنة.

الإلكتروني والورقي.. بين التكامل والتنافس!

بقلم: ياسر حجازي – كاتب صحفي من مصر

لا شك أنَّ الإنسان، في ظل الثورة الرقمية التي يشهدها العالم في هذا القرن، يعي كيف تتحوّل الحياة في كل المجالات تحوّلاً سريعًا جدًّا، ولا سيما تحوّل الكتاب من شكله الورقي إلى شكله الإلكتروني، وانتشاره انتشارًا واسعًا بين القرّاء والكتّاب، وخاصة مع ابتكار شاشات لهذه الكتب تُضاهي الصفحات الورقية للكتب التقليدية.

ياسر حجازي
ياسر حجازي (كاتب صحفي من مصر)

فصار بالإمكان قراءة محتويات الكتاب على أجهزة الحاسب المكتبيّة، والمحمولة، ولا شك أن لكلا النّوعين من الكتاب الورقي والإلكتروني فائدته، ودوره ومزاياه، وبإلقاء نظرة لا متأنيّة ولا عجِلة نستطيع أن نستخلص المزايا والعيوب لكلا الكتابين..

فمن المزايا والفوائد التي يتميّز بها الكتاب الإلكتروني عن الكتاب الورقي:

قلة التكلفة، حيث توفر الكتب الإلكترونية تكاليف الطباعة، والحبر، والورق، ومصاريف النقل والشحن، ويكون في متناول الملايين من الناس بأسهل الطرق.. فهو أرخص في الإنتاج، وأرخص في الشراء، وبعضها مجاني، حيث تسمح العديد من المكتبات العامة على الإنترنت للقرّاء بقراءة وتحميل الكتب، وتخزين الآلاف منها في حيّز صغير جدًّا، مقارنة مع الحجم الذي يشغله الكتاب الورقي، مع إمكانية تداوله بسهولة وسرعة فائقة حول العالم، دون التقيّد بالحدود الرقابية التي تفرضها بعض الدول، فسهولة الوصول إلى أيّ كتاب بأي لغة في أي مكان من العالم باتت سهلة..

بخلاف الكتاب الورقي الذي قد يعاني طالبه المشاق الكثيرة للوصول إليه على عكس الكتاب الإلكتروني وخاصة إذا كان مطبوعًا في بلد آخر، هذا بخلاف سهولة النّقل والنّسخ واللّصق، حيث يمكن نقل كتاب إلكتروني في دقائق أو ثواني معدودة، بخلاف النسخ والنقل من الكتاب الورقي..

كما أن إعارة الكتاب الورقي تكتنفه الكثير من الإشكالات، من خشية الضياع والتمزّق والإهمال.. وكل هذا قد سلم منه الكتاب الإلكتروني، فإن الكتاب الإلكتروني يتيح لك إعطاء كل زملائك نسخة من ذلك الكتاب بدون جهد يُذكر، ومع ذلك فلا يخلو الكتاب الإلكتروني من السلبيات، ومن أبرزها: الإجهاد البصري، وضياع حقوق المؤلفين، ودور النشر، نتيجة التوزيع غير الشرعي لنسخ الكتاب الإلكتروني.

وفي مقابل ذلك، فإنَّ للكتب الورقية مزايا على الكتب الإلكترونية، ومن أهمها:

قراءة الكتاب الورقي أكثر راحة بشكل عام، ففي قراءة الكتاب الورقي متعة لا يشعر بها من يقرأ الكتاب الإلكتروني، كما أنَّ الكتاب الورقي يبني علاقة حميمة مع قارئه، وصلة وثيقة، وممَّا لا ريب أن هناك ألفة تحدث بين القارئ والكتاب، وهذا ما لا يوفره الكتاب الإلكتروني، ثم أنّ الكتاب الورقي لا يتوقّف على توفّر الكهرباء أو أجهزة الحاسب، أو الاتصال بالإنترنت، بخلاف الكتاب الورقي فهو الأكثر راحة للعين من الإلكتروني، ولعلنا نلمس هذا في كل من يحمل هاتفًا..

وبالرغم من أن الكتب الإلكترونية وإن كانت قد أثَّرت إلى حدّ كبير على سوق الكتاب الورقي، إلاّ أنه ما يزال مفضَّلاً عند الكثيرين، وما يزال الكتاب الورقي متربّعًا على أسواق الكتب، ومعارض الكتاب، في مشارق الأرض ومغاربها.

بل إنَّ “الكتاب الإلكتروني” عزَّز وجود الكتاب الورقي، وعمل على زيادة زوّار معارض الكتاب بحثًا عنه، حيث أنَّه ساهم في انتشاره وتردُّد صداه.. ولسنا هنا في صدد تفضيل أحدهما على الآخر، فلكل شخص رؤية خاصة لا تتعداها إلى سواه، وإن كان الكتاب الإلكتروني قد فرض نفسه في الفترة الأخيرة بقوة على الساحة نظرًا لما ذكرناه آنفا من مزاياه، وبالأخص بين هذه الأجيال الصاعدة التي شبّت على هذا الفضاء الأزرق والإنترنت..

وخلاصة ما يمكن قوله في هذا الصدد أنَّ العلاقة بين كلا الكتابين (علاقة تكامل، لا علاقة تنافس) فالكتاب الورقي والإلكتروني يكمّــل بعضهما بعضًا، وعلى كلٍّ رحم الله “المتنبي” حين قال:

أَعَزُّ مَكانٍ في الدُّنى سَرجُ سابِحٍ — وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ

الكتاب المطبوع والكتاب الرقمي.. صراع أم تكامل؟

بقلم: د. بسيم عبد العظيم عبد القادر – شاعر وناقد أكاديمي، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر

بدأ التاريخ من بدء الكتابة في الحضارات القديمة، عند الآشوريين في بلاد الشام والبابليين في العراق والحضارة المصرية القديمة. وما قبل الكتابة يُسمَّى عصور ما قبل التاريخ، ولا دليل عليها سوى ما ورد في الكتب السماوية التي تذكر الأمم السابقة وما جرى لها على سبيل العظة والاعتبار للناس عبر العصور.

بسيم عبد العظيم عبد القادر
د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، رئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر)

وقد تطورت وسائل الكتابة من النّقش على الصخور إلى استعمال الجلود للرَّقم عليها، ثم اختراع الورق الذي يسّر سُبل الكتابة، وكان ذلك تدريجيًّا مع ازدهار الحضارة، وكانت الكتابة يدويًّا، وتركت لنا مخطوطات في اللغات المختلفة، انتقلت لنا عبر القرون، وتمّت ترجمتها بين الحضارات المختلفة، حتى وصلتْ إلى الحضارة العربية، فتلقّفها العلماء العرب وأعملوا فيها عقولهم شرحًا وتوضيحًا وإضافة تشهد بعقلية راقية تنطلق من منظور إسلامي يدعو إلى النَّظر في النفس وفي الآفاق، وتطلق العنان للعقل في البحث العلمي.. ثم انتقل التراث العربي في العلوم المختلفة والفنون والآداب إلى أوروبا عن طريق الأندلس وصقلية، وهو ما اعترف به المنصفون من مؤرِّخي الحضارة، ولعل أصدق الكتب في إنصاف الحضارة الإسلامية كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه “شمس العرب تسطع على الغرب: أثر الحضارة العربية في الحضارة الأوربية”، وقد جاء على لسان أحد علماء الغرب المنصفين أنه لو لم يتم إحراق كتب المسلمين لصرنا نتجول بين الكواكب.

كل ذلك والكتب مخطوطة تنسخ يدويًّا ولا يقتنيها إلاَّ مَنْ يملكون ثمنها المرتفع من عِلْية القوم وصفوة العقول، كما كان العلماء يُمْلُون دروسَهم على تلاميذهم فيقومون بنسخها، وهي نسخ معدودة، وينتفع بها عدد محدود.

حتى تم اختراع المطبعة في أوروبا، فكانت خطوة مهمّة في انتشار الكتب وشيوعها والانتفاع بها، فكان ذلك فتحًا عظيمًا ونقلة كبيرة في انتشار العلم والأدب وسائر أنواع المعارف عن طريق الكتب.. وقد دخلت المطبعة إلى مصر مع الحملة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، ومنها انتقلت إلى الأمة العربية، وتتفاوت الكتب من حيث الانتشار والمقروئية بين الأمم، ولعل الأمة العربية ـ للأسف ـ من أقل الأمم قراءة، مع أنّنا أمة اقرأ، فهذا الأمر أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: “اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم”، كما أقسم الله بالقلم في قوله تعالى “ن والقلم وما يسطرون”.

وفي الغالب، كان الكاتبُ يطبع ألفَ نسخة من كتابه ورقيًّا ـ وقليل مَنْ يتجاوز ذلك من كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ـ وهو يتوجَّه إلى مجتمعات قرائيَّة عربيَّة تتجاوز مئات الملايين.. فلو تمَّ توزيع كتابه كاملاً، وتم تداول كل نسخة من كتابه بين عشرة قرَّاء، فإنَّ أقصى عددٍ يصل إليه الكتابُ هو عشرة آلاف قارئ، إلى ثلاثين ألفا في حالة كبار الكتاب. بينما لو أصدر الكاتب كتابه رقميًّا، فيمكن وصوله إلى عشرات الآلاف من القرَّاء أو مئات الآلاف، لا سيما وأنَّه صار هناك منصَّات لبيع الكتاب الرَّقمي والتَّرويج له…

ومع التقدم العلمي الذي يسَّر الكتاب الإلكتروني، مقروءًا ومسموعًا، فما يزال للكتاب الورقي قيمته عند كثير من القرّاء وخصوصا الذين تربّوا على هذا الكتاب ونهلوا منه علمهم وثقافتهم ـ وأنا من بين هؤلاء ـ فما أجمل أنْ يطالع القارئ الكتاب الورقي ويقلّب صفحاته بين يديه ويعلّق على هوامشه تعليقات تلخص فكرة أو تبين غامضًا وتوضّح مبهمًا، وتساعده عند العودة إليه في استرجاع معلوماته بسهولة ويسر، وإنَّ أجمل أوقاتي هي التي أقضيها في مكتبتي أقلّب الكتب وأطالع فيها ما أحتاج إليه في بحوثي أو أراجع ما يخطه تلاميذي في بحوثهم ورسائلهم العلمية، مصوّبًا ومعدّلاً ومسدّدًا وموجّهًا، أو أثقف نفسي في فروع الثقافة المختلفة من تاريخ وجغرافيا وفلسفة وعلم نفس واجتماع وروايات ودواوين شعرية في عصور الأدب المختلفة، أو كتب مترجمة أو سلاسل ثقافية متنوعة مثل عالم المعرفة أو كتاب الهلال وغيرها من السلاسل الثقافية أو المجلات الشهرية مثل مجلة الأزهر القيّمة التي تطبع كتابين كل شهر هدية على المجلة، والمجلة العربية التي توزّع كتابا شهريًّا هدية لقرائها، وكذلك مجلة نزوى العمانية وغيرها من المجلات كالشارقة الثقافية، والصحف الثقافية كأخبار الأدب المصرية الأسبوعية أو الصحف ذات الملاحق الثقافية مثل الجزيرة السعودية أو الأيام الجزائرية الورقية والإلكترونية.

أما فئة الشباب فلا صبر لهم على الكتاب الورقي، فتراهم يهرعون إلى الكتاب الرقمي يطالعون فيه وينقلون عنه، وهذا في نظري مثل الوجبات السريعة التي صارت سمة العصر، فهي قليلة الفائدة وإنْ كانت تسعف المرءَ في كل وقت ولا تحتاج إلى طقوس معينة في القراءة، فيمكن للقارئ أنْ يطالعها في كل وقت وعلى أي وضع أو يستمع إليها إنْ كانت مسجّلة.

ولهذا فإنني أرى أنَّ الكتاب الرقمي مفيد للمكفوفين مثلاً، فقد كنّا قبل توفّر هذا الكتاب الرقمي نقوم بتسجيل الكتب لزملائنا المكفوفين في الجامعة، وفي مرحلة الدراسات العليا حتى يستطيعوا سماعها واستيعابها واسترجاعها عند الحاجة إليها، وقد جربت ذلك بنفسي مع أخي وصديقي الدكتور إبراهيم محمود يرحمه الله، وكان التسجيل يُثَبِّتُ معلوماتي ويحفزني على التجويد، ومن هنا كان الكتاب الناطق مناسبا لهذه الفئة.

كما أنَّ الكتاب الرقمي صار ضرورة مُلِحَّة منذ انتشار فيروس كورونا عام 2019م، حيث صار التعليم عن بُعْدٍ في مدارس العالم وجامعاته، ومنذ ذلك الحين استمرأت المؤسسات التعليمية وبخاصة في الجامعات هذا النوع من الكتاب، فاعتمد التعليم على المنصّات التعليمية التي يرفع فيها الأستاذ كتابه ويتلقفه الطلاب على المنصّة فمنهم مَنْ يقوم بطباعته ليحسن الانتفاع به وهؤلاء الذين يفضلون الاعتماد على الكتاب الورقي، وهم الغالبية العظمى من الطلاب، ومنهم الذين يكتفون بالكتاب الرقمي، وهذه المنصات تتطلب جهدًا من الطالب كما تتطلب تكلفة مالية في مصاريف الإنترنت، علاوة على عدم توفر الإنترنت في كثير من القرى النائية أو توفره بسرعة غير مناسبة، وهذا ممّا يعوق انتفاع الطلاب بالكتاب الرقمي ويضطرهم لإعادة طباعة الكتاب مرة أخرى فتصير التكلفة مضاعفة من حيث أردنا تقليلها، كما أنَّها قلّلت دخل الأساتذة من الكتاب الجامعي الذي كان يمثل جزءًا كبيرًا من دخلهم يعوّض ضعف رواتبهم، بالإضافة إلى القضاء على صناعة الكتاب الجامعي، وأعني بذلك توقّف كثير من المطابع عن العمل وتعطّل العاملين بها وتلك ـ فيما نرى ـ مصيبة ألمَّت بهؤلاء العمال الذين لا يحسنون سوى هذه المهنة وكذلك بأصحاب هذه المطابع.

وأحب أنْ ألفت النظر إلى أنَّ اعتماد الباحثين وطلاب الدراسات العليا على الكتب الرقمية أدى إلى انتشار آفة عدم الدقة في التوثيق من هذه الكتب، وأحيانا يؤدي إلى القَصِّ واللصق والبعد عن الأمانة العلمية، وهذا ما لمسته بنفسي أثناء إشرافي على الرسائل العلمية في قسم اللغة العربية، في تخصص الأدب العربي ونقده والدراسات الإسلامية، وهي آفة خطيرة خصوصًا إذا أضيفت إلى آفة العجلة التي سَرَتْ في طلاب الدراسات العليا الذين يرغبون في الانتهاء من بحوثهم في أقصر وقت ممكن تخلصًا من عبء المصروفات الدراسية المرتفعة، أو لأغراض أخرى، ممّا يسِم بحوثهم بسمات غير لائقة، مُستغلين انشغال أساتذتهم ببحوثهم الخاصة أو بمتطلبات الحياة، أو ثقتهم بطلابهم، ممّا يعود على البحث العلمي بالتخلّف والانحدار وعدم النضج ويوقع في التكرار.. إنْ أحسنا الظن أو السرقة العلمية إنْ أردنا الحقيقة.

وتلك مصيبة عظمى أنْ نجد طالب الدراسات العليا يحصل على الدكتوراه دون أنْ يقتني كتابًا ورقيًّا ذا قيمة يتعلق ببحثه، اللهم إلاَّ كتب الدراسة الجامعية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ونحن جميعًا أساتذة ومؤسسات جامعية مسؤولون عن هذه الكارثة، وينبغي أنْ نقف وقفة جادة فنقرر على أبنائنا في الدراسات العليا مجموعة من الكتب الأصيلة في تخصصاتهم سواء من كتب التراث أو من كتب الرَّعيل الأول من الأساتذة ذوي القدم الراسخة قبل أنْ يلجوا مجال البحث في موضوع معين في تخصصهم ونقوم بامتحانهم في استيعابها، وأن نأخذ ذلك مأخذ الجد، حتى ننهض بالبحث العلمي في بلادنا العربية، فأول التجديد كما يقول العلماء الأثبات هو قتل القديم بحثًا، ولا جديد لمن لا قديم له، وإلاَّ لكان كالشجرة المثبتة في الرمال فلا جذور لها لتصل إلى الماء ممّا يعرضها للاقتلاع وعدم الإثمار.

وقد جربت ذلك مع أبنائي من طلبة الدراسات العليا في درجتي الماجستير والدكتوراه، وحاولت أنْ أقرأ معهم بعض كتب التراث الأدبية والنقدية، ولكنهم لم يستطيعوا معي صبرًا، وأعرضوا عن هذه المبادرة الشخصية التي قمتُ بها حبًّا للعلم ورغبة في ترسيخ أقدامهم على درب القراءة الجادة في كتب التراث، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ويمكن أن ألخِّص رأيي في هذا الموضوع في أنَّ الكتاب الورقي مهمٌّ جدًّا، ولا يمكن الاستغناء عنه بحال من الأحوال، كما أنَّ الكتاب الرقمي قد فرض نفسه نتيجة للتقدم التقني والرغبة في الراحة وإيثارها من جانب الشباب خصوصًا، وهو مهم لذوي الاحتياجات الخاصة لتيسير سبل تعلّمهم واستيعابهم دون الحاجة للاعتماد على غيرهم.

وإذا كانت بعض الصحف العربية والعالمية قد لجأت إلى الطباعة الرقمية إلى جانب الطباعة الورقية، وبعضها الآخر تحت ضغط الغلاء الفاحش في أسعار مستلزمات الطباعة قد ألغتْ الطبعة الورقية واكتفت بالطبعة الرقمية، إلاَّ أنَّ ذلك لا يعني انتهاء عصر الكتاب الورقي، بل سيظل للكتاب الورقي قيمته، رغم انحسار توزيعه، وضيق أفق قرائيته، وقلة مردوده المادي، وبالضرورة ضعف تأثيره، وأنا شخصيًّا أقوم بطباعة كتبي ودواويني الشعرية على نفقتي الخاصة، غير معتمد على جهة رسمية يضطر الكاتب لإراقة ماء وجهه أمام مسؤوليها أو التزلف إليهم حتى يطبعوا له، كما أنني لا أبيع كتبي ودواويني بل أقوم بإهدائها إلى أصدقائي من جهة وتلاميذي النجباء من جهة أخرى لكي أضمن لها قارئًا نوعيًّا متخصصًا وقادرا على الإفادة منها، وأحاول معرفة أصداء هذه القراءة في نفوس الأصدقاء والتلاميذ النجباء لكي تكون زادا لي وتغذية راجعة تعينني على التجويد فيما يستقبل من كتابات نقدية أو إبداع شعري، وأقوم إلى جانب ذلك بإيداع نسخ منها في المكتبات العامة وإهدائها إلى أصدقائي في الدول العربية، وإرسال نسخ منها إلى المكتبات العامة ومكتبات الجامعات، وأتمنى أن يكون هذا التبادل بصورة رسمية وليس مبادرة شخصية، حتى يتم التواصل العلمي والأدبي بين الباحثين والأدباء في الدول العربية، وأقترح أن يتم ذلك عن طريق دار الكتب المصرية ومثيلاتها في الدول العربية أو عن طريق مكتبة الإسكندرية التي أقترح تزويدها بنسخ مما يتم طباعته في مصر والدول العربية، كما أقترح تزويد المطارات ومحطات القطارات والمترو وغيرها من وسائل النقل بنسخ ورقية ممّا يصدر في الدول العربية ليتاح للمسافرين الاطلاع عليها مجانا حتى تصبح القراءة عادة عند العرب كما هي عند غيرهم من الأمم، وستسهم القراءة في تعديل سلوك القراء وتثقيفهم وتهذيبهم.

شكرا لجريدة الأيام نيوز على طرح هذا الموضوع للنقاش وتبادل الآراء بين مثقفي الأمة العربية ولعل هذه التوصيات تجد صدى عند أصحاب القرار، وتجد طريقها إلى التنفيذ، وما ذلك على الله بعزيز.

الورقي والرقمي.. معادلة إبداع!

بقلم: عبد الواحد محمد – روائي من مصر

قالت جدَّتي يومًا إنَّها الحكاية التي تمنح عقولنا الحب الكامن في القلوب، القلوب التي كانت تقرأ تلك الحكايات في الكتاب الورقي الذي هو بالتأكيد الرواية العربية في: مصر، الشام، العراق، الجزيرة العربية.. إلخ، من منطلق الإحساس الدائم بالثقافة المكتوبة، حتى وإن كانت – جدَّتي – تجهل القراءة والكتابة، لكنها هي ذاتها الحكاية ومستمعيها عبر الأثير التلقائي لأوتار صوتها الذي لا نظير له، هو صوت فوق الفيروزي.. وهذه متعة الكتاب الورقي الذي كانت تحفظه جدَّتي عن ظهر قلب من أحاديث جدّي مدرِّس اللغة العربية الذي كانت له الونس والسعادة والزوجة الوفيَّة.. وكان لها مستودع ثقافة وعشق واحترام، بل سرد دائم من حكايات خاصة تردِّدها لأحفادها في تسالي الشتاء الباردة ونسمات الصيف الرّطبة، في عناق حميمي من مشاعر كتاب ورقي حمَل العديد من صفحات الحب والانتماء والوطن.

عبدالواحد محمد
عبد الواحد محمد (روائي من مصر)

لذا احتلّ الكتاب الورقي منزلة مبكرة في أذهاننا جميعًا قبل سنوات الدراسة الابتدائية بفطرة جدَّتي التي ما زالت تخاطب عقولنا بعد رحيلها بعقود طويلة جدا.. ما زالت تخاطبنا بصوت فوق الفيروزي..

وكان الكتاب المطبوع هو ثمرة ثقافة جادة، لأنَّه مجهود دائم لكاتب ومبدع مع كل سطوره الرشيقة وفي كافة المجالات العلمية والإبداعية.. فكلٌّ منَّا كان يحلم منذ صغره أن يكون لديه مكتبة صغيرة ورقية أشبه بمكتبات المدرسة.. بل ومثقفي عصر ما قبل الإنترنت والأيقونات الذكية التي جعلت للكتاب المطبوع منزلة سامية ما زالت تقاوم ببطيء الكتب الإلكترونية التي جعلت من الثقافة الحالية طنينًا من مشاعر متناقضة بين الاعتراف بكتب الرقمنة ورفضها في اللحظة نفسها.. بداخلنا، عندما تقتحم حكايات الجدة وجدتي الرأس والقلب مع جلسات السمر اللذيذ شتاءً وصيفًا، هكذا كان الكتاب الورقي قنديل ثقافتنا العربية حتى في سنوات الجامعة وزيارة معرض الكتاب الدولي في: القاهرة، بيروت، بغداد، وسائر عاصمتا العربية من المحيط إلي الخليج، كان الكتاب المطبوع سفيرًا لثقافة الضاد وثقافة الآخر بكل لغات عالم.

أمَّا اليوم، أصبح الكتاب الإلكتروني مصدر ثقافة شابة جدا جدا جدا دون إحساس بمشاعر الأم والأب والجدة والأشقاء والجيران..  وصوت مدفع الإفطار الرمضاني، بل اللمّة.. الكل يعيش مع ثقافة افتراضية لا تعطي قيمة للإبداع الأصيل كما كانت ليالي زمان مع الكتاب الورقي..

لكنها معادلة الثقافة بين الأمس القريب واليوم، وهو ما سيكتب ثقافة جديدة بحلول أعوام قليلة قادمة.. إنَّ الكتاب الورقي في طريقه حتمًا إلى الرحيل والاندثار من حياتنا الثقافية مهما كانت الرغبة الدائمة في بقاء الكتاب المطبوع سفيرًا لثقافتنا العربية وثقافة الآخر.. اسألوا برامج الذكاء الاصطناعي!!

والجيل الشاب اليوم هو جيل إلكتروني بلا جدال من خلال منصّات الزّوم، والتعليم عن بُعد، والفيس بوك، وسائر الوسائط الرقميّة التي تقدم ثقافة بلا معلِّم.. ثقافة الصورة والرأي الشخصي دون التحقّق من رؤي الماضي، إلاّ من بعض المتخصصين الذين يقدِّرون ثقافة الكتاب المطبوع، ويقدِّمون خلاصة تجاربهم بصدق وانتماءِ وطنٍ.

لكنها يقينا وبلا شك.. معادلة ثقافة بين الورقي والإلكتروني مهما كان النقد والرأي الآخر.. لتبقي ثقافتنا العربية في أعمِّها حكايات من حكايات جدَّتي قديمًا مع الكتب المطبوعة، ومع همهمات أبنائنا في منازلنا الذين غادروا كل حجرات الدفء اللذيذ إلى دفء الحجرات الإلكترونية الباردة من كل مشاعر إنسانية.. لكنها لغة عصر وجيل المستقبل.

هل يختفي الكتاب الورقي في مجتمع الأجيال الرقميّة؟

بقلم: جميلة ميهوبي – كاتبة وإعلامية من الجزائر

دائمًا ما نلحظ جدلاً واسعًا حول أفضلية الكتاب الورقي ونظيره الرقمي، ومستقبل الكتاب الورقي في ظل تزايد الاقبال على تطبيقات التكنولوجيا في هذا المجال، وما توفّره من سهولة الوصول إلى المعلومة والتحصيل المعرفي السريع، حيث أصبحت القراءة متاحة على جهازك الصغير المحمول بين يديك، إذ بإمكانك تصفُّح العديد من عناوين الكتب، والتنقّل بين مختلف الكُتب العلميّة والأدبية وغيرها بنقرات خفيفة على شاشة هاتفك النقّال دون أدنى جهد في البحث عن كتاب على رفوف مكتبة البيت أو في مكتبة عمومية أو خاصة، وهذا ما جعل الاقبال على الكتاب الالكتروني كبيرًا خاصّة في السنوات الأخيرة، فهل سيختفي الكتاب الورقي وهل سنتحدث عن أجيال رقميّة تنكر روعة الورقة واليراع؟

جميلة ميهوبي
جميلة ميهوبي (كاتبة وإعلامية من الجزائر)

قرّاءٌ أوفياء للكتاب الورقي                                 

لم يخطف بريق التكنولوجيا وتطوُّرها اهتمام كثير من القُرَّاء الذين ما زالوا يسعون وراء الكتاب الورقي، شأنهم شأن عدد من الكُتَّاب والناشرين الذين ما يزال يسحرهم هذا الرَّفيق الصّامت المتكلّم في آنٍ واحد، فهم يعتقدون بأنَّ الكتاب الورقي هو نفسٌ قائمةٌ بذاتها لها مشاعر يتبادلونها معها بين ضجيج الكلمات وإن كان ظاهرها صامتًا، وكلُّنا يعلم بأنَّ للأفكار ضجيج في عقولنا وللمشاعر نبرات في قلوبنا وإن لم تتبدّ للآخرين، فكم من صامت بيننا تعجُّ نفسه بأحاديث لا تنتهي، وكم من ساكن تتلاطم بحار صدره بذكريات محمَّلة بكلام لا ينفد، ولهذا فإنَّ متعة القراءة في كتاب ورقي لا تضاهيها متعة، إذ تجعل النَّفس تطمئن إلى هذا الجليس الوفي الذي لن يتركك حتى تتركه، ولن ينصرف عنك حتى تنصرف عنه، كما أنَّه يساندك في مجالسته لك بل وينتصر لك كما تنتصر له في انسجام خرافي لا يفك شفرة حنينه إلاَّ نفوس درجت على القراءة الورقيَّة وذاقت أطايبها بكل شوق.

والكتاب الورقي نكنُّ له من الودّ الكثير ونميل إليه بفطرتنا، ذلك أننا مجبولون على حب القراءة منذ كلمة “اقرأ”، وكأنّنا ولدنا معها في ذلك الحين، ونَحِنُّ إليها مع وقوع عيوننا على الكتاب، وكأنَّ الكتاب في مفهومنا لا يعني سوى الكتاب الورقي، بينما لا يعدو معنى الكتاب الرقمي عندنا سوى شفرات تُترجُم إلى كلمات نفتقد خلالها متعة القراءة، وتهجم علينا أضواء الحاسوب أو الهاتف النقّال وتخترقنا أشعته لتحرمنا ذلك الهدوء النفسي وتلك السكينة الرائعة التي تتيحها لنا أوراق كتابٍ يجالسنا ملء روحه.

الكتاب الورقي.. قصة حميميّة لا تنتهي

فلا أحد منا يستطيع أن ينكر أنَّنا حين نمسك الكتاب الورقي، سنشعر ببهجة تصاحبها رغبة عارمة في مجالسة رفيق متكلم صامت يغوص بنا بسلاسة في عقول الآخرين، ويأخذنا في نزهة مجانية تجوب بنا قلاع وحضارات مختلفة، كما تطير بنا سطوره وحروفه بين حنايا الماضي والحاضر في رحلات أسطوريّة ممتعة تزيح التوتر من صدورنا وتبث الراحة في نفوسنا، فلا نغلق دفّتيه إلاّ وقد لامستنا بسمات رضى ظاهرة وبهجة سكبها فينا اصطحابنا لهذا الجليس الحميم.

فالكتاب الورقي له روحٌ  يحس من خلالها القارئ بأنَّ له رفيقا يتبادل معه أطراف الحديث ويروي له حكايته وهو يستمع إليها بكل انتباه، والكتاب الورقي يساعد على استجماع الانتباه من خلال قراءة متأنِّية تبعث السكينة في النَّفس، والكتاب الورقي يترسَّخ أكثر في العقل لأنَّ له علاقة بالذاكرة طويلة المدى التي تتصل مع نهايات عصبية في أصابع اليدين، بينما تقتصر القراءة الالكترونية على البصر وحده وهو ما يذهب بالمعلومة إلى “الذاكرة قصيرة” المدى وهذا يدعونها لسرعة التفلُّت، ولا شك أننا نسعى من خلال القراءة إلى زيادة مداركنا وتوسيع ثقافتنا وترسيخ معارفنا، ما يجعل القراءة الورقيّة أنجع من قراءةٍ رقميَّة سرعان ما تزول من الذاكرة.

الكتاب الرَّقمي يؤذي صحَّتنا..

ولا أتذكَّر أنَّني قرأت كتابًا إلكترونيًّا وأحسست بتلك الراحة والبهجة نفسها التي تسكبها فينا الكتب الورقية، كما أنني لا أسترجع من قراءاتي لكتبٍ رقمية سوى بعض التفاصيل القليلة إن لم يقتصر الأمر على العناوين فحسب، والسَّبب كما ذكرنا يعود إلى غياب الانسجام بين جسد بشري وآلة صمّاء تهاجمنا بأضوائها وتخترق أجسادنا بأشعتها وهي أكثر ضررًا علينا من نفعها، فالواحد منّا قد يقرأ على وجلٍ لأنَّه يعرف أنَّ كتابه الرقمي يؤذيه عن غير قصد، بعكس الكتاب الورقي الذي نتناوله وكلنا راحة وهدوء وثقة بأنه المأمون على صحتنا والموثوق على نفسيتنا.

سحر الورق لن يهزمه الكتاب الضوئي

ومع ذلك، فنحن نعترف بطغيان الكتاب الرقمي في عصرنا الحالي، إذ فرض وجود الآلة في حياتنا لدرجة عدم استغنائنا عن هاتف نقّال تتجمع فيه ملايين المعلومات التي نستدعيها بنقرة واحدة عليه بعد تحديد موضوع الطّلب، فهو سريع الاستجابة ويوفِّر كمًّا هائلاً من المعلومات بما في ذلك الكتب في وقت قياسي.. كما مال الكثير من النّاشرين والكُتّاب إلى النّشر الإلكتروني لما له من مزايا السرعة وانخفاض تكاليف النشر وإمكانية الوصول إلى عدد كبير جدًا من القرّاء في وقت قياسي، غير أنَّه لم ولن يتفوَّق على الكتاب الورقي الذي بقي يحافظ على حظوة ظاهرة لدى الكثيرين، لأنَّ للورق سحره ولتقليب صفحات الكتاب مذاقه الخاص ونكهته الفريدة.

هذا عصر المجتمع المعلوماتي..

باتت هيمنة الكتاب الرقمي واضحة في عصرنا الحالي مواكبةً لتطوُّر حياتنا المعاصرة، حيث أصبح الكتاب الرقمي مصدرًا مهمًّا للمعرفة، بالنظر إلى سهولة الوصول إلى المعلومة وإمكانية تحميلها على جهاز شخصي، إذ اتّجه العديد من القرّاء إلى هذا النوع من الكتب لميزاته المتعدّدة كانخفاض التكاليف وإمكانية الترجمة لأية لغة، وكذلك ربطه بالمراجع بسرعة فائقة، بالإضافة إلى سهولة نسخه وتحميله.

وممَّا ساهم في تنامي القراءة الإلكترونية هو التَّدوين على المنصّات الرقميَّة المختلفة، ما أسَّس لثقافة التعلُّم المستمر، فاقتحم جيل الورقة والقلم عالمَ القراءة الالكترونية ليُسرها، خاصة وأنها تسهِّل عملية الوصول إلى كتابٍ يصعب الحصول عليه ورقيًّا، كما كان لعملية التعلُّم عن بعد خلال فترة “كورونا” أثرها في الاقبال على الكتاب الرقمي والتعوُّد عليه.

ويُعدُّ الكتاب الإلكتروني أمرًا طبيعيًّا لدى أجيال وُلدت في عصر الرقمنة، فهم أبناء هذا العصر وقد لا يلاحظون الفرق بين كتاب رقمي وآخر ورقي خاصة إن كانوا من أولئك الذين لم يتذوّقوا متعة القراءة في الكتاب ورقي، بينما تستشعر ذلك الفرق أجيالٌ تعوَّدت على مصاحبة الكتاب الورقي ومخاطبته بهمس خافت بين رفيقين وفيَّين يحفظ كلاهما عهد محبّة وولاء للآخر، فإنّنا لا نجد عند هذه الأجيال الرقمية أيّ ولاء للكتاب الورقي على حساب الكتاب الرقمي إلاَّ بعض الاستثناءات التي نشأت في محيط يحث على المطالعة.

انقلاب عادات القراءة في المجال الإعلامي

ولعلَّنا لمسنا في السنوات الأخيرة انتشارًا غير مسبوق للنَّشر الإلكتروني في المجال الإعلامي من خلال ما شهدناه من اختفاء متزايد للصُّحف الورقيَّة التي استبدِلت بالصُّحف الإلكترونية، فهل سينطبق ذلك على الكتاب الورقي مستقبلاً؟

ازدهار النّشر الإلكتروني..

ولعل إقبال عدد من الكتُّاب مؤخّرًا على النّشر الإلكتروني بسبب ارتفاع تكلفة النشر الورقي وتجنبًا لمشاكل يواجهونها مع الناشرين، ساهم في زيادة عدد الكتب الإلكترونية، غير أنَّ لهذا النوع من النشر سلبيّات كالتّقليل من قيمة الكتاب، وقتل الروح الإبداعيّة التي لها علاقة وثيقة بالورقة والقلم، كما قد ينجرُّ عنه ضياع حقوق المؤلفين والناشرين بسبب سرعة النّسخ والتّحميل والتّداول للكتب الرقمية، ما يتيح الفرصة أمام عمليات الانتحال والسرقات الأدبية.

رؤية نفسيّة وأخرى علميَّة..

وفي مقارنة بين الكتاب الإلكتروني والكتاب الورقي، نجد أنَّ هذا الأخير يخلو من المشتّتات الذّهنية فهو أدعى للتّركيز والغوص في القصة وأحداث الرواية أو النص المقروء، على عكس الكتاب الإلكتروني، فبالإضافة إلى أشعّته المزعجة وإضاءته المُتعبة للعين، فإنَّ مشتّتاته كثيرة، كالإشعارات بوصول رسالة أو دخول أخبار أو إعلانات.. تشتِّت ذهن القارئ وقد تصرفه عن القراءة تمامًا، وهو ما أظهرته دراسة أُجريت على عيّنات من القرّاء بأنَّ أكثر من 60 بالمائة لا يمكنهم القراءة على جهاز إلكتروني لأكثر من 10 دقائق.

وتساعد القراءة الورقية على الاسترخاء والتَّقليل من الضغط العصبي، حيث أنَّ القراءة المتأنّية المصحوبة بملامسة الأصابع لصفحات الكتاب الورقي تخلِّص القارئ من التوتّر وتحفظه من ضوضاء وتشتّت التكنولوجيا الحديثة.

كما يرى مختصون بأنَّ القراءة المنتظمة تزيد من قوة العقل وتُحسِّنُ من وظائف الذاكرة، كما أنَّها مقاوِمة لمرض “الزهايمر” لأنَّها تجعل العقل في نشاط مستمر، بالإضافة إلى كونها تنمّي مهارات الكتابة كما في المقولة المشهورة “كل قارئ ينتجُ عنه كاتب”.

علاقة تكامل..

غير أنَّ من مظاهر التكامل بين الكتاب الرقمي والكتاب الورقي هو تسهيل عملية تسويق هذا الأخير عبر المنصّات الإلكترونية والوصول السَّريع إلى المراجع والعناوين المتعددة للكتب، وتسهيل عملية البحث وتقصّي المراجع والعناوين، كما أنَّ إرفاق كتاب ورقي بنسخة رقميّة على قرص مضغوط يساهم في تسويق الكتاب الورقي ويحدث عملية توأمة بين الكتاب الورقي ونظيره الإلكتروني، وهنا تنشأ عملية انجذاب هجينة للكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني في الوقت نفسه، حيث لا يتفاضل أحدهما على الأخر ويسيران بتواز وتوازن في صالح قارئ يسعى إلى المتعة والتَّحصيل المعرفي والثقافة والتَّطوير.

القراءة ما بين الورقي والرقمي

بقلم: إسراء نزال – ناشطة اجتماعية ومهندسة كيميائية فلسطينية من جنين

منذ القرن الثامن عشر والعالم يشهد تغييرات تكنولوجية على كافة المستويات وفي كل القطاعات في ظل ثورة صناعية غيّرت الكثير من المعالم العلمية والصناعية وغيرها، وكان لذلك انعكاس واضح على أبسط الأشياء العميقة “القراءة والثقافة” على المدى البعيد، حيث أنَّ عجلة التطوّر والتقدّم ما بعد الثورة الصناعيّة قد جعلت من كل شيء رقميًّا، حتى وإن كان الأمر يتعلق بالوعي!

إسراء نزال 1
إسراء نزال (ناشطة اجتماعية ومهندسة كيميائية فلسطينية من جنين)

وإن عدنا إلى الوراء بضع مئات من السنين، سنجد أنّ تطوّر الكتابة إلى أن وصل إلى شكله التقليدي “الورقي”، قد بدأ هذا التطوّر منذ ما قبل بداية الثورة الصناعية.. فقد كانت البداية مع الكتابة على الحجر وأوراق النبات وألواح الطين إلى أن ظهر ورق البردي في مصر والذي شكّل تقدّمًا نسبةً إلى بداية الكتابة..

وعمل الصينيون على تطوير الكتابة إلى أن صنعوا الورق في القرن الأول الميلادي، ومن ثم جاء العرب وأجدوا من علم الصين ومصر ثورةً في صناعة الكتاب الذي نراه اليوم. ورغم تطوّر الكتابة على مدار مئات السنين، لم يُسجَّل تاريخيًّا أنَّ هناك جدالات ومناقشات وتخوّفات من التطور العلمي الكتابي، بل عمل العرب على تطوير أنفسهم من ورق النبات والاستفادة من علم مصر والصين إلى أن صنعوا الكتاب الذي نعرفه اليوم!

السؤال، ما هي الفجوة التي جعلت القراءة تنحصر إمَّا ورقيًّا أو رقميًّا، ومن ثم وأصبح الكتاب ودُور النّشر يبحثون عن إجابة لسؤال: “الكتاب المطبوع والكتاب الرقمي.. صراع أم تكامل”؟

بحثت بين ثنايا السؤال وأسرار التكنولوجيا، لكن وجدت أنني أمام سؤال آخر: هل نحن العرب لدينا نسبة عالية من القرّاء، وهناك نشر عالٍ سواء كان ورقيًّا أم إلكترونيًّا كي يستدعي النقاش حول مصير الكتاب الورقي أمام الرقمي؟

أسئلة كثرة عادت بي إلى تاريخ تطور الكتابة والذي يقول أنّ الكاتب لم يهتم سوى بنقل المعرفة والوعي، بل على العكس كلّما كانت التكنولوجيا بين يديه أيسر، كان الأمر أخفّ على حرفه.. ووجدتُ أيضًا من تاريخ تطوُّر الكتابة، أنّ الأمر لا يتعلق بالكتابة بل بالقراءة في حدِّ ذاتها! خاصة وأنّ حقوق الملكيّة للكاتب سواء كان قد كتب ورقيًّا أم رقميًّا هي حقوقٌ تحتاج إلى عمل قانوني يفعِّل حق الكاتب وحمايته من القرصنة التي قد يتعرَّض لها بسبب ناشر قد نشر مطبوعات كتابه دون علمه أو تناقل رابط كتابه الرقي دون إذنٍ ورقابة، بمعنى أنَّ الكاتب في كل الأحوال يحتاج في كل الأحوال إلى حماية هي غير موجودة بشكل مطلق في الوطن العربي.

إذًا وبالعودة إلى ما قد كتبتُ، فإنَّ الإجابة عن سؤال “الكتاب المطبوع والكتاب الرقمي.. صراع أم تكامل؟”، تكمن في القراءة والقارئ، وتناسي المجيب لمفهوم “الهرمنيوطيقا”، ويُقصد بهذا المفهوم “فن فهم وتأويل الفهم والنّص”، وأعني بذلك أنَّ الأمر الجذري الأعمق يكمن في فهم النص ومحاولة فهم ما أراد الكاتب أن نفهم وهذا الأمر نسبي من قارئ إلى آخر.. بمعنى آخر الأصل هي الكلمة والتي هي المعلومة، المعلومة التي تشكّل مفتاحًا للوعي والنهوض والثقافة والتطوّر.

لكن أمام تراجع القراءة بين العرب بشكل يثير الخوف من مستقبل قد يكون خالٍ من المثقفين والمطوّرين.. مجتمع قد يكون غير قادر على استيعاب الكاتب والقارئ وبالتالي المثقف والمطوّر، هذا إن لم يتم علاج كارثة تراجع القراءة من جذورها لكي يحق لنا النقاش حول الكتاب رقمي أم ورقي! وهنا أكون قد أخبرتكم بالفجوة التي أوجدت أزمة الورقي والرقمي، إنّها القراءة وعدم فهم حقيقة القراءة المتعلقة بالهرمنيوطيقا، وبالتالي تناسي أنَّ الأصل هي الكلمة المكتوبة بغضّ النظر بأيّ تكنولوجيا قد كُتبت. ويبدأ علاج القراءة من المدرسة وصولاً إلى الإعلام الذي بات مُفتقرًا إلى الإعلام الثقافي، ممّا جعل العرب في سجن العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي، مُبتعدًا عن القراءة والثقافة، حتى أصبح الكتاب رقميًّا كان أم ورقيًّا.. أمراً غير مهمًّا!

ومع ذلك، فإنَّ لكلٍّ من الورقي والرقمي ميزاته الخاصة والتي بناءً على حاجة القارئ يتقرّر أيهما أنسب، فملامسة صفحات الكتاب واستنشاق رائحة قد تكون قديمة عند قراءة الكتاب الورقي وكأننا نعيش بضع لحظات مع الكاتب، ميزة لن نجدها في الكتاب الرقمي الذي في المقابل يتيح لنا حمل الكتاب أينما كنا دون شعور في الثقل فقط شريحة رقميّة لا يتجاوز وزنها وزن الريشة إلاَّ أنه يحتاج إلى الشحن بالكهرباء، على عكس الكتاب الورقي الذي كلُّ ما يريده هو أن نمسكه ونقلِّب صفحة بعد فهم سابقتها ما يجعل القارئ يشعر براحة عينيه عند القراءة، وهذا ما لا نجده في الكتاب الرقمي الذي أشعّته تؤثِّر على النّظر، وتجعل القراءة غير مريحة.

وفي حين أن الكتاب الرقمي يوفِّر مساحة كبيرة جدًّا لقارئٍ قد لا يجد في بيته زاوية لإنشاء مكتبة، فإنَّ الكثير من القرّاء يميلون إلى الورقي.. والسبب بسيط هي “النّوستاليجا” وهي آلية دفاع يستخدمها الدماغ عندما يعجز عن التكيّف فيفضّل الماضي والحنين إليه لتحسين المزاج، وهذا ما لا نجده لدى الغرب الذين لم يؤرّقهم الكتاب الرقمي كما قد أرَّق العرب، والسبب هو أنَّ القراءة في حدِّ ذاتها تحتاج إلى علاج، ولست هنا في صدد الحديث عن علاجها، بل ما أعنيه هو أنَّ حنين القارئ إلى تكنولوجيا الزمن الماضي “الكتاب الورقي” هو حنين إلى ماضٍ انفصل عن حاضر.. عاجزين عن التكيّف معه نظرًا إلى عدم وجود قوانين تحمي الكاتب ولا حتى مواكبة للتكنولوجيا.

في الختام، سواءٌ أكان الكتاب ورقيًّا أم رقميًّا.. المعلومة لم تتغيّر، بل ما تغيّر لدينا هو التكنولوجيا. ونحن نحتاج أن نتكيّف معها لكي نتمكّن من استخدامها، وما يحتاج بشكل عاجل أن يتغيّر إلى الأفضل هو معدل القراءة.. كي نتمكّن من حسم الجدل حول إن كانت العلاقة ما بين الكتاب الرقمي والورقي علاقة تكامليّة أم تنافسيّة، لنكتشف في نهاية المطاف أنَّ لكلٍّ منهما ميزات، ولنا أن نختار ما نحتاج.. وعند وقوفنا على عجلة التقدّم في القراءة والثقافة والمعرفة والإبداع لن نخشى حينها كتابًا رقميًّا أم ورقيًّا، بل معلومة نسعى إلى الذوبان في معرفتها.

صراع القوة بين الورقي والإلكتروني.. لمن تكون الغلبة؟!

بقلم: محمد سيد أحمد عقبة – كاتب وباحث لغوي وخبير تربوي من مصر

يبسط الكتاب الإلكتروني هيمنته حاليًا على الساحة الثقافية خاصة بين جيل الشباب والمراهقين، ويعتقد الكثيرون أنّ الكتاب الإلكتروني سيزيل الكتاب الورقي من الساحة عمّا قريب، والدول الأوروبية في مقدمة الركب؛ فإنّ سويسرا تحتلّ المرتبة الأولى عالميًّا في سيطرة الكتاب الإلكتروني على القرّاء، وتليها فرنسا التي أقبل 36 بالمائة من القرّاء فيها على الكتاب الإلكتروني.

محمد سيد أحمد عقبةءس
محمد سيد أحمد عقبة (باحث لغوي وخبير تربوي من مصر)

لا زال الصراع في بدايته من وجهة نظري الشخصية؛ لأنّ الكتب الورقيّة ورائحة الورق ذو الحبر اللامع، وتلك الأغلفة الخشنة التي تزدان بالخطوط الرائعة والرُّسومات الجاذبة هي المسيطرة على عقول وقلوب القرّاء، ولا زال الشّغف موجودًا باقتناء الكتب، ولا زال الحنين إلى امتلاء البيوت بالكتب العامرة والمكتبات الكبيرة والسلاسل العلمية موصولاً حتى يومنا هذا.

لو نظرنا بعين المتأمِّل إلى صناعة الورق لوجدناها تعاني في الفترة الحالية من ركود كبير، ولا زالت الأزمات الاقتصادية العالميّة هي المحركة لهذا الأمر، ومالكو المطابع ودُور النّشر يرفعون الأسعار انطلاقًا من ارتفاع التكلفة الإنتاجية عليهم، ومع كل ذلك الذي يراه مروِّجو الكتاب الإلكتروني.. أكبر دافع لامتلاء الجوّالات والحواسيب والأجهزة اللوحيّة بالكتب الإلكترونية؛ إلاّ أنني أقولها بملء الفيه كل ذلك لا تأثير له على القرّاء، ولا يعدّ مثبّطًا لهم ولا باعثًا على التوقّف عن اقتناء الكتب.

في أبسط تفقّدٍ لمعارض الكتاب في بلادنا العربية، والتي تقام في عدّة دول عربية مثل مصر والجزائر والسعودية والكويت وسلطنة عمان.. لوجدنا مئات الآلاف من الكتب الورقيّة الجديدة تطبع كل عام وتُنشر بكثافة عالية، ولازالت حفلات توقيع الكتب الجديدة والدواوين الشعرية يتقاطر عليها الناس من كل مكان.

كان الجميع يتوقّع أن تحلّ الكتب الإلكترونية والتقنيّة الحديثة محلَّ الكتب القديمة، ولكن خاب الظن، لأنّ سطوة الكتاب الورقي انتصرت في النهاية ولا زال في القمة بفراسخ عدة إن لم يكن بسنين ضوئيّة.

في وطننا العربي إشكالية القراءة نفسها هي المطروحة، حيث أنَّ الدراسات العربية أكّدت بمجملها أن نسبة القراءة في البلاد العربية لا يتجاوز 5 بالمائة، وأنّ الأميّة لم تعد مرتبطة فقط بعدم إجادة القراءة والكتابة فقط، بل توسّعت حتى بين المتعلّمين أنفسهم، لعدم إتقان استخدام التقنية في مواصلة القراءة، وإن كان الأمر فيه تشدّد كبير.

استحوذت الشاشات الرقميّة، التي باتت أساسية وفي متناول كل إنسان، على الكثير الكثير من تفاصيل حياتنا، فجميع بياناتنا وصورنا وتعليقاتنا والرسائل التي تردنا أو تلك التي نرسلها، وحساباتنا المصرفيّة ومواعيدنا القريبة منها والبعيدة، مجدولة عبر تلك الشاشات التي نحملها أينما ذهبنا من دون عناء، بل بلغ الأمر أننا لا نستطيع التحرّك من مكان إلى آخر بمعزل عنها، ولو نسيها أحدنا وخرج من بيته فسيجد نفسه غائبًا عن خارطة العالم إلى أن يعود إليها، كما أنه يستطيع الانتقال بسهولة بالغة بين أسطر الكتاب الرقمي الذي يعكف عليه، وبين شروح وترجمات وتعليقات تتوفر بيسر في المواقع الإلكترونية، التي عرضت لهذا الكتاب.

ومع كلِّ ذلك، فنحن الذين لا زالت قلوبنا معلّقة بالكتاب الورقي الذي تتحسّسه كلّما قرأت وتشعر فيه بالقوة حينما تمسك دفّتيه، تلقيه جانبًا ثم تعود إليه.. لا يحتاج منك إلى إعادة شحن البطارية، ولا تشعر بتيار كهربي يسري في جسمك إذا زادت الساعات التي نمسكها فيه عن الحدّ، بل دائمًا تضعه بين يديك وتنطلق به شاعرًا بالفخر لكونك لا تطالع شاشة هاتف أو آيباد أو جهاز لوحي وأنت تقرأ.

لا زال الفخر بالكتب الورقية والمكتبات المنزلية غالبًا في كل الأوساط الثقافية منها وغير الثقافية، ولا زالت المكتبات العالمية تفخر بكتبها، بل وتعلن دائمًا عن وصول طبعات جديدة من كتب قديمة، ونسخ جديدة لمؤلِّفين جُدد نزلوا ساحة التأليف والإبداع.

ولا زلت أرى بكل حياديَّة وتجرَّد أنَّ سلطة الكتاب الورقي أقوى من سلطة الكتاب الإلكتروني، لأنَّ الورقي يتّسم بالدّيمومة والاستمرار، وعلى الرغم من أن البحث فيه يكون بطيئا لكنه ضروري جدًّا ولا يمكن أن يندثر، في حين أنَّ الكتاب الإلكتروني، على الرغم من تسهيله لعملية البحث وسرعته؛ إلاَّ أنَّ مخاطر الإلكتروني كثيرة، أولها أنَّه مرتبط بجهاز قد يتلف، ومرتبط بالكهرباء الذي قد تنقطع في لحظة حاجتنا للمعلومة، وقد ينكسر الجهاز، وقد يضيع الملفّ، وقد.. وقد.. إلى ما لا حصر له من المشاكل.

للكتاب الورقي حضوره رغم التقدّم المتعاظم الذي يحرزه نظيره الإلكتروني، وهذا الحضور يُعزى إلى الجانب النفسي أكثر من الدّور المعرفي الذي كان يؤدّيه الكتاب الورقي تقليديًّا.

لقد وفَّر الكتاب الإلكتروني حلولاً عبقرية لكثير من المشكلات التي كان يعاني منها سلفه الورقي، فقد تمكَّن من تخطي حواجز الحدود والرقابة والانتشار برشاقة لا يمكن أن يطمح إليها الكتاب الورقي. كما وفَّر إمكانيات خياليَّة تتعلق بالبحث عن كلمة محددة وحصر تكرارها وأعدادها.. وكذلك الأرشفة والتخزين، ممَّا وفَّر الجهد والعناء والوقت.

وكذلك الناشرون فلا شك أنّه يواجه تحديّات لا يُستهان بها في ظلّ المتغيّرات التي يشهدها العالم، ولا سيما الدول العربية، من انعدام الاستقرار والفوضى الأمنية والفكرية الضاربة بالإضافة الى العوائق الجمركية والرقابية..

ينبغي على كل ناشرٍ أن يطوِّر إمكانياته وطريقة تعامله مع الجمهور من الكتّاب والقرّاء، إن أراد أن يحافظ على دوره وسيطًا بين الطَّرفين. هذا الدور أدَّى تاريخيًّا خدمةً كبرى في نقل المعرفة ونشرها، لكنه أيضاً كان في بعض الأحيان عقبة ووسيلة لتضييق حرية الرأي.

الكتاب الورقي يظل قائمًا بذاته، ليس لأهميّته فحسب، بل لأنَّه جزء لا يتجزّأ من ديمومة القراءة نفسها، فطالما هنالك من يقرأ، فستظل دُور النشر تطبع وتوفّر الكتب الورقيّة للمكتبات.

في النهاية لا بدّ أن نعترف بأنّ الكتاب خير جليس، وأفضل أنيس، وهو نِعْمَ الذُّخر والعدة، ونِعْمَ المؤنس ساعة الوحدة. ونردّد معًا قول “المتنبي” شاعر العربية الكبير:

أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ — وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا